ضفافنا ملتقى لمبدعى ومثقفى وعلماء ونجوم كفرالزيات, ولا يدخلها إلا المثقفين

الخميس، سبتمبر 08، 2022

ثنائية الغياب والحضور داخل المجموعة القصصية .. (محطات للغياب) للأديب الكبير/ محمود عرفات أبن كفرالزيات بقلم الناقد دكتور/ رامي هلال والتي تم نشرها بمجلة عالم الكتاب العدد 70،

الأديب الروائى/ محمود عرفات ابن كفرالزيات
روائى وقاص مصرى حاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عام 2005م عن المجموعة القصصية "على شاطئ الجبل". شارك فى انتصارات أكتوبر المجيدة عام 1973م، .عضو اتحاد كتاب مصر.عصو نادى القصة.عضو الجمعية المصرية للسرديات.


يعد الغياب مرادفا للفقد مناقضا للحضور، ويلعب دورا محوريا في المجموعة القصصية، (محطات للغياب) للكاتب محمود عرفات الصادرة عن دار ميتا بوك للطباعة والنشر عام (2020)، في عشرين قصة يتغلغل الغياب في نسيج سرودها متجليا في التيمة الأساسية لقصص المجموعة، من خلال التبدلات والتغيرات والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

أولا : العنوان موجّه قرائي:
ويلعب العنوان دورا مرشدا في التوجيه القرائي؛ حيث إن المحطات تتوارى شيئا فشيئا وتغيب عن الانظار في رحلة قطار الزمن، الذي يلقي بظلاله على الحياة والناس، وإذا كان للغياب محطات فإن البنية الكامنة في العنوان تشي بأن محطات الحضور أقل، أو هي محطة غائبة لم نصل إليها بعد، هكذا يكشف لنا العنوان عن الدلالة الكلية للسرد داخل المجموعة، ويقوم بوظيفته الإشارية نحو التوجيه القرائي.
ثانيا مستويات الغياب
الغياب فعلا هو سيّد الموقف، وقد اتخذ أشكالا متعددة وتمظهر في مستويات عدة منها:
الناقد دكتور/ رامي هلال

أ-الغياب على مستوى الحدث

وتمثل ذلك في قصة:(إصبع ضائعة)، حيث يضعنا المؤلف- من خلال مونولج داخلي للراوي بضمير المتكلم - أمام رحلة دفْنها التي كشفت لنا عما دفنه الراوي داخله من ذكريات الحرب، من خلال التداعي للمشاهد الساخنة المندفعة إلى ذاكرته، ففي القصة تتجلى بؤرة الصراع في الطريقة التي سوف يدفن بها الإصبع المبتورة، كما أحالتنا تقنية الاستدعاء أو(الفلاش باك) في ذاكرة الراوي إلى زمن الحرب حيث الأصابع مبتورة، وجثث الشهداء مغسولة بالدم والجراح عميقة، والأطراف متناثرة، والرؤوس منفصلة عن أجسادها؛ ما يؤكد على تيمة غياب القيم وتبدل الأحوال، من خلال المفارقة الناشئة بين أصابع المدنيين وأصابع الشهداء وأشلائهم، حتى المدينة الأليفة كشفت له عن وجه شائه قبيح حين لم يجد فيها مكانا لدفن إصبع زوجته
"أسير في شوارع المدينة التي أراها ضيقة، وتكاد تلفظني خارجها ..والإصبع المبتورة في جيبي، أواصل حيرتي أين أدفن الإصبع ؟" (صـ12)

ويضفر السارد في براعة الهمّ الخاص بالهمّ العام، بين أزمة النهر وأزمة الإصبع؛ كي يقرر في الاستفهام الأخير للقصة: أن النهر ملاذنا الأخير، وهو بذلك يلح على التغيرات التي شوهت الواقع وحشرته في أزمات متعددة.

وأرى أن عنوان هذه القصة كاشف للمتن، والعنوان لابد أن يحتوي على إيهام دلالي مقبول، كما أن هناك تدخل معيق من المؤلف في جسم المتن السردي مثل قوله :"هذا النهر يمنحنا الحياة ونهينه كل يوم" والسؤال الأخير على روعته فضح تيمة القصة وجعلها قريبة دانية القطاف، فماذا لو تركنا القاص/المؤلف نسأل السؤال، فيُدخِل بذلك المتلقي في نسيج جملته الأخيرة كم يكون لدينا من الأسئلة :هل النهر ملاذنا الأخير؟ هل إصبع المدنيين كإصبع الشهداء؟ هل تغيرت الحياة إلى هذا الحد؟ كيف تحولت مؤسسات الدولة التي بذلت من أجلها الدماء والأشلاء إلى ساخرة من البطل القديم؟ وذلك خير من أن يتدخل في السرد بهذه الطريقة.

ب‌- الغياب على مستوى البنية الفنية

وظهر ذلك في القصة الثانية (غروب)، والغروب نوع من الغياب وهو عنوان غامض مثير يلقي بظلاله على بطلة القصة التي ضحت بحياتها من أجل الواجب الاجتماعي، كما جاءت خاتمة القصة أكثر إثارة، وفيها تدفق سردي بديع يجمع بين شاعرية الأسلوب، وشعرية التيمة الفنية، فصوت الراوي المتدفق من جانب ومعه الشخصية الأخرى التي تجلس في ركن الغياب: معنويا وماديا، جعلنا نشعر أن الشخصية في القصة فاعلة على مستوى الحكي خامدة في الواقع، وأن ماهي عليه الآن هو حصاد السنين، فلا نكاد نسمع إلا صوت الراوي بضمير المتكلم المتدفق سردا الذي يستحضر الشخصية الأخرى ويغيبها في الوقت ذاته، وينبهنا أنها غابت عن ذاتها، وتبعثرت في ذوات الآخرين، عبر تضحية كاملة بذاتها وأحلامها التي ضمرت، وعوضت عنها بأشياء أُخر خارج الذات، في هذه القصة- أيضا- تطل الأم من الغياب من عالم الغيب، وذلك من خلال توظيف الحلم كمحفز سردي للأحداث، فالغياب هنا يشارك في صناعة الحاضر وديناميته الفاعلة فنا ومضمونا.
ج- الغياب على مستوى الشخصية
وذلك في قصة (مكوجي رِجْل)، حيث الغياب النابع من التحولات الاقتصادية والاجتماعية، ويبدو الغياب معادلا موضوعيا للموت بعدما أدرك المكوجي أن المهنة تنقرض، والانقراض نوع من الغياب، لكنه متشبث بزمنه، واقع في فخ الاعتياد والألفة، فلم يحاول أن يجاري التحولات والتغيرات التي تحدث من حوله، فكان يفزع إلى التذكر إلى الزمن الآمن الذي يستريح على شاطئه "فتذكر أمه –رحمها الله – خاصة في ليالي الأعياد التي تزدهر فيها نصبة الطبيخ بعد صلاة العشاء؛ ليكون الطعام جاهزا بعد صلاة العيد" صـ22
ودخل الرجل المتشبث بذاكرته في دائرة الغياب مرتين: حين أخبره مأمور الضرائب أن المبلغ المربوط على محله يجب سداده، وحينما أخبرته ابنته أن صاحب البيت الذي فيه دكانه يسعى لهدمه.

ثالثا: الزمن الغائب /الحاضر
توظيف الزمن أحد موجهات الدلالة في المجموعة، حيث يبرز الحمولة النفسية التي لا تزال تعمل عملها في أفعال شخصيات القص وتوجه سلوكهم.
وقد استخدمه القاص بحرفية في قصتين: قصة (الأقدم)، وقصة (قلب مفتوح)، واستخدامه للزمن تم عبر أساليب كثيرة منها: (الاسترجاع) و(التسريع)

ففي قصة(الأقدم)، وضع شخصيتي القصة في إطار زمني متحرك عبر ثلاث حكايات الأولى في الجيش عام(1972)، والثانية لهشام عام(1992) المحاسب في الشركة، والثالثة لمصطفى عام( 2002)، ومع تجاور الحكايات وخط الزمن الصاعد، برزت المفارقة التي تريد القصة أن تبلغها للمتلقين، وهي أن مؤسسة الجيش تَعُدّ الأقدم هو الأحق بالتكرمة والتقدم، وله أن يجلس في الأمام "التعليمات صارمة: "الأقدم هومن يجلس بالكابينة بجوار السائق، والباقون بالصندوق الخلفي" أما في غيرها من المؤسسات فإن الأقدم هو الأقل فهو من يتم التخلص منه؛ فبعدما اكتشفت الشخصيتان أنهما الأقدم كانا في حالة نفسية سيئة وضياع من العمل "امتعض هشام ولوى شفتيه وأدرك أنه صار الأقدم" ويقول في نهاية القصة "ارتعشت شفتا (مصطفى) قائلا في استسلام حاضر، وقد تأكد أنه صار الأقدم"( صـ118)

وفي قصته البارعة (قلب مفتوح)، يترك الزمن آثاره على الشخصية؛ ففعل القتل وشم لا تمحوه السنون، ولا يكاد يخرج من الذاكرة الإنسانية، وربما طفت مخزوناته على القلب، فأراد أن يطهره بفعل الندم قبل أن يعمل فيه المشرط بالجراحة، والقصة ترصد أثر الزمن وحمولته النفسية داخل الشخصيات، فالمريض التسعيني يخبر الممرضة المصرية التي تعمل في مستشفى في لندن بأنه كان جنديا للاحتلال البريطاني في الإسماعلية، وكأنه يتخلص بحديثه معها من حمل ثقيل لم يمْحُه الزمن، وهنا يحول القاص ببراعة عملية القلب المفتوح إلى عمليتين: عملية حقيقية تمت في جو طبي كامل، وعملية نفسية كانت الممرضة فيها رمزا لكل المصريين الذين اعتدى عليهم بالقتل، ويطلب منهم السماح، بتخدير هذا الصوت المزعج صوت الضمير الإنساني داخله، وقد أومأ الراوي إلى هذا من خلال إشارات الشخصية وانفعالاتها ولغتها الجسدية من خلال الابتسامة الخجلى "قال وكأنه ينفض حملا ثقيلا على ظهره لاحظت ابتسامة خجلى على شفتيه، ههمهم كأنه ينتقي كلماته قبل أن ينطق بها كنت في الإسماعلية"، والانفعالات الغامضة "ظل وجه الرجل التسعيني يخايلها بانفعالاته الغامضة"، والابتسامة الشاحبة "أشارت بيده لتحييه فرد بابتسامة شاحبة"، والصوت الخفيض، وارتعاشة الشفتين "رأته يتحسن فاجأها بأن تمتم بصوت خفيض: شكرا يا ابنتي نظر نحوها بامتنان طالت نظرته رأت شفتيه ترتعشان وتهمسان بكلمات" صـ94

لأن الغياب يتسيّد السرد في هذه المجموعة؛ فإن التقنية الأنسب له هي تقنية الاسترجاع التي جعلت من الغائب حاضرا ومن الماضي فاعلا في الحاضر، وظهر في قصص كثيرة مثل: (إصبع ضائعة) حين تذكر الراوي مشاهد الحرب و(فراعنة) في تذكر فهمي و(مكوجي رجل) في تذكره لأمه.
فالشخصيات مشدودة إلى ماضيها البعيد، هذا الماضي هو ما تعيش به، على حين أن الحاضر متغير في حالة سيولة وسرعة وتبدل وتغير.
أخيرا
العالم القصصي لمحمود عرفات يرصد التحولات التي تؤثر على الواقع من خلال ثنائية الغياب والحضور، بلغة قصصية متينة وآسرة في جمل بلاغية مضفرة في نسيج السرد، كما تميزت المجموعة بسرد التفاصيل الصغيرة، واحتوت على كثير من الجمل المضيئة مثل قوله :"المدينة التي لا يمكنني الدفن فيها لن تكون مدينتي" صـ12
في محطات الغياب زمن جميل يتوارى، وإدانة شديدة لواقع لاهث متغير يجرف كل شيء في طريقه .


ليست هناك تعليقات: