الله تعالى قد أرسل نبيه- ﷺ- ليهدي به من شاء، ويخرجهم من عبادة العباد، والأنصاب، والأزلام إلى عبادة رب الأنام ، ومن ضيق الدنيا، وكدرها، ودنوها، إلى رحابتها، وسعادتها، وسعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
فقد بعثه للعالمين شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِۦ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِۦ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (٤٥، ٤٦ الأحزاب )
قال الطبرى:
وداعيًا إلى توحيد الله، وإفراد الألوهية له، وإخلاص الطاعة لوجهه دون كل من سواه من الآلهة والأوثان.
فعن قتادة ( وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ ) إلى شهادة أن لا إله إلا الله. وقوله (بِإِذْنِهِ) يقول: بأمره إياك بذلك.
فبادئ ذي بدإ شرع لنا النبي - ﷺ- زيارة القبور لا للتوسل، والتمسح، وشد الرحال لها، والصلاة عليها، ولها، ونذر النذور بها، والذبح عندها، والدعاء بمن فيها يقينًا بقضاء الحوائج، ونيل الرغائب، ولكن للاعتبار، والاتعاظ بالموت، وبحال من سبقونا له بالفوت ، لنوقن بالحق القاطع للحياة، وفي اليقين الساطع في الدنيا ألا، وهو الموت الذي كُتِبَ علي الخلق جميعًا؛ فلا مفر منه، ولا هَرَبَ، إذ سهم الموت قد انطلق بقضاء من الله لنا، وهو مصيبنا حتمًا لا محالة؛ لأنه قد اقترب، وما أعمارنا بتلك الدنيا الفانية الزائلة، الزائفة إلا بقدر وصول السهم إلينا.
وقد كان ذلك الإذن منه - ﷺ- ، بعد منع حيث كانت زيارة القبور في بداية الإسلام ممنوعة، ثم أذن النبي - ﷺ- بها، ففي مسلم من حديث بريدة قال: قال رسول الله - ﷺ- : "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"[١أخرجه مسلم 2305.]
وعلل - ﷺ- ذلك الإذن بالتذكير لأمر جلل، وخطير ألا وهو الاتعاظ بالموت لرواية مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة – قال: "زار النبي - ﷺ- قبر أمه فبكى، وأبكى من حوله؛ فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها؛ فأذن لي؛ فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت". (٢أخرجه مسلم ٩٧٦)
وببالغ الأسى، وعظيم الأسف بعض العوام من الخلق - ممن لا علم لهم بصحيح الدين، وتنزيه رب العالمين، وإفراده بالألوهية، والعبودية، والتوحيد الخالص من أدني شائبة - مَنْ يذهب إلى القبور فيفعل ما هو وسيلة إلى الشرك فيَتَمَسَّحُ بالقبور، والأضرحة، ويدعو عندها، متوسلًا أمامها بأصحابها إلى الله متناسيًا، أو غافلًا عن قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦ البقرة) أو يصلى عندها، ويسرج لها، ويبني عليها مسجدًا للصلاة فيه، وهذا كله مناف لتوحيد الإله، وصرف العبادة له عما سواه.
لقد كان النبي - ﷺ- وهو في سكرات الموت،، وشدته وكرباته، وقسوته يفيق مرة، ويغمى عليه مرة، ومع ذلك يتذكر الشيء الشديد الأهمية فيذكر إياه آمرًا لنا به،كما يتذكر المُحَرَّم بوعيد أكيد؛ فينهانا عنه لحرمته، ومن هذه الأشياء التي ذكرها لنا وذكرنا بها في السكرات، والكربات، والغمرات؛ أن بناء المساجد فوق القبور حرام، واتخاذها مسجدًا حرام كذلك، والنبي - ﷺ- قد ذكر ذلك كثيرًا في مرض موته لَمَّا علَّمه الله أن أمته تفتن به؛ فصار يحذرها، وجعل يذكرها،
روى مسلم من حديث جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي - ﷺ- قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً؛ لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا، وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك".[٩أخرجه مسلم (532).]
وعن عائشة - رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا - أن أم سلمة ذكرت للرسول - ﷺ- كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح؛ بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله". [١٢أخرجه البخاري (427) ومواضع، ومسلم (528).]
فالنبي - ﷺ- نهى عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من فعله، وشدد في ذلك جدًّا، واتخاذ القبور مساجد معناه يشمل:
١- الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها.
٢- السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.
٣- بناء المساجد عليها للصلاة فيها.
قال ابن حجر الهيثمي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر: " واتخاذ القبور مساجد معناه: "الصلاة عليه أو إليه" وكذا قال الصنعاني في سبل السلام. [١٦سبل السلام - (2 / 38).]
وقد ورد عن النبي - ﷺ- أنه قال: "لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر". [١٧أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (3 / 145 / 2)، وهو في الصحيحة (3 / 13).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها".[١٨رواه أبو يعلى في" مسنده" (ق 66 / 2) وإسناده صحيح.
وعن أنس - رضي الله عنه - أنه سئل عن الصلاة وسط القبور قال ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلعنهم الله تعالى".[١٩رواه عبدالرزاق (1591) وهو مرسل صحيح الإسناد.
-وعلي ذلك فيكون اتخاذ القبور مساجد معناه: السجود على القبور، والصلاة عليها، وأيضاً السجود إليها، واستقبالها بالصلاة، والدعاء أي سجدوا لها، وعليها، وكذلك من معانيها بناء المساجد عليها، وقصد الصلاة فيها.
-ولولا مخافة اتخاذ قبر النبي - ﷺ- مسجدًا لَجُعِل قبره - ﷺ- في أرض مكشوفة بارزة، ولكن الصحابة- رضي الله عنهم- لم يفعلوا ذلك؛ خشية أن يبنى عليه مسجد من بعض من يأتي بعدهم فتشملهم اللعنة التي استحقتها اليهود، والنصارى بسبب اتخاذهم القبور مساجد، وقد ذكرت السيدة عائشة- رضي الله عنها - ذلك بقولها: "ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً"[٢٠أخرجه البخاري (435) ومواضع، ومسلم (531).]
-قال شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية -: "لا يجوز أن يدفن في المسجد ميت لا صغير ولا كبير ولا جليل ولا غيره فإن المساجد لا يجوز تشبيهها بالمقابر". [٢٤الفتاوى الكبرى - (2 / 85)، ومجموع الفتاوى - (22 / 203).
-قال الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأسبق العلامة عبد المجيد سليم - رحمه الله تعالى -[٢٦فتاوى كبار علماء الأزهر الشريف حول الأضرحة والقبور (ص 26)، رسالة صادرة عن دار اليسر) والدفن في المسجد إخراج لجزء من المسجد عما جعل له من صلاة المكتوبات وتوابعها من النفل والذكر وتدريس العلم وذلك غير جائز شرعاً، ولأن اتخاذ القبور في المساجد يؤدي إلى الصلاة إلى هذه القبور أو عندها وقد وردت أحاديث كثيرة دالة على حظر ذلك،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" :النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترت بالنهي عن الصلاة عند القبور مطلقاً وعن اتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها".[٢٧اقتضاء الصراط المستقيم 329.]
ومنها ما أخرجه مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها".[٢٨أخرجه مسلم (972).]
شبهة :
-وقد يعترض البعض علي ذلك متعلِّلًا بحجته الواهنة، الواهية قائلًا :" إن النبي - ﷺ- دفن في مسجده"
ولدحض تلك الشبهة نقول :
أفاد ابن عثيمين، وابن باز بالرد علي تلك المسألة :
أولًا: إن المسجد لم يبن على القبر؛ بل بني المسجد أولًا في حياة النبي - ﷺ- وبهذا لم يتحقق بناء المسجد المتأخر زمنًا علي القبر المتقدم عليه في الوقت، بل كان المسجد موجودًا حال انعدام القبر.
ثانيًا : النبي - ﷺ- لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد، بل دفن في بيته.، والدليل على هذا، أنه مات في حجرة عائشة، ولما مات اختلفوا في دفنه: أين يدفن؟ حتى جاء الصديق - رضي الله عنه - فقال: سمعت رسول الله - ﷺ- يقول: "ما قبض الله نبيًّا إلا دفن؛ حيث قبض روحه، فقال أصحاب رسول الله - ﷺ-:" فأنت والله رضىٌّ، مُقنعٌ " ثم خَطُّوا حول الفراش خَطَّا ثم احتمله علي، والعباس والفضل، وأهله، ووقع القوم في الحفر يحفرون حيث كان الفراش".[أخرجه الترمذي (2 / 129)
ثالثًا: إدخال بيوت النبي - ﷺ- ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق من الصحابة، بل بعد أن انقرض أكثرهم، ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك عام: ٩٤هـ تقريباً في أيام الوليد بن عبد الملك، فليس مما أجازه الصحابة، وأجمعوا عليه ،مع أن بعضهم خالف في ذلك، وممن خالف ذلك سعيد بن المسيب من التابعين؛ فلم يرض بهذا العمل.
وهكذا دفن - ﷺ- في حجرة عائشة، وجاء ضم الحجرة بعد ذلك إلى المسجد على خلاف ما أراد النبي - ﷺ- وصحابته، والتابعون لهم بإحسان؛فلا يقال إن النبي - ﷺ- دفن في المسجد؛ فيكون مبرراً؛ لدفن الصالحين في المسجد، وإن أوصى هؤلاء الصالحين بذلك، أو حتى وقفوا المساجد، أو اشترطوا أن يدفنوا فيها. ؛ لأنه - ﷺ- لم يدفن فيه.(أحمد الجوهري عبد الجواد، بتاريخ٢٨ / ٩ /٢٠١٥ ميلادي - 14/12/1436موقع الألوكة الشرعية ) .
فعن عطاء الخراساني قال: أدركت حُجَرَ أزواج النبيّ - ﷺ- فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يُقْرَأ يَأُمُرُ بإدخالها -أي في المسجد- فما رأيت يومًا كان أكثر باكيًا من ذلك اليوم، قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب، يقول: "والله لوددت أنهم تركوها على حالها ينشأ ناس من المدينة، ويقدم قادم من الآفاق؛ فيرى ما اكتفى به رسول الله - ﷺ- في حياته، ويكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها".
ويُذكر أنه في افتتاح الوليد للمسجد بعد التجديد لما استنفد الوليد النظر إلى عمارته، وفخامته؛ فأعجبه ذلك التفت إلى أبان بن عثمان بن عفان، وقال: أين بناؤنا من بنائكم؟ فقال أبان: بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس. [٢٢خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى - (ص 133).
يقول الدكتور جميل غازي - رحمه الله -: "إن الادعاء بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد دفن في مسجده.. باطل وكاذب، وافتراء على الله وعلى رسوله، وتزييف لحقائق التاريخ، إن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما مات لم يدفن في مسجده، ولا أوصى بذلك، ولا فعل به أصحابه ذلك.. حاشا لله.. وهو القائل عليه الصلاة والسلام: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
-إنما الذي حدث أن أصحابه دفنوه في حجرة السيدة عائشة التي كانت تجاور المسجد، وكان حرص أصحابه شديداً على أن يظل قبره عليه الصلاة، والسلام خارج المسجد في كل توسعة تمت بمسجده الشريف، حدث هذا في عهد عمر - رضي الله عنه - فلقد حرص حينما وسع المسجد في عام 17ه على أن تكون توسعة المسجد من جميع الجهات إلا من الجهة الشرقية التي يقع فيها قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وبيته، فلم يمسها حتى لا يدخل القبر داخل المسجد الشريف، ونفس هذا الحرص تم أيضاً في عهد عثمان - رضي الله عنه - حينما وسع المسجد في عام 24ه [٢٣الصوفية والوجه الآخر - (ص / 102)، للدكتور جميل غازي رحمه الله رحمة واسعة، وهو مجموعة مقالات قام على جمعها د. عبد المنعم الجداوي.
-وكذلك لا يدل هذا على حِلِّ الصلاة بالمساجد التي فيها القبور؛ لأن ذلك مما اتفق علماء المذاهب الأربعة المتبوعة على حرمته بل صرح بعضهم بأنه كبيرة من الكبائر كما قال الإمام ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر.
رابعًا: القبر ليس في المسجد حتى بعد إدخاله، لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد، فليس المسجد مبنياً عليه، ولهذا جُعِل هذا المكان محفوظاً محوطاً بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة أي مثلثاً، والركن في الزاوية الشمالية، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف.
-وبهذا كله يزول الإشكال الذي يحتج به أهل القبور، القائلين هذا من عهد التابعين إلى اليوم، والمسلمون قد أقروه، ولم ينكروه، فنقول: "إن الإنكار قد وجد حتى في زمن التابعين، وليس محل إجماع، وعلى فرض أنه إجماع؛ فقد تبين الفرق من الوجوه الأربعة التي ذكرناها" . انتهى: ١/٣٩٤.
-فالقبر إذن ليس في المسجد كما تبين، بل في حجرة مستقلة عن المسجد.
-وبالنسبة للمقصورة، والقبة فتذكر كتب التاريخ أنها راجعة لخمس محاولات لسرقة الغرفة النبوية :
روت كتب التاريخ الإسلامى خمس محاولات لسرقة القبور الثلاثة والمدفونة فى الحجرة النبوية، وهى:
الأولى :حدثت فى بداية القرن الخامس الهجرى، بإشارة من الحاكم العبيدى "الحاكم بأمر الله"، وعلى يد أحد جنوده، ويدعى أبو الفتوح، وذلك بنقله إلى مصر، وانتهت؛ بريح أُرسِلت كادت تزلزل الأرض من قوّتها، فعَرَف أبو الفتوح بأنه كان على خطأ فرجع إلى مصر تائباً.
المحاولة الثانية: أيضاً بإشارة من الحاكم العبيدى "الحاكم بأمر الله"، إذ أرسل ناسًا فسكنوا بدارٍ قربَ المسجد النبوى، وحفروا تحت الأرض؛ ليصلوا إلى القبر؛ فاكتشف النّاس أمرَهم فقتلوهم.
المحاولة الثالثة: فخطط لها بعض ملوك المسيحيين، ونفذها اثنان من المغاربة سنة ٥٥٧ هـ فى عهد السلطان نور الدين زنكى، وتذكر كتب التاريخ أن السلطان نور الدين زنكى رأى فى نومه النبى - ﷺ- يخبره بأمر الرجلين، فقدم المدينة المنورة؛ فاكتشف أمرهما، وكانا يحفران سرداباً يصل إلى الحجرة؛ فأمر بهما فقُتلا، بعد ذلك أمر نور الدين زنكى ببناء خندق رصاصى متين حول القبور الثلاثة منعاً لأى محاولة سرقة.
المحاولة الرابعة: سنة ٥٧٨ هـ، حيث كانت مجموعة من الروم من مسيحيى الشام وصلوا البحر الأحمر، وقتلوا عددا من المسلمين، عازمين على التَّوَجُّه للمدينة المنورة، وإخراج جسد النبى - ﷺ- من القبر، حتى إذا كانوا قرب المدينة أدركهم قوم من مصر؛ فقتلوا منهم وأسروا من بقى.
المحاولة الخامسة: فى منتصف القرن السابع الهجرى، عندما حاول أربعون رجلًا من حلب من سوريا إخراج جسد أبى بكر وعمر بن الخطاب-رضي الله عنهما - وذلك بعد أن بذلوا لأمير المدينة المنورة الأموال الكثيرة، وطلبوا منه أن يمكِّنهم من فتح الحجرة؛ فلما اقتربوا من الحجرة النبوية، ابتلعتهم الأرض.
وقد وردت آثار وأحاديث تفيد بأن الملائكة يحُفُّون بالقبر الشريف ليلًا ونهارًا، ويصلون على النبى - ﷺ- كما فى الدارمى والبيهقى،
-وقد مرت الحجرة الشريفة بالعديد من الإصلاحات والترميمات وهي :
١- فى زيادة عمر بن الخطاب رضى الله عنه للمسجد النبوى الشريف عام ١٧ هـ أبدل بالجريد الذى كان فى البيت جدارًا.
٢ - فى زيادة الوليد بن عبد الملك عام ٨٨-٩١ هـ أعاد عمر بن عبدالعزيز بناء الحجرة الشريفة بأحجار سوداء بنفس المساحة التى بنى بها بيت رسول - ﷺ- ثم بنى حول الحجرة الشريفة جدارًا ذا خمسة أضلاع بصورة شكَّل معها فى المؤخرة مثلثاً، حتى لا تشبه الكعبة المشرفة فى بنائها.
٣ -فى عام ٥٥٧ هـ حفر الملك العادل نور الدين الشهيد، خندقًا حول الحجرة الشريفة، وصبَّ فيه الرصاص للحيلولة بين الجسد الشريف، ومن يريد الوصول إليه ،وكانت محاولة النصارى سنة سبع وخمسين وخمس مائة، فكشف الله تعالى أمرهم برؤيا رآها الملك الصالح الشهيد نور الدين محمود زنكى بمصر، وكان لهذا الملك ورد من الليل يقوم ويصلى، وينام، فنام ليلة بعد تهجده؛ فرأى النبى - ﷺ- وهو يشير إلى رجلين أشقرين، ويقول:" أنقذنى من هذين" ، فاستيقظ فزعًا؛ فتوضأ وصلى ركعتين ونام فرأى الرؤيا نفسها أيضاً، فقام وتوضأ، وصلى ركعتين، ونام؛ فرأى نفس الرؤيا، وفى المرة الثالثة قال: "لم يبق نوم" فقام فى الحال إلى وزيره جمال الدين الموصلى، وأخبره بما رأى، فقال له: "حدث شىء بالمدينة أرى أن تكتم ما رأيت ونخرج الآن إلى المدينة" فخرج بعشرين من القادة بصحبة الوزير، ومعه أموال كثيرة، وقبل دخول المدينة اغتسل، ودخل المسجد، وصلى فى الروضة، وزار، ثم جلس فى المسجد لا يدرى ماذا يصنع، وقد اجتمع إليه الناس، فقال الوزير: "إن السلطان حضر للزيارة، وأحضر معه أموالًا لتوزيعها على سكان المدينة النبوية فاكتبوا مَن عندكم، وأحضروا أهل المدينة كلهم؛ فحضر الناس، وجعل يوزِّع الأموال، ويعطى الهدايا، وكل من حضر؛ ليأخذ يتأمله السلطان؛ ليجد فيه الصفة التى أراها له النبى - ﷺ- فى المنام، وقد انطبعت فى ذهنه، فلا يجد الصورة إلى أن انقضت الناس؛ فقال السلطان:" هل بقى من أحد؟" قالوا:" لا" فقال: "تفكروا وتأملوا" فقالوا: "لم يبق إلا رجلان مغربيان لا يتناولان من أحد شيئًا وهما صالحان غنيان يكثران من الصدقة وأعمال الخير" انشرح صدر السلطان، وقال: "على بهما" فرآهما، فإذا هما الرجلان اللذان أشار إليهما النبى - ﷺ- بقوله:" أنقذنى من هذين" ، فقال لهما:" من أين جئتما؟" قالا: "من بلاد المغرب، جئنا حاجين فاخترنا المجاورة، والسكن بالمدينة النبوية" فقال:" أصدقانى"، فصَمَّما على ذلك، فقال: "أين منزلهما؟" فأخْبِرَ بأنهما بمنزل قرب الحجرة الشريفة؛ فأمسكهما، وخرج إلى منزلهما؛ فوجد مالًا كثيرًا، ومصحفين، وكتبًا فى الرقائق، ولم ير شيئًا؛ فأثنى عليهما أهل المدينة بالخير وبأدائهما للصلاة، وزيارة البقيع كل يوم، وقُباء كل سبت، وبقى السلطان حائرًا يطوف بالبيت بنفسه؛ فرفع حصيرًا فى البيت؛ فرأى تحته سردابًا محفورًا إلى جهة الحجرة الشريفة؛ فارتاع الناس لذلك، فقال لهما السلطان: "أصدقانى حالكما" ، فأصرا على حجتهما فَضُرِبَا، فاعترفا بأنهما بُعِثَا فى زىِّ مغاربة للاحتيال على تنفيذ جريمتهما التى سول لهما الشيطان أن بالإمكان تنفيذها، فلما اعترفا، وظهر حالهما سجد السلطان شكرًا لله تعالى، وأمر بضرب أعناقهما، ثم أمر بحفر خندق عظيم من كل الجهات على الحجرة الشريفة حتى بلغ الماء فجعل فيه الرصاص المذاب ليكون حائطاً وسوراً داخلياً على الحجرة.
٤ - وفى عام ٦٦٨هـ أقام الظاهر بيبرس مقصورة خشبية ذات حواجز ولها ثلاثة أبواب.
٥- وفى عام ٦٩٤هـ زاد الملك العادل زين الدين كتبغا على حاجز المقصورة حتى أوصله إلى سقف المسجد.
٦- وفى عام ٦٧٨هـ أقام السلطان محمد بن قلاوون الصالحى قبة فوق الحجرة الشريفة، وكانت مربعة فى أسفلها مثمنة فى أعلاها ،وصفحت بألواح من الرصاص.
٧- وفى عام ٨٨١ هـ جدد القبة الناصر حسن بن محمد بن قلاوون.
٨- وفى عام ٨٨٦ هـ تأثرت القبة من جراء الحريق الثانى الذى وقع فى المسجد.
٩- وفى عام ٨٨٧ هـ فى عهد السلطان قايتباى، جدد بناء القبة، ووضعت لها دعائم قوية فى أرض المسجد، وبنيت بالأجر، كما جعلت للمقصورة الشريفة نوافذ من النحاس من جهة القبلة فى أعلاها شبك من النحاس أيضًا أما فى الجهات الشمالية، والشرقية، والغربية؛ فقد جعلت للمقصورة نوافذ من الحديد فى أعلاها أشرطة من النحاس وفيها ٧٦ (طاقة).
١٠- وفى عام ٨٩٢ هـ أعيد بناء القبة مرة أخرى بالجبس الأبيض بعد أن تشقق أعلاها، وكان ذلك فى عهد السلطان قايتباى أيضاً.
١١- وفى عام ١٢٣٣هـ فى عهد السلطان محمود بن عبد الحميد أعيد بناء القبة لآخر مرة، حيث تشققت القبة فى عهده، فأمر بهدم أعلاها، وإعادة بنائه من جديد، حيث لا تزال قائمة إلى اليوم.
١٢- وفى عام ١٢٥٣ هـ أمر السلطان عبد الحميد العثمانى بصبغ القبة باللون الأخضر؛ فأصبحت القبة تعرف بعد ذلك بالقبة الخضراء، وكانت تسمى فيما سبق القبة الزرقاء، أو القبة البيضاء، أو القبة الفيحاء.
-وتُولى المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز آل سعود جُلَّ اهتماماتها بالحجرة الشريفة، وبالقبة الخضراء؛ فحافظت على البناء العثمانى للمسجد الشريف، وعملت على تدعيمه، وترميمه كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وتتفقد الحجرة الشريفة، وتعمل على صيانتها بكل أدب، واحترام، وتعهد ذلك إلى من تثق فى دينه، وأمانته، كما تحرص على رعاية، وطلاء القبة الخضراء كلما انكشف اللون نتيجة للعوامل الجوية.
هَلَّتْ نَسَائِمُ الحَبِيبِ فَشَذَا الرَّبِيعُ بِطِيبِ.
فاحَتْ سَجايَاه حُسْنًا سَائِغًا كَعَذْبِ صَبِيبِ.
وَتَعَطَّرَ الكَوْنُ واكْتَسافَرَحًا مِنْ وَجْدِهِ لِحَبِيبِ.
وانْهَمَرَ رُكَامُ الآفاقِ غَيَدًا وَآلَ عَبَقُ الزَّمَانِ بِقَشِيبِ.
وَصَارَتْ قِفَارُ الدُّنَا مِنْ نَبْعِهِ بِخَصِيبِ.
هو الدَّوَاءُ لِكُلِّ دَاءٍ الهَادِي بِشَرْعِ أَرِيبِ.
صَلُّوا عَلَيْهِ فَتَسْلمُوا إنَّ الصَّلَاةَ شَهَادَةٌ لِنَجِيبِ.
اللهم صَلِّ، وسلم، وبارك علي سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
أقرأ أيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق