الشاعرالأديب / أحمد صلاح المليجى
ابن منشأة سليمان بكفرالزيات
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، اللهم إنا نعوذ بك من العي والحصر ، وقديما تعوذوا منهما ، رب يسر وأعن ،
وبعد ، فقد علمنا ما كان من خبر الأستاذ محمود شاكر والدكتور طه حسين ، وتوقفنا عند إيثار شاكر للعزلة ، وهي عزلة فريدة خلاقة ، لجأ إليها واعتصم بها من هذا الفساد الذي ضرب بأطنابه في قلب الحياة الأدبية ، عكف خلالها على التراث ، متوسما متأملا ، مدققا وسابرا لأغواره السحيقة ، فقرأ الأدب الجاهلي من مظانه ، واعتمد على عقله وخبرته ، وفتش فيه وبحث ، سائرا على لاحب لا يتنكبه أبدا ، ولا يحيد عنه قيد أنملة ، سار مع كل أديب إلى آخر عمره ، متأملا رحلته ، مدققا في كلماته وأساليبه ، حتى عاد وهو الخبير بأسلوب كل أديب ، وبطريق كل متفنن أريب ، فاجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الذوق المحكم ، الذي يستنطق الكلمات عن أسرارها وخباياها ، فكانت قراءته للشعر الجاهلي ( قراءة اجتهادية باذخة أعادت له عظمته، وجعلتنا نشعر بقيمته، وروعته، وبقدر ما أهين الشعر الجاهلي على يد بعضهم، بقدر ما أعيد له الاعتبار على يد شاکر إنها «قراءة أذکی امریء في جيله») . د عمر القيام .
لقد أراد شاكر أن يستبين لنفسه أولا ولأمته ثانيا وجه الحق في ( قضية الشعر الجاهلي ) ، بعد أن صارت عنده قضية متشعبة كل التشعب ، فحمَّل نفسه أعباء جِساما وهو بعدُ في طور الشباب ، ( فتأملْ في هذا الشاب الذي كاد يكون صبياً ، يحمّل نفسه كل هذه الهموم ، وكأن الشعر الجاهلي عِرْض عنده لايفرط فيه .
والحق أن ( كأن ) هنا زائدة ، فالشعر الجاهلى عند محمود شاكر هو عرض حقاً ، لقد وجد فيه نفسه ، ورأى في مرآته أمته العربية من أبعد آمادها على فطرتها الأولى قبل أن تفسدها الأيام وتعبث بها ، وتضيف إليها ، وتغير فيها
صروف الزمان ، حتى كادت تُطْمَر تحت طبقات من جهل الجاهلين بها ، وكره الشانئين لها ) . ( فتحي رضوان ، الرجل والأسلوب بتصرف ) .
أخذ محمود شاكر نفسه في قراءة الشعر الجاهلي بمنهج شاق ، وسلك طريقا غير معبدة ولا مطروقة ، في سبيل الوقوف على قول فصل لا ريب فيه في شأن الشعر الجاهلي ، فانغمس في قراءة التراث العربي من تفسير ، ونحو وصرف وبلاغة وأصول وفقه وحديث نبوي وشعر وأدب ، فاستوى له منهجه في ذلك وهو منهج تذوق الكلام .
وجوهر هذا المنهج موجود في مناهج السلف ، وفي طرقهم التي سنوها لأبحاثهم ، وهو منهج يعتمد على دلالات اللسان العربي ، ( ففي نظم كل كلام وفي ألفاظه ، ولابد ، أثر ظاهر أو وسْم خفي من نفْس قائله وما تنطوي عليه من دفين العواطف والنوازع والأهواء من خير وشر أو صدق وكذب ، ومن عقل قائله وما يكمن فيه من جنين الفكر ، ( أي مستوره ) ، من نظر دقيق ، ومعان جليلة أو خفية ، فمنهجي في ( تذوق الكلام ) ، معني كل العناية باستنباط هذه الدفائن ، وباستدراجها من مكامنها ، ومعالجة نظم الكلام ولفظه معالجة تتيح لي أن أنفض الظلام عن مصونها ، وأُميط اللثام عن أخفى أسرارها وأغمض سرائرها ، وهذا أمر لا يُستطاع ولا تكون له ثمرة إلا بالأناة والصبر ، وإلا باستقصاء الجهد في التثبت من معاني ألفاظ اللغة ، ومن مجاري دلالتها الظاهرة والخفية ، بلا استكراه ولا عجلة ، وبلا ذهاب مع الخاطر الأول ، وبلا توهم مستبد تُخضِع له نظم الكلام ولفظه ) ، ( المتنبي لشاكر بتصرف يسير ) .
هذا هو الجانب النظري لمنهج ( تذوق الكلام ) الذي ارتضاه محمود شاكر ليكون شاهدا على تفنيد مزاعم الذين شككوا في صحة ذلك الشعر الجاهلي وفي نسبته لقائليه .
" يتبع "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق