أوقفت تاكسي، انجعظت في المقعد الخلفي، قلت للسائق الهندي:
= حي السليمانية.
أومأ برأسه وانطلق، غادر حي الروابي في اتجاه الجنوب عبر طريق صلاح الدين الأيوبي، عند ستاد الملز دار الطريق نحو الغرب، راقبت معالم الطريق التي تميز حي الملز، مستشفي قوات الأمن، ومبنى أبانومي الزجاجي الأزرق الداكن، ثم مجمع العقارية التجاري، تجاوز السائق طريق مكة المكرمة واخترق طريق الملك عبد العزيز، على البعد بدت قاعدة الملك عبد العزيز الجوية التي تخرج منها طائرة الأواكس الأمريكية في تمام الساعة الثامنة من صباح كل يوم لتفضح الأفق المرصود. بعد دقائق انحرف يسارًا في شارع الأمير ممدوح بن عبد العزيز، أشرت له فتوقف. أخرجت عشرة ريالات ودفعتها نحوه في ثقة، فنظر بامتعاض من خاب رجاؤه، وقال بعربيته الهندية الهجين:
= خمسة وعشرين.. معلوم صديق.
قلت بلهجة من نفد صبره:
= ليس معي غيرها.
أخذها وأمارات السخط تتوزع على ملامح وجهه بالعدل. غادرت
السيارة وسرت كمن يعرف طريقه جيدًا، حاولت تذكر وصف الزملاء فلم أقدر، المباني
متشابهة، الساعة تقترب من التاسعة. السيارات تنطلق مسرعة وزجاجها مغلق على هواء
المكيف. بدأ القلق يأكلني، وأنا أسير تحت الشمس الحامية باحثًا عن شخص أسأله دون
جدوى. بعد ساعة من الدوران في الشوارع المتماثلة وجدت نفسي أمام مبني تحت الإنشاء.
دققت النظر في المدخل المعتم المكدس بمواد البناء، رأيت نارًا صغيرة، بزغ الأمل في
رأسي وفكرت، هذه النار تحت كوز شاي يلتف حوله نفر من الصعايدة. وقفت مترددا أمام
المدخل، انتفض من قلب الظلام مارد أسمر يرتدي جلبابًا واسع الأكمام، يلف رأسه بشال
لم أميز لونه، اقترب وهو ينحني إلى الأمام قليلًا كأنما يتفادى اصطدام رأسه بسقالة
خشبية، ما إن رآني حتى صاح فرحًا:
= مصري.. مرحبا يا مصري.
شد الرجل على يدي، ولم يفلتها، ولم يقبل أن يسمع كلامًا
قبل أن أشرب الشاي، شكرته بحرارة ورجوته أن يدلني فقد تأخرت. الرجل رحم توتري
البادي وعرقي النازف فأشار بيده إلى الخلف وقال إنها وراء هذا المبنى بالضبط.
غادرته والفرح يملؤني وينعكس على صفحة وجهه الأسمر الحاني. بعد دقيقة كنت أمام
السور. درت نصف دورة فوجدت البوابة. اقتربت فسمعت وشيشًا كطنين النحل. خطوت إلى
الداخل فميزت الطنين، في الفاصل بين السور والمبنى الداخلي المكون من طابقين،
عشرات مثلي يتحركون في جميع الاتجاهات، يحملون أوراقًا ويتصايحون، دخلت مع
الداخلين. أذهلني المكان، الصالة واسعة ليس بها مقعد واحد للانتظار، لا توجد
أبواب، الحوائط كابية، والإضاءة شحيحة، النوافذ مغطاة بشبكة حديدية يتدافع حولها
المتزاحمون، الوجوه بائسة متأففة، لا يبدو أن أحدًا ينجز مطلبه، ولم أجد أحدًا
أسأله، كل واحد في سوقه. أحد المتعاملين لاحظ حيرتي فأشار إلى ورقة معلقة بجوار
النافذة القريبة، قرأت العنوان: اجراءات استخراج شهادة ميلاد، نافذة ثانية:
إجراءات إضافة مولود إلى جواز السفر، ورقة ثالثة: إجراءات تجديد تصريح العمل، ورقة
رابعة: إجراءات استخراج شهادة الوفاة وشحن الجثمان إلى الوطن، الحمد لله، لم أمت
بعد، سمعني أحد اليائسين وأنا أهمس:
= كأني دخلت سجل مدني كفر البطيخ.
فقال ساخرًا:
= إنك فعلَا في أرض الوطن، أليست القنصلية المصرية قطعة
من أرض مصر؟ تشجعت وسألت:
= كيف استخرج جواز سفر جديد بدل المفقود؟
أمسك الرجل بكلتا يديه، وقال في هلع:
= يا داهية دقي.. لقد دوخوني السبع دوخات لاستخراج شهادة
ميلاد ابني وإضافته على الجواز.
تركني الرجل ومضى، كأنه يخشى من عدوى لا يحتملها، لكنه
قبل أن يبتعد أشار إلى باب صغير في أقصى الصالة، لم ألحظه من قبل، اقتربت فوجدته
مغلقًا من الداخل، نقرت عليه بخفة فلم يجبني أحد، بعد لحظات اقترب رجل ونقر الباب
بطريقة معينة وصاح:
= افتح يا هلال.
فتح هلال الباب، حاولت التحدث مع الرجل فأشاح بيده
مشيرًا إلى الصالة وصاح بصوت نحاسي مجنزر:
= في الشباك.
ودخل، فأغلق هلال الباب، لكني استطعت أن أميز وراء الباب
الصغير بداية السلم الصاعد للطابق الثاني، وكذا صف طويل من المكاتب ملاصق للسور في
الجانب الآخر من المبنى، تشجعت وناديت هلالًا ففتح الباب بحذر وبادرني قائلًا:
= التعليمات مكتوبة بالتفصيل.
هم بإغلاق الباب، استوقفته وقلت له:
= يا عم.. أنا جوازي ضاع.. وأريد بدل فاقد.
هرش رأسه بإصبع السبابة الأيسر وهو يخبرني بالخطوات كأنه
يقرأ من ورقة مكتوبة، عندما هممت بالكلام أغلق الباب، فتحركت أمواج الدموع الحبيسة
المتحفزة، لكني تمالكت وعاودت الكرة، ورجوته أن يصبر عليّ حتى أكتب الخطوات دون أن
تتوه مني واحدة، صبر هلال على مضض ثم أغلق الباب فانفتحت حنفية الدموع، وتذكرت أمي
التي لم ترد سائلًا وقف ببابنا قط، ودارت رأسي...
فصلني صاحب
العمل، ثم أرسل المعقب إلى إدارة الجوازات ليأخذ تأشيرة "خروج نهائي"على
الجواز الذي لم أره منذ أتيت وسلمته للكفيل. ظن الكفيل أنه سيحصل على ختم الطرد من
الجنة في اليوم التالي. وظل كل يوم ينظر إلى المعقب دون أن يسأل ويقول المعقب
بنظراته قبل أن ينطق: غدا بإذن الله.. يصير خيرًا. قربة الصبر ثقبها سن الانتظار،
فأخذ صبري يتسرب نقطة وراء نقطة. صبر الكفيل اندفق فسرحني، قال لي ببساطة:
= لا تأت.
قلت له ببساطة مماثلة:
= ليس معي أوراق، فقد سلمت وثيقة الإقامة، إذا أمسك بي
شرطي سيلقيني في السجن.
تفكر قليلًا ثم أعطاني ورقة تشرح حالتي، ظننت أنه رق
لحالي، لكني عرفت فيما بعد أنه كان يحمي نفسه من خطر استدعائه وسؤاله. كل يوم أذهب
وأسأل المعقب فيجيب: يصير خيرًا. فتسرب نقطة من القربة، قبل النقطة الأخيرة صرخت
فيه: خذني معك. شهر كامل ندور ونسأل في المكاتب الواسعة ذات الأثاث الفاخر، ولا
فائدة. أخيرًا قالوا ببرود: اذهب إلى الشرطة وحرر محضرًا بأن الجواز فقد منك.
اتسعت عيناي دهشة وارتعشت جفوني غضبًا، ولكنه فقد منكم، قالوا بغير اهتمام: هذا هو
النظام، فقررت طلب النجدة من القنصلية المصرية، ذهبت إلى عبد المعين.
بين قسم شرطة
الملز والكفيل والغرفة التجارية والجوازات والقنصلية كاد الإجهاد يتلفني، زرت
صديقي خيري، سألني فأجبته، نظر نحوي بإشفاق، رن جرس الهاتف فرفع السماعة وأجاب
محدثه، طال الحديث فغفوت ثم أفقت على صيحة أطلقها، نظرت إليه في دهشة، كان يخبط
بيده على جبهته ويهتف معلنًا أنه حمار، بادلته السخرية قائلًا له إن هذا خبر قديم،
فواصل حديثه وابتسم وهو ينهي المكالمة معلنًا محدثه أنه آت من فوره. ارتدى خيري
ملابسه وهو يحثني على الذهاب معه، قمت وأنا لا أفهم شيئًا، ركبت بجواره في السيارة
وغرقت في الصمت، أشاح بيده وقال كأنه يحدث نفسه:
= كيف لم أنتبه لمرسي.
سألته بإهمال:
= من مرسي هذا؟
قال بفرح حقيقي:
= أحد الدبلوماسيين العاملين في السفارة المصرية
بالرياض.
أخذ خيري يتحدث عنه وأنا لا أسمع شيئًا، معقول هذا؟ بعد
كل هذا التعب؟ وهل يمكن أن يفيدنا بشيء؟ بعد ربع ساعة كنا نقف أمام إحدى البنايات
في شارع العليا، في الدور الثاني كان يسكن مرسي الذي رحب بنا وأحاطنا بجو من
الحفاوة والدفء، سألني فحكيت له، قال ببساطة:
= قابلني صباح الغد أمام القنصلية.
في الصباح
كنت أقف أمام القنصلية.. في الثامنة تمامًا حضر مرسي، أخذني من يدي ومضى في طريقه
إلى الداخل، لم تكن هناك أبواب، ولم أر نوافذ ولا بشرًا يتزاحمون، حتى هلالًا لم
أره، كنت مأخوذا، أفقت ونحن نصعد السلم إلى الطابق الثاني، دار مرسي على المكاتب
يحيي الزملاء فوقفوا يصافحونه باحترام، عرفهم بي، فنلت ما ناله من احترام. أجلسني
في أحد المكاتب واستأذن في الذهاب إلى مكتب القنصل العام، في دقائق انتهى كل شيء،
لم ينتظر مرسي أن أسأل، بادر بالإجابة قائلًا:
= قلت للقنصل إنني أعرفك معرفة شخصية وإنني أطلب استخراج
جواز السفر على مسئوليتي فوافق. حاولت أن أشكره لكنه منعني بحزم، وأفهمني أنه لا
يستطيع أن ينسى أفضال خيري عليه، قال إنه سيتسلم الجواز نيابة عني وطلب أن أمر
عليه في المساء مع خيري لاستلامه.
أمسكت
بالجواز في منزل مرسي فكان مذاق الفرحة مركبًا من عدة طعوم يصعب وصفها، حتى أنني
غرقت في صمت يغلب عليه الحزن، صاح خيري منبهًا:
= مالك يا عم.. الجواز في يدك.. اشكر عمك مرسي.
حاولت الكلام فلم أستطع، استطاع مرسي أن يضبط ميزان
القعدة، فسرت موجة من الود والبهجة، وتوزعت الجلسة بين حكايات الوطن وهموم الغربة.
هممنا بالانصراف فنبهني مرسي أن ورائي شوطًا طويلًا من الإجراءات في الجوازات لوضع
تأشيرة الخروج النهائي على الجواز.
موظفو
الجوازات، إيقاعهم بطيء، وإذا احتد مصري حام على موظف سعودي فإن الموظف لا يزد عن
قوله بهدوء:
= إيش فيك يا مصري.. اصبر بالله عليك.
ونظل نلحم قربة الصبر المخرومة دون جدوى، انتقلت من طابق
إلى طابق، ومن طابور إلى آخر، ومن نافذة إلى أخرى، لكن الحق يقال، النظام الواضح
جعلني أهدأ، أخيرا جاءت اللحظة الحاسمة، يا مسهل يا رب، بعد لحظات أتسلم الجواز
وأنكشح من هنا، وتوبة، ربنا ما يعيدها أيام، سرحت في التأشيرة، والحجز، والطائرة،
وهواء الوطن، وحضن أمي، والتنبلة على مقهى الأحمدية أمام مسجد السيد البدوي في
العصاري، ومبسم شيشة التمباك في فمي، انتظر حضور الصحاب، نطلق النكات ونراقب ساحة
الميدان العامر بالبشر و.... أفقت من حلمي على صياح شديد، في البداية لم أفهم
الحكاية، وفضلت ألا أفهم، فقد اقترب دوري في استلام الجواز. تسمرت في مكاني بالطابور،
بينما الصياح مستمر، يأتي من بعيد ويقترب من مكتب المدير الذي نقف أمامه، الحمد
لله، وصلت للشباك، تفرس الموظف في ملامحي وأعطاني الجواز. انتحيت جانبًا وراجعت
بياناته جيدًا، ووضعته في جيب السترة الداخلي وهممت بالانصراف، أوقفتني الضجة التي
وصلت إلى مكتب المدير، الجندي السعودي يحاول تخليص يده من الآخر، والآخر متشبث به
يقوده نحو مكتب المدير، الآخر كان مصريًا فقد جوازه، ثم بدأ يفقد أعصابه من كثرة
تردده، ويبدو أنه في هذه اللحظة فقد صوابه، خرج المدير من مكتبه وقال بهدوء مثير:
= ايش فيك يا مصري.
سرت عدوى الهدوء إلى المصري، فسكن قليلًا وبدأ يشرح:
= ثلاثة أسابيع أبحث فيها عن جوازي عندكم ولا فائدة،
واليوم وأنا أتحدث مع هذا الرجل لمحت جواز سفري مثني تحت رجل المكتب ليضبط اتزانه.
رد المدير بلهجة حانية:
= وكيف عرفت أنه جوازك.
= أكيد هو جوازي.. لأنه جواز مصري.
= دعنا نرى.
مد الرجل يده وأخذ الجواز من يد الجندي، وأخذ يقرأ الاسم
ببطء، ثم التفت للمصري وسأله:
= هل هذا اسمك؟ رد المصري ذاهلًا:
= ليس هذا اسمي.. أين جوازي إذن؟
مددت يدي لأتأكد من وجود جوازي الجديد في جيب السترة
الداخلي، وأسرعت لأذوب في الزحام قبل أن أسمع المدير ينطق باسمي ثانية.
كفر الزيات في 21/3/2003م
هناك تعليق واحد:
قصه شيقه واقعيه ما اصعبها حقيقه واجملها سردا. دمت متألق
إرسال تعليق