الشاعر الأديب / حسام أبو صالحة
ليسانس آداب وتربية - كلية التربية - قسم دراسات إسلامية- جامعة الأزهر رئيس قسم الدراسات العليا والعلاقات الثقافية بكلية الهندسة جامعة طنطا. ابن شبشير الحصة. طنطا
نَسَبُهَا:
آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الرَّيَّانِ بْنِ الْوَلِيدِ، الَّذِي كَانَ فِرْعَوْنَ مِصْرَ فِي زَمَنِ يُوسُفَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سِبْطِ مُوسَى. وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ عَمَّتَهُ. حَكَاهُ السُّهَيْلِيّ،
صَاحبةُ الخُلقِ العَميمِ ، والقلبِ الرحيمِ ،وليسَ أَدَلُّ عَلَىٰ رَحمَتِهَا مِنْ التِقَاطِهَا عَنْ طَرِيقِ جَوَارِيهَا لِسَيِّدِنَا مُوسَىٰ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -وَتَربِيَتِهَا لَهُ ، وَاتِّخَاذِهَا إيَّاهُ وَلَدًا لَهَا، وَصَيْرِهِ قُرَّةَ عَيْنٍ بِهَا ، وَحِمَايَتِهِ مِنْ الذَّبْحِ، وَصَوْنِ دَمِهِ مِنَ السَّفْحِ قالَ اللهُ تَعَالَىٰ، وهُوَ أصدَقُ القائلِينَ، وحَكَمَ، وَهُوَ أَعدَلُ الحَاكِمِينَ {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} ٨ القصص.
ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْجَوَارِيَ الْتَقَطْنَهُ مِنَ الْبَحْرِ فِي تَابُوتٍ مُغْلَقٍ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْنَ عَلَى فَتْحِهِ، حَتَّى وَضَعْنَهُ بَيْنَ يَدَيِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ ; آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمِ؛ فَلَمَّا فَتَحَتِ الْبَابَ وَكَشَفَتِ الْحِجَابَ، رَأَتْ وَجْهَهُ يَتَلَأْلَأُ بِتِلْكَ الْأَنْوَارِ النَّبَوِيَّةِ وَالْجَلَالَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ وَوَقَعَ نَظَرُهَا عَلَيْهِ أَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا. "البداية و النهايةلابن كثير - 555/13099".
-لقد توافرَ لَهَا كُلُّ أسبابِ الرفاهيةِ، والمتعِ الدنيويةِ منَ الجاه،ِ والعِزِّ، والسلطانِ ؛ فهيَ زوجةُ ملكٍ منْ أغنيٰ ملوكِ مصرَ ، وأشَدُّهمّ بأسًا ، فَالأنهارُ تجري من تحتهِ، ولهُ العروشُ والمقامُ الكريمُ ، وفي خدمتِها الجواريَ، والخَدمُ، والحشمُ ، والأموال، وسائرُ كنوزِ الأرضِ تحتَ يَدِهَا، وفي سطوتِها، والقصورُ الفاخرةُ ، والأسِرَّةُ الناعمةُ الماتعةُ .
-سيدةٌ يُضربُ المثلُ بها في القرانِ بالإيمانِ الصادقِ، واليقينِ الواثقِ، والصبرِ الدافقِ، والرسوخِ اللائقِ لسائرِ الخلقِ ذكورًا، وإناثًا : "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" التحريم ١١.
سيدةٌ هيَ من أخْيَرِ نساءِ العالمينَ بالدُّنيا والآخرةِ؛ ففي الآخرةِ هىَ منْ أفضلِ نساءِ الجنةِ الأربعِ آسيةُ بنتُ مُزاحمٍ،
فعنِ ابنِ عباسٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلَّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ - خطَّ أربعةَ خطوطٍ ، ثمَّ قالَ : أتَدرونَ لمَ خططتُ هذِهِ الخطوطَ ؟ قالوا : لا . قالَ : أفضَلُ نساءِ الجنَّةِ أربعٌ : مريمُ بنتُ عمرانَ ، وخديجةُ بنتُ خوَيْلدٍ ، وفاطمةُ بنتُ محمَّدٍ ، وآسيةُ ابنةُ مُزاحمٍ . رضي الله عنهن أجمعين.
المحدث : الوادعي | المصدر : الصحيح المسند، الصفحة أو الرقم: 590 | خلاصة حكم المحدث : صحيح.
-وأما بالدنيا فإمرأةٌ قلَّ الزمانُ أن يجودَ بمثلها وشبيهها، ونظيرِها اللَٰهُمَّ إلا ما كَمُلَ من ثلاثِ نسوةٍ جئنَ بعدَها، وهىَ بذلكَ تختلفُ عن نساءِ العالمينَ كُلِّيَّةً، وإنْ تَشاركنْ معها في بعضِ الخِلالِ ، ونُدرةٍ منَ الصفاتِ فَكَفَّةِ الميزانِ راجِحَةٌ لها بالثقلِ ، وعائدةٌ عليها بالنفاسةِ، وعلوُّ القيمةِ، وارتفاعِ القامةِ، وغلوُّ الثمنِ يقولُ المُتَنَبِيُّ:
رأيتُكَ في الّذينَ أرَى مُلُوكاً كأنّكَ مُسْتَقيمٌ في مُحالِ.
فإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنْتَ مِنهُمْ فإنّ المسكَ بَعضُ دَمِ الغزالِ.
- فقد كَمُلَ منَ الرجالِ الكثيرُ، والكثيرُ، لَٰكِنْ لمْ يَكْمُلْ منَ النساءِ إلا أربعًا فعنْ أنسٍ رضىَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ :"حَسبُكَ منْ نساءِ العالمينَ مريمُ ابنةُ عمرانَ، وخديجةُ بنتُ خُوَيلدٍ ، وفاطمةُ بنتُ محمدٍ ، وآسيةُ امرأةُ فرعونَ" .أخرجه الترمذي (3878)، وأحمد (12414) باختلاف يسير، وابن حبان (7003) واللفظ له.
وعن أبي موسى رضيَ اللهُ عنهُ قالَ : "قالَ رسولُ اللهِ ﷺ كَمُلَ منَ الرجالِ كثيرٌ، ولمْ يَكْمُلْ منَ النساءِ إلا آسيةَ امرأةَ فرعونَ، ومريمَ بنتَ عمرانَ، وإنَّ فضلَ عائشةَ علىٰ النساءِ كفضلِ الثريدِ علىٰ سائرِ الطعامِ .رواه البخاري ( 3230 ) ومسلم ( 2431 ) .
-إمرأةٌ تعدلُ أممًا سابقةً ولاحقةً، قد كَمُلَتْ تَدَيُّنًا، ورحمةً، وثقةً في اللهِ الخالقِ، ورجاحةً بالعقلِ ، وثقةً بالنفسِ ، ونُصرةً للحقِّ، وثباتا عليهِ ، ورباطةً بالجأشِ، وصبرًا، وتَحَمُّلًا للأذىٰ، وزهدًا في الدنيا الفانيةِ بمتاعها الزائفِ الزائلِ ، وتمسكًا بالآخرةِ الباقيةِ بمتاعها الثابتِ الباقي تصديقًا لقولِ اللهِ تَعالىٰ" قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧ النساء)
وقوله تَعالىٰ " وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٣٢ الأنعام )
-يُعَلِّمُ القرآنُ كثيرًا من مُدَّعِي الرجولةِ معنىٰ الرجولةِ، والبطولةِ الحقَّةِ فيضربُ لهم القدوةَ، والمثلَ بامرأةٍ ، ولَٰكنَّها ليستْ كأيِّ امرأةٍ ، إنَّها آسيةُ بنتُ مُزاحمٍ، إمرأةٌ قِمَّةُ علوها أنها أنثيٰ، ومؤمنةٌ، وشهيدةٌ لأفجرِ أهلِ الأرضِ وأطغاهُمْ وأظلمِهِمْ، وأعتاهُمْ يقولُ المُتَنَبِيُّ:
ولوْ كانَ النّساءُ كمَنْ فَقَدْنا لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ.
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ عَيبٌ ولا التّذكيرُ فَخْرٌ للهِلالِ.
وأفجَعُ مَنْ فَقَدْنا مَن وَجَدْنا قُبَيلَ الفَقْدِ مَفْقُودَ المِثالِ.
-وَعَلىٰ الرُّغمِ منْ أنَّ البيئةَ المحيطةَ لها أثرٌ في صلاحِ الفردِ وطلاحِهِ ، واستقامتِهِ، واعوجاجِهِ يقولُ أبو العلاءِ المَعَرِّيِّ:
وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ.
وَما دانَ الفَتى بِحِجىً وَلَكِن يُعَلِّمُهُ التَدَيُّنَ أَقرَبوهُ.
فالمرءُ يولدُ علي الفطرةِ السليمةِ، والمعرفةِ القويمةِ الموحدةِ للهِ، لَٰكِنَّ بيئتَه القريبةَ منه تُغَيِّرُ فطرتَهُ السليمةَ إلي مَا عَهِدَتْهُ ، وما ألفتْهُ، حتَّي، وإنْ كانتْ فطرةُ البيئةِ باطلةً ، فعنْ أبي هريرةَ - رضيَ اللهُ عنهُ - قالَ : "كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه" المحدث : ابن حبان | المصدر : صحيح ابن حبان | الصفحة أو الرقم : 129 | خلاصة حكم المحدث : أخرجه في صحيحه.
-إلا أنَّ البيئةَ المحيطةَ بكلِّ مفاتِنِهَا، ومباهجِهَا، وزينتِها، وتفاخُرِهَا قد أثَّرَتْ فيها علي خلافِ المعهودِ ، ولمْ تدفعها حتمًا إلي الوردِ المورودِ ؛ فلمْ تجرفْها للباطلِ ، ولمْ تطمسِ الحقَّ بقلبِها، ولمْ تصرفِ الصدقَ بعينِها، وإنْ دفعتْ نَفْسَ البيئةِ كلُّ المحيطينَ بها إلي خِلافِ فِعلها ، لَٰكنْ دفعها إيمانُها إلي مواجهةِ الباطلِ، حتي، ولوْ تجَسَّدَ بزوجِها؛ فلمْ يرجِعْها عنِ الإيمانِ باللهِ كونُ الفرعونِ زوجَها، وأقربُ الناسِ لقلبِها، ونفسِها، كما لمْ يَصرفِ الفرعونَ عنْ تعذيبِهَا، والتنكيلِ بها، حتي وَصَلَ لقتلها كونُها زوجتَهُ ، وحبيبَتَه، وأقربُ المقربينَ إليهِ ، وأعزُّ الناسِ لديهِ ، لَٰكنَّهُ العرشُ ، والكرسيُّ، والنفوذُ الذي يستترُ منْ خلفهِ أبالسةُ الإنسِ قبلَ الجنِّ يُزَيِّنُونَ الخُلدَ للحاكمِ ، وَيُعلُونَ قدرَه حتي يصلَ لإرغامِ الناسِ بعبادتهِ حتي يصلَ لمرحلةٍ يقولُ بها لهمْ في جنونٍٍ من الكبرِ، وزُهانٍ من العظمةِ بلا عقلٍ ، ولا تفكرٍ ، ولافكرٍ " أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ" ٢٤ النازعات.
فكلُّ ما يراهُ حقًا، وإن كانَ عينُ الباطلِ، وهوَ السبيلُ الوحيدُ للرشادِ ، والطريقِ الواصلِ للنجاةِ بالعبادِ ، وإنْ كانَ هوَ طريقُ الهلكةِ ، والشقاءِ ، والعنادِ ، والأعجبُ منْ هذا أنَّ ما يراهُ ليسَ لهمْ طرحهِ برفضِهِ، ولا مَجَالَ بإعمالِ العقلِ فيهِ لنقدهِ ، بلْ هوَ ملزمٌ للجميعِ أخذُهُ "قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" (٢٩ غافر)
-إمرأة لم يفتنْها مُلكُ زوجِها،وثرائِه، ولمْ يصرفْها مالَه، وجاهَه، وسلطانَه عن مناصرةِ الحقِّ، بلْ قالتْ لهُ : "مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦ النحل)
فلمْ يردعهَا ذعرًا، ولم يُخِفْهَا رعبًا، ولم يجبرها تَسَلُّطًا ،ولمْ يقهرها بطشًا، ولمْ يُطغِ عليها إلا زيادةً بصبرها، وقوةً في إيمانها حتيٰ وإنْ نَالهَا منهُ بالغَ التعذيبِ ، وفائقَ الترهيبِ كيفَ لا؛ فقد نالَ الكثيرُ والجمعُ الغفيرُ مِنهُ الأذيٰ، إذ ليسَ بني إسرائيلَ بذبحِ أطفالهمْ، واستحياءِ نسائهِمْ والتفرقةِ بينَ الخلقِ بجعلهمْ أحزابًا، وشيعًا منَ الفرعونِ ببعيدٍ قالَ تعالىٰ " إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" (٤ القصص)
-وهِيَ ليستْ بأقلِّ ممَّنْ آمنَ منهمْ ونالهُ ما نالهُ منْ بطشهِ، وظلمهِ؛ إذ كانتْ توقنُ بأنَّها إنْ لمْ تمتْ بالسيفِ ماتَتْ بدونهِ فلكلِّ أجلٍ كتابٌ قالَ اللهُ تَعالىٰ :" أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ ٧٨ النساء".
يقولُ ابنُ نُباتةَ السَّعْدِيُ :
ومن لم يمتْ بالسيفِ ماتَ بغيرهِ تعدّدتِ الأسبابُ والموتُ واحدٌ.
فلمَّا لامَسَ الإيمانُ قلبَها آمنتْ باللهِ الواحدِ الخالق الرازقِ لا يخالطُ إيمانَها شكٌّ فتُقِرُّ لسيدنا موسي بالنبوةِ، وتصدِّقُ برسالتهِ، وأخيِه هارونَ فتعادي زوجَها تاركةً عبادتهُ لتعبدَ اللهَ تعالىٰ خالقَه؛ إذ هيَ أكثرُ الناسِ معرفةً بضعفِ زوجِها، ووهنهِ ؛ فلا يملكُ شيئًا منْ أمرِ شأنهِ لا لنفسهِ فضلًا عنْ سواهُ من غيره فهوَ مَخلُوقٌ يحتاجُ لمنْ يطعمهُ، ويسقيهِ، ويُميتهُ ثُمَّ يُحييه؛
فعن القاسم بن أبي بَزَّة، قال: كانت امرأة فرعون تسأل مَنْ غَلبَ؟ فيُقَالُ: غَلبَ موسى وهارونُ، فتقولُ: آمنتُ بربّ موسىٰ وهارونَ؛ فأرسلَ إليها فرعونُ، فقالَ: "انظروا أعظمَ صخرةً تجدونها، فإنْ مضتْ على قولِها فألقوها عليها، وإنْ رجعتْ عن قولهِا فهي امرأتُه"؛ فلما أتوها رفعتْ بَصرهَا إلى السماءِ؛ فأبصرتْ بيتها في السماءِ؛ فمضتْ على قولهِا؛ فانتزعَ اللهُ روحها، وألقيَتْ الصخرةُ علىٰ جسدٍ ليسَ فيهِ روحٌ.
وعنْ سلمانَ الفارسيِّ، قالَ : "كانتْ امرأةُ فرعونَ تُعَذَّبُ بالشمسِ ، فإذا انصرفَ عنها أظلَّتْها الملائكةُ بأجنحتِها، وكانتْ ترىٰ بيتَها في الجنةِ".
وعنْ أبي رافعٍ قالَ : "وتدَ فرعونُ لامرأتهِ أربعةَ أوتادٍ، ثُمَّ حَمَلَ علىٰ بطنِها رَحًا عظيمةً حتىٰ ماتتْ" .
وهي امرأة واحدة ضعيفة، ووحيدة في مملكة عريضة قوية، وهذا فضل لَهَا ولكنَّ المرأةَ وحدهَا في وسطِ ضغطِ المجتمعِ، والقصر، المَلِك، والحاشيةِ، وَبِخِضَمِّ كُلِّ هَٰذَارفعت رأسهَا إلى السماءِ وحدَها بِوَسَطِ هذا الكفرِ الطاغِي!
ثمَّ تَدعو ربَّها فتناجيهِ شاخصةً بصرَها للسماءِ تناديهِ قائلةً : ﴿ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ﴾ أي أنقذني من عذاب فرعون، ومن أن أعمل عمله، وذلك كفره بالله ؛ ثم تستكمل رجاءها لله، ودعاءها فَتَقُولُ : ﴿ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي وأخلصني، وأنقذني من عمل القوم الكافرين بك، ومن عذابهم.
فَعن أبي هريرة رضى الله عنه: (إن فرعون أوتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها، فكان إذا تفرِقوا عنها ظللتها الملائكة، فقالت: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11]، فكشف لها عن بيتها في الجنة".
قال القشيري رحمه الله تعالى: ( طلبتْ بيتًا في الجنةِ، وكانَ من حقّها أن تطلبَ الكثيرَ كما توهّموا: فإنها قالتْ: ربّ ابن لي عندك، فطلبت جوار القربة، ولبيتٌ في الجوارِ (أي جوارُ اللهِ تعالىٰ) أفضلُ من ألفِ قصرٍ في غيرِ الجوارِ ، ومنَ المعلومِ أنَّ العنديَّة هنا عنديةُ القربةِ والكرامةِ، ولكنه علىٰ كلِّ حالٍ بيتٌ لهُ مزيةٌ علىٰ غيرهِ، ولهُ خُصوصيةٌ،
ودعاء امرأة فرعون وموقفها مثل للاستعلاء على عرض الحياة الدنيا في أزهى صورة، فقد كانت امرأة فرعون زوجة أعظم ملوك الأرض يومئذ، وفي قصر هو أمتع مكان تجد فيه امرأة ما تشتهي، ولكنها استعلت على هذا بالإيمان، بل وَطَلَبَتْ النجاة منه!
فلم تبال بعذابها فالقتلُ في سبيلِ اللهِ شرفٌ، وشهادةٌ وحياةٌ أبديةٌ بدارٍ أبقيٰ، وأطهرَ منْ تلكَ الدارِ الفانيةِ يقولُ المُتنبيُّ:
رَماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتى فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبالِ.
فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ.
وهانَ فَما أُبالي بالرّزايا لأنّي ما انْتَفَعتُ بأنْ أُبالي.
إمرأةٌ وحدَها وبقمِّةِ ضَعفها، وشدةِ وهنِها تواجهُ الفرعونَ، وهو في قمِّة سطوتهِ ، وطغيانهِ ، وشدة جبروتهِ ، وعدوانهِ لجديرةٌ بثناءِ ربِّ العالمينَ عليها، وتكريمِ خيرِ المرسلينَ لديها، وأن يُسَطِّرَ التاريخُ، والسِيَرُ اسمها، بمدادٍ من نورٍ، وحبرٍ من ذهبٍ ، وأن يمحوَ مآثرَ الفرعونَ فلا يُذكَرُ سوي غَيِّهِ، وبطشهِ، وأخذِ اللهِ تعالىٰ لهُ أخذَ عَزيزٍ مُقتدرٍ بعدَ استفحالِ ظلمهِ ؛ فقد أجريٰ اللهُ تعالىٰ الماءَ من فوَقهِ هوَ، ومَنْ شايعهُ، وأيدَّه مِنْ حُنْدِهِ ، يقول ابو العلاء المعري :
وَما دَفَعَت عَنِ الملِكِ المَنايا مَقانِبُهُ وَلا مُتَكَتِّبوهُ
حَسِبتُم يا بَني حَوّاءَ شَيئاً فَجاءَكُمُ الَّذي لَم تَحسِبوهُ.
ثُمَّ تَأتِي نهايَةُ الفرعونِ فالجزاءُ من جنسِ عملهِ، وما تباهيٰ بهِ فيِ حياته،ِ وعلوِّ مكانتهِ، وارتفاعِ شأنهِ إذ كانَ مفاخرًا بجريانِ الأنهارِ من تحتهِ فأجراها اللهُ من فوقهِ ؛ ليطوي اللهُ تعالىٰ في العالمينَ ذِكرهُ ، فلا يُذكرُ إلا بكلِّ سوءٍ، ولا يقرنُ إلا بكلِّ ظلمٍ ، قالَ اللهُ تعالىٰ "وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١ الزخرف)
لكنَّ آسيةَ ستظلُّ بالقلوبِ قبلَ الأعينِ ، وبالأفكارِ قبلَ الألسنِ لثبوتِ قلبِها علي الطاعةِ عندَ التَّقَلُّبِ، إذ يندرُ الثابتينَ علي مبادئهمْ عندَ المِحنِ، واشتدادِ الكُرَبِ، وموافقةِ فعلهِا قولهِا؛ إذ غالبُ الناسِ يقولونَ مالا يفعلونَ، خاصَّةً عندَ نزولِ الشدائدِ فيسقطونَ بأدني اختبارٍ لهمْ ؛ فيبيعونَ آخرتهم بدنياهمْ، يقولُ أبو العلاء المعري :
وَقَد مَنّوا بِرِزقِ اللَهِ جَهلاً كَأَنَّهُمُ لِباغٍ سَبَّبوهُ.
إِذا أَصحابُ دينٍ أَحكَموهُ أَذالوا ما سِواهُ وَعَيّبوهُ.
وأسوأ مِمَّنْ باع آخرتَهُ بدنياهُ، هو من باعَ آخرتَه بدنيا غيرِهِ، قالَ سُحنون المالكيِّ :
"أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره،
أما هذه المرأةُ فثابةٌ ثبوتَ الجبالِ، وراسخةٌ رسوخَ اليقينِ فلمْ تغير معتقدها إلا للحقِّ، ولمْ تصرفْ يقينها إلا بالصدقِ في وعدِ اللهِ الحاكمِ إنَّها يا سادةُ آسيةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ.
وهَذا أوّلُ النّاعينَ طُرّاً لأوّلِ مَيْتَةٍ في ذي الجَلالِ.
كأنّ المَوْتَ لم يَفْجَعْ بنَفْسٍ ولم يَخْطُرْ لمَخلُوقٍ بِبالِ.
صَلاةُ الله خالِقِنا حَنُوطٌ على الوَجْهِ المُكَفَّنِ بالجَمَالِ.
على المَدْفونِ قَبلَ التُّرْبِ صَوْناً وقَبلَ اللّحدِ في كَرَمِ الخِلالِ.
"أبو الطيب المتنبي" .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق