إن المتأمل في ما تركه محمود شاكر من كتب ومقالات ومحاضرات لابد وأن يرى بجلاء ووضوح هذا البغض الذي يحمله الرجل للاستشراق والمستشرقين ، كيف لا وقد وقف حياته كلها لتفنيد كلامهم وتعرية هالاتهم التى يلبِّسون بها على بعض المثقفين والقراء ، وهذا البغض كان دائما المحرك الأول لمحمود شاكر في ما كتب ، حيث إنه خبر المستشرقين وأساليبهم الملتوية وعرف ما يتلفعون عليه من سوء الطوية لهذه اللغة الشريفة ، فهم ( يدرسون آدابنا وشعرنا وتاريخنا كأنه نقش على مقبرة عادية قديمة ، مكتوب بلغة ماتت ومات أهلها وطمرها تراب القرون ، والأسباب الداعية لهم إلى ركوب هذا المنهج كثيرة ، أهونها شأنا الأهواء والضغائن المتوارثة ، ولكن أوغلها أثرا هو أن جمهرتهم غير قادرة أصلا على تذوق الآداب تذوقا يجعلها حية في نفوسهم قبل أن يكتبوا ، وهم أيضا مسلوبو القدرة على أن يبلغوا في لسانهم الذي ارتضعوه مع لِبان أمهاتهم مبلغا من التذوق يعينهم على التعبير عنه تعبيرا يتيح لأحدهم أن يكون له شأن يذكر في آداب لسانه ؛ ولهذا العجز آثروا أن يكون لهم ذكر بالكتابة في شأن لغات آخرى يجهلها أقوامهم ) ( كتاب المتنبي لمحمود شاكر بتصرف يسير ) .
وكان من تدابير القدر أن يلتقي محمود شاكر بالأستاذ أحمد تيمور باشا رحمه الله في المكتبة السلفية عند الأستاذ محب الدين الخطيب فأعطاه أحمد تيمور عددا من مجلة انجليزية ليقرأ مقالة للمستشرق مرجليوث تستغرق نحو اثنتين وثلاثين صفحة من هذه المجلة بعنوان ( نشأة الشعر الجاهلي ) ، أخذها محمود شاكر ثم قرأها بعد ذلك ، وكان كل ما أراد ان يقوله هذا المستشرق الخبيث : ( إنه يشك في الشعر الجاهلي بل إن هذا الشعر الجاهلي الذي نعرفه إنما هو في الحقيقة شعر إسلامي وضعه الرواة المسلمون في الإسلام ، ونسبوه إلى أهل الجاهلية )
، ومرت الأيام ونسي محمود شاكر ما قرأه في هذه المقالة لأنه - كما أوضحنا سلفا - خبير بهؤلاء المستشرقين ، فما أسرع ما يُسقِط ما يقرأ من كلامهم جملة واحدة في يم النسيان ، ثم كان أن دخل الجامعة ، وبدأ الدكتور طه حسين يلقي محاضراته التي عرفت بعد ذلك بكتاب ( في الشعر الجاهلي ) ،وبدأ محمود شاكر مع تتابع هذه المحاضرات يستذكر ما كان نسيه من مقالة مرجليوث ويستشعر الآصرة بين كلامه وكلام الدكتور طه ، وفار الغيظ بشاكر ومنعه أدبه الذي أُخذ به صغيرا ، ويدٌ كانت للدكتور طه عليه إذ إنه توسط لشاكر عند مدير الجامعة ( أحمد لطفي السيد ) ليلتحق بكلية الآداب ، ( وحِفْظُ الجميل أدب لا ينبغي التهاون فيه ) ، وفارقُ السن الذي بينه وبين الدكتور طه ، فقد كان شاكر في السابعة عشرة من عمره ، والدكتور طه في السابعة والثلاثين ، ( وتوقير السن أدب ارتضعناه مع لِبان الطفولة ) ، وظل الدكتور طه يعرض آراءه في محاضراته ، وشاكر يزداد حنقا وغيظا ، ولا يستطيع أن يواجهه بحقيقة سطوه على مقالة مرجليوث ، حتى جاءت اللحظة الفاصلة ، وأحب أن أفسح المجال لقلم الأستاذ محمود شاكر حتى يحدثنا بنفسه عن هذه اللحظة الفارقة في حياته ، يقول في كتابه ( المتنبي ) : ( جاءت اللحظة الفاصلة في حياتي . فبعد المحاضرة ، طلبت من الدكتور طه أن يأذن لي في الحديث ، فأذن لي مبتهجا أو هكذا ظننت . وبدأت حديثي عن هذا الأسلوب الذي سماه ( منهجا ) ، و عن تطبيقه لهذا ( المنهج ) في محاضراته ، وعن هذا ( الشك ) الذي اصطنعه ، ما هو ؟ ، وكيف هو ؟ ، وبدأت أدلل على أن الذي يقوله عن ( المنهج ) وعن ( الشك ) غامض ، وأنه مخالف لما يقوله ديكارت ، وأن تطبيق منهجه هذا قائم على التسليم تسليما لم يداخله الشك ، بروايات في الكتب هي في ذاتها محفوفة بالشك ) .
هكذا كاشف محمود شاكر الدكتور طه بكل شيء إلا أنه لم يستطع أن يصرح له بحقيقة سطوه على مقالة مرجليوث ، واستدعاه الدكتور طه بعد هذا الحديث ، وجعل يعاتبه ، يقسو حينا ويرفق أحيانا وشاكر صامت لا يستطيع أن يرد ، ومن يومئذ وشاكر لم يكف عن مناقشة الدكتور طه ، ولم يكف الدكتور طه عن استدعائه بعد المحاضرات ، وشاكر لا يستطيع التصريح له بسطوه على مقالة مرجليوث ، ولكنه قد أذاع هذه ( الحقيقة ) في زملائه ، حتى تدخل بعض الأساتذة في ذلك الأمر كالأستاذ نلِّينو ، والأستاذ جويدي من المستشرقين ، فصارحهما شاكر بسطو الدكتور طه على مرجليوث ( وكانا يعرفان ، ولكنهما يداوران ) .
( وطال الصراع غير المتكافئ بيني وبين الدكتور طه زمانا ، إلى أن جاء اليوم الذي عزمت فيه على أن أفارق مصر كلها ، لا الجامعة وحدها ، غير مبال بإتمام دراستي الجامعية ، طالبا للعزلة ، حتى أستبين لنفسي وجه الحق في ( قضية الشعر الجاهلي ) ، بعد أن صارت عندي قضية متشعبة كل التشعب ) ( المتنبي لمحمود شاكر ) . ( يتبع ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق