الأستاذ/ اسلام الوكيل |
كانت الخطوة التالية في الإذاعة المصرية ترتكز علي فكرة تسجيل مصحف مرتل ، وكانت الفكرة جريئة وغير مسبوقة ، كما أنها مكلفة جدا بالنسبة للإذاعة الوليدة -إذاعة القرءان الكريم- وكانت بداية الفكرة تقوم علي أساس اختيار ثلاثة من أكابر القراء علي أن يقرأ كل قارئ منهم عشرة أجزاء يتم تسجيلها ومن ثم إذاعتها بعد ذلك بعد مراجعتها وفحصها فحصا دقيقا بواسطة أكابر علماء القراءات ،وبالفعل تم اختيار الشيخ الحصرى والشيخ مصطفي إسماعيل والشيخ عبد الباسط ، وتم عرض الفكرة عليهم ، وكان جوابهم الموافقة ولكن بشرط ، فالشيخ مصطفي والشيخ عبد الباسط رأيا أن تسجيل هذا المصحف سيحتاج إلي جهد كبير ،أيضا سيدر دخلا كبيرا علي الإذاعة ، وعليه فلا بأس أن يستفيدا ماديا من هذا الأمر ، وعليه أبلغا الإذاعة بموافقتهم شرط الحصول علي مبلغ خمسمائة جنيه مقابل التسجيل ، أما الشيخ الحصرى فقد اشترط أن يسجل العشرة أجزاء دون مقابل حسبة لله تعالي ،ونظرا للمبلغ الكبير وقتها الذى طلبه الشيخ مصطفي والشيخ عبد الباسط فقد توقفت الفكرة ، وحين علم الشيخ الحصرى بذلك توجه للإذاعة وهو يعرض عليهم تسجيل المصحف كاملا دون تقاضي أية مبالغ مالية مقابل التسجيل ، مع احترامه الشديد لوجهة نظر زميليه ،وعليه بدأ تسجيل المصحف المرتل بصوت الشيخ الحصرى في حضور أكابر علماء القراءات الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة إلا توقفوا عندها وقوموها ، فقد كان المشروع الأساسي هو أن يكون لدى المسلمين مصحفان أحدهما مطبوع والأخر مسموع ،ووصل الشيخ الحصرى لتسجيل نصف القرءان ، لكنه توقف حين شك في نقطة خاصة متعلقة بالنطق الصحيح ، وراجع علماء القراءات ،وأخيرا قرر أن يعيد تسجيل المصحف من جديد ، وهو أمر غاية في الصعوبة والتكاليف ، وبعد وقت طويل تم الانتهاء من تسجيل أول مصحف مرتل بصوت الشيخ الحصرى ،ليصل القرءان المسموع مرتبا إلي المسلمين في كل مكان علي سطح المعمورة ،ليس هذا فحسب ،بل يصبح مصحف الشيخ الحصرى هو العمدة في المراجعة والتعليم ، ثم ينضم إلي هذا العمل باقي المشايخ الذين سجلوا المصحف المرتل بالإذاعة ،فكان الشيخ مصطفي إسماعيل ثم المنشاوى ثم عبد الباسط ثم البنا ، وبذلك أصبح لدى الإذاعة خمس مصاحف مرتلة تذاع بالتتابع بشكل يومى إلي يومنا هذا ؛
وكل مصحف له طعمه ومذاقه الخاص بصاحبه، انتهى تسجيل المصحف المرتل ولم ينته الحديث
بعد أن تم تسجيل المصحف المرتل برواية حفص عن عاصم بصوت خمسة من مشاهير القراء ،كانت المرحلة التالية وهى تسجيل مصاحف أخرى بروايات أخرى ،فكان صاحب السبق الشيخ الحصرى حين سجل مصحفا برواية ورش عن نافع ثم مصحفا آخر برواية قالون عن نافع ،ثم المصحف المعلم الشهير والذى يعد مرجعا لكل متعلم لأحكام التلاوة ؛
ومن هنا كان دور الإذاعة الرائد في ظهور المصحف المسموع بأشكاله المختلفة ،ذلك الدور الذى كان نواة إنشاء إذاعات أخرى في دول مختلفة تؤدى نفس الدور مع ملاحظة الفارق بينها وبين إذاعة مصر ؛
والحقيقة التى لاشك فيها أن طريقة اختيار القراء ولجان المراجعة والتدقيق التى تواجدت وقتها عند تسجيل كل تلاوة أو كل مصحف هى أهم أسباب إنشاء جيل من القراء لم يتكرر ، ولنضف إلي ذلك القراء أنفسهم الذين كانت نشأتهم نشأة قرءانية خالصة في ظل الكتاب وشيخه المربي والمعلم الذى كان يحمل رسالة وأمانة ؛
وسنعرض لهؤلاء القراء فيما هو قادم بإذن الله تعالي تفصيلا ،
أما عن القراء فكان عددهم كثير جدا منهم من قرأ بالإذاعة ومنهم من عزف عنها لأسباب مختلفة ،لكن في الأخير كانوا جميعا عمالقة بمعنى الكلمة ، وكانت مدارسهم مختلفة الشكل والمذاق ،لذا فلا وجه إطلاقا للمقارنة بينهم ، إذ إن المقارنة بينهم تشبه المقارنة بين الطبيب والمعلم أو بين المحامى والمهندس ، وبالتالي فهى مقارنة فاشلة لا قيمة لها ،لكن يمكن القول إن أكثرهم شهرة الشيخ رفعت والشيخ عبد الباسط والمنشاوى والحصرى ومصطفي إسماعيل والبنا ، أما الشيخ رفعت فشهرته معلومة للقاصي والداني ،وأما الخمسة الباقون فسبب شهرتهم الطاغية المصحف المرتل ، وذلك لايعنى أنهم أعلي القراء وأحسنهم ،بل هناك عظماء آخرون ربما امتلك كثير منهم إمكانات أكبر ومساحات صوت أعلي من هؤلاء الخمسة ،وعلي كل فنحسبهم جميعا علي خير ،
ومع ظهور تلك الكوكبة الفريدة من قراء القرءان الكريم تعلق الناس بهم وأحبوهم ووجدوا عندهم ما يروى غلتهم ويشف صدورهم ، ولا شك أنهم قد حملوا رسالة عظمى للمسلمين في كل مكان ، لذا فمن الواجب علينا هنا أن نكشف عن الجانب الروحى في شخصياتهم حتى نعرف مدى علاقتهم بربهم ومدى احترامهم لكتاب الله عز وجل ؛
فالشيخ محمد رفعت صاحب القلب الطيب حين مرض في آخر عمره قام أحد الصحافيين بعمل اكتتاب لجمع مبلغ كبير من المال لعلاج الشيخ ، لكنه رفض بشدة أن يأخذ قرشا واحدا ، وقال عندى ما يكفيني ،علي الرغم من كونه كان يبيع من أثاث بيته لينفق علي علاجه ، فهو ليس بالباحث عن المال ، فقط هو يقرأ لأنه يحب أن يقرأ ،وأما الشيخ مصطفي إسماعيل فهو المعروف بأناقته وشياكته ، فقد شعر بوفاته قبلها بساعات ، وكان لأول مرة يطلب من سائقه تغطية السيارة لأنه لم يعد في حاجة إليها بعد الآن ، كذلك الشيخ محمود علي البنا قبل وفاته بساعات يستدعى ابنه أحمد ليقص عليه ما سيحدث بعد وفاته ،ومن سيصلي عليه ومن سيأتى في عزائه وكأنه يشرح فيلما سينمائيا ،
أما الشيخ المنشاوى فهو الذى أرهق الأذاعة إرهاقا شديدا عند تسجيل مصحفه المرتل ،فهو لا ينقطع عن البكاء خصوصا حين وصل إلي سورة ق ،واستغرق الأمر في تسجيلها ساعات بسبب بكائه الشديد أثناء التلاوة ،
ويمكن القول إن هؤلاء القراء كانوا من عالم روحانى بمعنى الكلمة ، فهم عاشوا للقرءان فأعلي القرءان ذكرهم ،
والحق يقال إن دور الإذاعة كان عظيما في وصول تلك الأصوات إلي المستمعين ،وهذا أمر لا ينكر وجهد يشكر ، بيد أنه مع تعاقب الإدارات في الإذاعة اختفي قسط كبير من تسجيلات القرءان الكريم إما بمسح الأشرطة المسجل عليها لتسجيل برامج أخرى ،وإما بحبس تلك التسجيلات والاكتفاء بعدد بسيط منها يذاع مكررا في رمضان وغير رمضان ،
أيضا مع ظهور القراء ظهر جيل من المنشدين والمبتهلين لايقل عن جيل القراء ،مع وجود قراء جمعوا بين القراءة والإنشاد ،وعلي رأسهم الشيخ علي محمود والشيخ طه الفشنى والشيخ كامل يوسف البهتيمى ،أما المنشدين فقسمان قسم يؤدى الإبتهالات وعلي رأسهم الشيخ سيد النقشبندي والشيخ نصر الدين طوبار والشيخ محمد عمران ، لكن علي قمة المبتهلين يتربع الشيخ النقشبندي بلا منازع ،
القسم الثانى وهو التواشيح .وعلي رأسها الشيخ علي محمود وتلميذه النجيب الشيخ طه الفشنى والذي يقال إنه فاق أستاذه في فن التواشيح الدينية ؛
تلك كانت معالم دولة التلاوة الجميلة في عصرها الذهبي والتى انتهت بداية من أواخر السبعينات ليحل محلها أصوات خشنة تميل إلي الغناء أكثر مما تميل إلي القرءان الكريم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق