الشاعر والكاتب الصحفى الأمير كمال فرج عضو نقابه الصحفيين واتحاد كتاب مصر وابن كفر الزيات |
الإلقاء عنصر ضروري لتقديم الشعر، وإيصال الجوانب الجمالية والوجدانية فيه، ومسرحة الصورة الشعرية، وإذا كانت القصيدة هي مكمن الإبداع، فإن إلقاءها هو إبداع ثانٍ لا يقل أهمية لدى الكثيرين.
وإلقاء الشعر يستلزم صوتاً جهورياً واضحاً، تتضح فيه مخارج الحروف، وقوة المعاني، وتتجلى فيه محسنات اللغة؛ مثل البلاغة والفصاحة والبيان، وقد يستلزم ذلك من الملقي قدرات خاصة، فيعلو في كلمات، ويخفت في أخرى، هو أمر أشبه بتنغيم الكلمات، وجعلها كلمات مموسقة، لا تقدم فقط المعاني، ولكن تقدم حالة شعورية كاملة.
أهم عنصر في الإلقاء، الحفاظ على اللغة بالتشكيل الصحيح للكلمات، لأن القاعدة النحوية في الأساس عملية ضبط موسيقية، وأي خلل فيها لن يؤدي فقط إلى إخلال بالنطق الصحيح، ولكن أيضاً إخلال بموسيقا الشعر الخفية، وهو ما يعبر عنه الموسيقيون بكلمة (نشاز).
وقد كان الشعر في العصر الجاهلي وما قبله، يقدم عن طريق الإلقاء، إلى أن جاء عصر التدوين، وكان الإلقاء وسيلة النشر الوحيدة في العصور القديمة، وكانت له قواعد وطقوس في المجالس والأسواق، ومن بينها سوق عكاظ، وكانت العطايا تجزل للشاعر المفوّه، القادر على جذب الحكام ورجال القبائل، لذلك كان دوره المهم في حفظ الشعر وتناقله من جيل إلى آخر.
يقول ابن الخياط :
يُحْتاجُ فِي الشِّعْرِ إلى طَلاوَةْ
وَالشِّعْرُ ما لَمْ يَكُ ذا حَلاوَةْ
فإِنّما سَماعُهُ شَقاوَةْ
وإلقاء الشعر، قد يرفع القصيدة إلى أعلى المستويات، وقد يخفضها إلى الأقل، وذلك أمر طبيعي، لاختلاف القدرة على الإلقاء بين الشعراء، وأيضاً لطبيعة شخصه، مثل الخجل وانخفاض الصوت، أو أعراض صحية، مثل عيوب النطق، وهي متعددة، أو لكبر السن.
وفي الندوات الثقافية والأمسيات الشعرية، نلاحظ قصائد عادية، أسهم الإلقاء الجيد في نجاحها وذيوعها، وفي المقابل هناك قصائد جيدة حطَّ منها الإلقاء السيئ.
يقول عبد الله بن معاوية :
يُزَيِّنُ الشِّعْرَ أَفْوَاهٌ إِذَا نَطَقَتْ
بِالشِّعْرِ يَوْماً، وَقَدْ يُزْرِي بِأَفْوَاهِ
وعلى مستوى النقد، هناك قصائد غُنّيت وذاعت وانتشرت ورددها الناس، ولكن إذا درست نصوصها المطبوعة، ستكشف أنها فقيرة إبداعياً، فالقصيدة المغناة يمنحها اللحن والأداء، والإخراج الفني، وتكرار البث الكثير فترتفع، وقد تكون في الأساس نصاً ضعيفاً من حيث الإبداع الشعري.
والأمر لا يقتصر على قصائد بعينها، فهناك شعراء ذاعوا وانتشروا لتمتعهم بالإلقاء المميز، الذي يسحر المستمعين، ولكن إذا وضعت أعمالهم تحت مجهر النقد، ستكون النتيجة صادمة.
وعلى مر التاريخ الأدبي، كان للإلقاء ضحاياه، ومنهم (أبوتمام) أمير البيان، الذي كان مصاباً بحبسة في لسانه، فكان أخوه (سهم) يلقي عنه، وقد عبر (مخلد بن بكار الموصلي) عن ذلك بقوله مخاطباً أبا تمام: (أنت من أشعر خلق الله ما لم تتكلم).
وكان أمير الشعراء أحمد شوقي لا يلقي الشعر، ويكلف بعض أصدقائه الشعراء بالإلقاء، ومنهم كامل الشناوي وعلي الجارم، وتعرض شوقي للنقد بسبب ذلك، وسيقت في ذلك اتهامات، ومنها الغرور، فدافع عنه حافظ إبراهيم قائلاً:
يَعيبونَ شَوقي أَن يُرى غَيرَ مُنشِدٍ
وَما ذاكَ عَن عِيٍّ بِهِ أَو تَرَفُّعِ
وَما كانَ عاباً أَن يَجيءَ بِمُـنشِدٍ
لِآياتِهِ أَو أَن يَجيءَ بِمُـسمِعِ
وقد فطن الشعراء القدامى إلى فن الإلقاء، ومنهم أبوالعلاء المعري، الذي انتقد اعتماد الشعراء على الإلقاء بقوله :
إِذَا النَّاسُ حَلَّوْا شِعْرَهُمْ بِنَشِيدِهِم
فَدُونَكَ مِني كُلَّ حَسْنَاءَ عَاطِلِ
وَمَنْ كَانَ يَسْتَدْعِي الجَمَالَ بِحِلْيَةٍ
أَضَرَّ بِهِ فَقْدُ البُرَى والمرَاسِلِ
مع أهمية الإلقاء في إيصال الشعر، ومع ازدهار الندوات والأمسيات، التي تتيح للجمهور الاستماع إلى الشاعر، وتطور الوسائط المرئية والمسموعة في العصر الحديث، والتي تدعم الاستماع والرؤية في إيصال الفن، يبقى الإلقاء أحد المؤثرات الخارجية.
ومع تشجيعنا على الإلقاء الجيد، واكتساب مهاراته، لإيصال القصيدة إلى فئات أوسع من الناس، يبقى النص المقروء المجرد هو المحك الرئيسي، ليس فقط في التقييم والنقد والتحليل الفني والإبداعي، ولكن أيضاً في القراءة والتذوق المتأني، واكتشاف رؤى وجماليات النص الشعري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق