الشاعر الأديب / حسام أبو صالحة
|
مَا أجْمَلَ الحُبَّ المُتَجَرِّدَ عَنِ الانْتِفَاعِ! وَمَا أَرْرَعَهُ نَأيًا عَنِ الأنَامَالِيَّةِ ، وَالخِدَاعِ! ، ذَاكَ الحُبُّ المُتَكَاثِرُ خَيْرًا كَالغَيْثِ المِدْرَارِ الوَاقِعِ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ لِكُلِّ شَيءٍ نَافِعٍ؛ فَمَا أَخْيَرَ مِنْ أنْ يُحِبَّ الإنْسَانُ لَيْسَ لِغَرَضٍ سِوَىٰ أنَّ قَلْبَهُ نَابِضٌ بِالوَجْدِ، فَائِضٌ بِالمَحَبَّةِ ، نَابِعٌ بِالمَوَدَّةِ، جَوَّادٌ بَالعَطَاءِ ، سَخِيٌّ بِالكَرَمِ ، فَوَّاحٌ بِالعِشْقِ، مُتَيَّمٌ بالإيثَارِ !
وَمَا أنْبَلَ أنْ يَعْشَقَ الإنْسَانُ تَرَابَ أَرْضِهِ، وَدُرُوبَ وَطَنِهِ ، وَنَسِيمَ بَلَدِهِ ، وَعَبَقَ التَّارِيخَ بِقَرْيَتِهِ المُتَجَذِّرِ بِأعْمَاقِ نَفْسِهِ ، المُتَأصِّلِ بِسِمَاتِ وَجْدِهِ !
الاسْمُ / عَلِيٌّ فَارِسٌ ،،،
شَابٌّ عُمْرُهُ سَبْعَة عَشَرَ عَامًا مِنَ النَّماذجِ المُشْرِقَةِ، والمُشَرِّفَةِ بِقَرْيَةِ شَبْشِيرَ الحِصَّةِ إحْدَيٰ قُرَىٰ مُحَافَظَةِ الغربيةِ
التابعةِ لمركزِ طنطَا بجمهوريةِ مصرَ العربيةِ ، امتزجَ كيانُهُ بكينونَةِ قريتهِ، وذابَ وجدُهُ بدروبِهَا، وحواريها، وشوارِعِها ومنعطفاتِها، لمْ تُعْطِهِ قَريَتَهُ الكَثِيرَ نَظَرًا لِوُعُورَةِ الحَيَاةِ ، وَقَسَاتِها، وَشَظَفِ المَعِيشَةِ بِهَا، لَٰكِنَّهُ الكَرِيمُ الأَبِيُّ الذي يُعطِي عَطِيَّتُهُ بِلَا ثَنَاءٍ ، وإنْ غَلا به الثَّمَنَا؛ فَهُوَ الكريمُ الذي يُعطِي عَطِيَّتُهُ لِغَيْرِ شَيءٍ سِوَىٰ اسْتِحْسَانِهِ الحُسْنَا.
-إنَّهُ المُحِبُّ لِقَرْيَتِهِ رُغْمَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ ، وَقُرْبِ عَهْدِهِ حُبًّا بِلَا مُقَابِلٍ، العَاشِقُ عِشْقًا بِلَا مُسَاوَمَةٍ ؛ إذْ بقَلْبِهِ مَشَاعِرَ جارفةً ، وَمَحَبَّةً لِقَرْيَتِهِ وَارِفَةً، فَالحُبُّ بِالنِّسْبَةِ لَهُ لَيْسَ كَلَامًا يُحَرِّكُهُ اللِّسَانُ ، بَلْ عَمَلٌ، وَجَهْدٌ نَابِعٌ مِنْ عَمَلِ الأركَانِ ، وَأنَامِلِ ، وَرِيشَةِ ذَاكَ الفَتَىٰ الرَّاقِيَ الفَنَّانَ ؛ فَقَدْ عَزَمَ عَلِيٌّ أنْ يُحَوِّلَ حَوائِطَ شَوَارِعِ قَرْيَتِهِ، وَأفْنِيَةِ مَدَارِسِهَا، وجُدْرَانِ مَشَافِيهَا، وَبَعْضِ بُيُوتِها إلىٰ لَوْحَةٍ فَنِّيَّةٍ ، وَتَابْلُوهَاتٍ رَسْمِيَّة رَائِعَةِ الشِّكلِ، فَائِقَةِ الوَصْفِ ، رَائِقَةِ الحُسْنِ ، مُتَفَرِّدَةِ الجَمَالِ كَأَنَّهَا حَدِيقَةٌ غَنَّاءُ بِأنَامِلِ يَدِهِ التِي تُوزنُ بِمِيزَانٍ مِنْ أنْفَسِ المَوَازِينَ ، وأثْمَنِهَا، وأقْيَمِهَا؛ حَيْثُ قَامَ بِتَزْيينِ جُزْءٍ مِنَ الشَّوَارِعِ، وَوَضَعَ لَمَسَاتِهِ الفنِّيَّةِ البَدِيعَةِ ، مِنْ رُسُومَاتٍ رَمَضَانِيَّةٍ؛ لِتَجْمِيلِ جُدْرَانَِ الشَّوَارِعِ، وَتَحْوِيلِهَا إلىٰ لَوْحَاتٍ فنِّيَّةٍ ، إحْتِفَاءً بِشَهْرِ رَمَضَانَ، وإضْفَاءَ أجْوَاءَ مِنَ البَهْجَةِ، وَالسَّعَادَةِ بِالأنْفُسِ.
-هَذَا الشَّابُّ يُعطِينَا أمَلًا بِالحَيَاةِ ، وَقِيمَةً بِالوُجُودِ ، وَبَصْمَةً بِالتَّوَاجُدِ ، وَتَفَاعُلًا بالتَّشَارُكِ، عَطَاءَ المُتَفَاني، فَهُوَ عَيْنٌ أبَتْ إلَّا أنْ تَرَىٰ وَطَنَها المُتَمََثِّلِ فِي صُورَةِ قَرْيَتَِهُ الصَّغِيرَةَ بِخَارِطَةَ الدُّنْيَا الكَبِيرَةَ أجْمَلَ قَرْيَةٍ ، وَأبْهَىٰ بَلْدَةٍ ، حَتَّىٰ، وَلَوْ جادَ بِمَا يَمْتَلِكُُ مِنْ مَوَاهبَ ، وإبْدَاعَاتٍ مَعَ ضُعْفِ إمْكَانَاتِهِ ، وَنُدْرَةِ مَوَارِدِهِ، لَٰكِنَّهُ يَمْلِكُ مَا عَزَّ، ونَدَرَ، وغَلَا عِنْدَ الكَثِيرِ مِنَّا ألَا، وَهُمَا قَلبُ المُحِبُّ الإنْسَانَ ، وَرِيشَةُ الشَابِّ الفَنَّانَ .
-لَقَدْ نَثَرَ بِرِيشَتِهِ البَسِيطَةَ رُسُومَاتٍ شَتَّىٰ ، وَصُوَرَ لِشَخْصِيَّاتٍ رَمَضَانِيَّةٍ، مِثْلَ (عَمُّو فُؤَاد) لِلْفَنَّانَ فُؤَادُ المُهَنْدِسِ، وَشَخْصِيِّاتٍ كَرْتُونِيَّةٍ لهَا بِأنْفُسِ الكِبَارِ ، وَالأطْفَالِ تَعَلُّقًا، وَتَقْدِيرًا، مِثْلَ ( دِيَاسْطِي، وَبَسَنْتُ ، وَبُوجِي، وَطَمْطَمْ ، وَالمِدفَعُ ، والفَانُوسُ، وَبَكَّارُ، والشَّابُّ السَّمِينُ أيْقُونَةُ رَمَضَانَ ) وَقَدْ أبْدَعَ بإضفَاءِ البَهْجَةِ، وَإشَاعَةِ السُّرُورِ بِأنْفُسِ الجَمِيعِ مِنْ أهْلِ قَرْيَتِهِ مِمَّنْ يَرَوْنَ تلك اللوحات غَدْوَةً، وَرَوْحَةً أمَامَ أعْيُنِهِمْ عِنْدَ مُرُورِهِمْ بِهَا، مِمَّا حَدَا بِالكُلِّ الثَّنَاءَ الجَمِيلَ عَلَيْهِ بِمَا صَنَعَتْ يَدَيْهِ ؛ حَيْثُ غَاصَ بِعُمْقِ بَلْدَتِهِ حَتَّىٰ يَرَاهَا فِي أبْهَىٰ صُورَةٍ، وَأفْضَلِ مَنْظَرٍ، فَالغَوْصُ بِالمَحَلِّيَّةِ، وَالتَّفَانِي بِالأعْمَاقِ، وَالجُذُورِ أسَاسُ الوُصُولِ لِلْعَالَمِيَّةِ، فاسْتَحَقَّ مِنِّي، وَمِنْ كُلِّ مُنْصِفٍ تَسْلِيطَ الضَّوْءِ عَلَيْهِ ؛ فَهُوَ نَمُوذَجٌ يَسْتَحِقُّ التَّكْرِيمَ، وَلَوْ كَانَ أمْرُ تَكْرِيمِهِ بِيَدِي لَمَنَحْتُهُ وِسَامَ الدَّوْلَةِ مِنَ الدَّرَجَةِ الأُولَىٰ ، أوْ قِلَادَةَ النِّيلِ العُظْمَىٰ ؛ فَهُوَ لَا يَقِلُّ قَدْرًا عَمَّنْ نَالُوهَا، بَلْ يُزِينُ تَوَاجُدُهُ مَنِ اسْتَحَقُّوهَا، وَيْكَأنَّ ابنَ هَانِئٍ الأنْدَلُسِيِّ يُثْنِيهِ خَيْرًا؛ لِحُسْنِ مَا فَعَلَ ، وَطِيبِ مَا عَمَلَ بِقَوْلِهِ :
يَا ابنَ السَّدَىٰ والنّدىٰ والمعْلُوماتِ مَعًا
والحِلمِ والعلمِ والآدابِ وَالحِكَمِ .
لو كُنْتُ أُعْطَى المُنى فيما أُؤمّلُهُ
حَمَلْتُ عَنكَ الذِي حُمِّلْتَ مِنْ ألَمِ.
-فَالعَطَاءُ دُونَ انْتِظَارٍ لِمَدْحٍ ، أوْ إطْرَاءِ لسَعَادَةٍ ، وَفَرَحٍ ، لَهُ سُرُورٌ لَا يُوصَفُ ؛ فَتَقْدِيمُ الوُرُودِ يُبْقِي بِاليَدِّ عِطْرُهَا، وَإنْ فَنَيٰ الوَرْدُ بِهَا ؛ فَيَبْقَىٰ أثَرُهَا الطَّيِّبُ، وَرَائِحَتُهَا العَطِرَةُ، وَذِكْرَاهَا النَّدِيَّةُ ، فَالمُعْطِي تَحْيَا نَفْسُهُ بَذْلًا بِالعَطَاءِ ؛ لِأنَّ الامْتِنَاعَ عَنِ العَطَاءِ سَبِيلُ الفَنَاءِ ؛ فَهُوَ يُعْطِي دُونَ طَلَبٍ مِنْ أحَدٍ بِالمَدَدِ؛ إذْ العَطَاءُ دُونَ طَلَبٍ أعْظَمُ، وَالمَحَبَّةُ دُونَ مُقَابِلٍ أرْوَعُ، عِلْمًا بِأنَّ كَثْرَةَ العَطَاءِ لَا تُفْقِرُ نَفْسًا، وَلَا تُفْنِي بَدَنًا؛ فَلَمْ يَجْلِبُ العَطَاءُ فَقْرًا عَلَىٰ أحَدٍ أبَدًا، فَكُلَّمَا أعْطَيْتَ بِلَا مُقَابِلٍ ، كُلَّمَا رُزِقْتَ بِلَا تَوَقُّعٍ، فَتَقْدِيمُ الخَيْرِ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ ، سَيُفْصِحُ عَنْكَ عَمَلُكَ مُسْتَقْبَلًا بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ ؛ فَسَعَادَتُنَا تَبْدَأ دَاخِلَنَا، قَبْلَ ظَاهِرِنَا، وَأنَّ سَعَادَتَنَا حِينَمَا نُعْطِي رُبَّمَا تَفُوقُ سَعَادَتُنَا فِيمَا يُعْطِيهِ لَنَا الآخَرِينَ .
-فَالعَطَاءُ يَحْتَاجُ إلىٰ رُقِيٍّ فِي الإنسانِ ؛ لِأنَّ مُعْظَمَ الخَلْقِ يُحِبُّونَ أنْفُسَهُمْ فَحَسَب، وَإنَّمَا يَبْدَأ الإنْسَانُ بِالخُرُوجِ مِنْ ذَاتِهِ ، وَحُبِّ الآخَرِينَ كُلَّمَا ارْتَقَىٰ عِلْمُهُ، وَنَضُجَتْ شَخْصِيَّتُهُ، وَوِجْدَانُهُ ، فَقِمَّةُ العَطَاءِ لَا تَكَمْنْ فِي بَذْلِ اليَدِّ بالإعْطَاءِ ، بَلْ فِي مُجَرَّدِ إحْسَاسِكَ أنْتَ؛ بِأنَّكَ تُسْعِدُ مَنْ تُعْطِهِمْ ؛ فَتَعْلُوا الفَرْحَةَ بِوُجُوهِهِمْ ، وَتُرْسَمُ الابْتِسَامَةُ بِشِفَاهِهِمْ ، وَالرِّضَا بِأعْيُنِهِمْ ، حَتَّىٰ ، وإنْ كَانَ العَطَاءُ مُتَوَاضِعًا، وَقَلِيلًا، لَٰكِنْ عَسَاكَ أنَّكَ جُدْتَ بِكُلِّ مَا لَدَيْكَ ، وَأعَزَّ مَا عَلَيْكَ ، بِرُغْمِ بَسَاطَتِهِ ، إلَّا أنَّ المُحِبَّ إذَا مَنَحَ فَلَا يَزِنُ مِنْحَتَهُ ، وَلَا يُقَدِّرُ عَطِيَّتَهُ ؛ فَهُوَ يُقَدِّمُ بِلَا حِسَابٍ ، وَلَا ثَوَابٍ ، كَمَا أنَّهُ لَا يَبْغِي بِهَا مَنًّا، وَلَا ثَنَاءً، ويْكَأنَّ حَالَهُ يَصِفُهُ لَنَا ابنُ الرُّومِيِّ بِقَوْلِهِ :
لَيْسَ الكَرِيمُ الذِي يُعْطِي عَطِيَّتَهُ
عَلىٰ الثَّنَاءِ وإنْ أغْلَىٰ بِهِ الثَّمَنَا
بَلِ الكَرِيمُ الذِي يُعْطِي عَطِيَّتُهُ
لِغَيْرِ شَيءٍ سِوَىٰ اسْتِحْسَانِهِ الحَسْنَا
لَايَسْتَثِيبُ بِبَذْلِ العُرْفِ مَحْمَدَةً
وَلَا يَمُنُّ إذَا مَا قَلَّدَ المِنَنَا
حَتَّىٰ لَتَحْسَبَ أنَّ اللّٰهَ أجْبَرَهُ
عَلَىٰ السَّمَاحِ وَلَمْ يَخْلُقْهُ مُمْتَحَنَا.
-تَحِيَّاتِي، وَتَقْدِيرِي لِلشَّابِّ المُخْلِصِ الفَنَّانِ ؛ لِبَصْمَتِهِ البَاقِيَةِ بِأقْبِِيَةِ المَسَاجِدِ ، وَأفْنِيَةِ المَدَارِسِ ، وَالنَّوَادِي، وَالجُدْرَانِ ، ومَنْ عَليٰ شَاكِلَتِهِ ؛ فَقَدْ جَعَلَ بَلْدَتَهُ تَاجًا فَوْقَ رَأسِهِ ، وَوَضَعَ قَرْيَتَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ ، وَحَمَلَهَا بمُقْلَتَيْهِ ؛ فَاسْتَحَقَّ أنْ يُوضَعَ بِالقَلْبِ، وَالعَقْلِ مَعًا.
أقرأ أيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق