الأستاذ/ محمد حسين الشيخ
كاتب مصري، عمل كصحافي تحقيقات، وكاتب مقالات لعدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية منذ عام 2004، وكان مساعدا لرئيس تحرير موقع دوت مصر، ومهتم بالتاريخ والفن. وابن قليب ابيار بكفرالزيات
"الوَلِي" و"الوالي"، لقبان أولهما ديني صوفي، والثاني سياسي ملكي، ويشتركان في نفس الجذر اللغوي، وكلاهما له "ولاية" أو "سيادة" على الناس؛ فالأول له ولاية روحية، والثاني له ولاية سياسية دنيوية. وشاع في الأدبيات الصوفية مناداة مشايخ الصوفية بلقب "سيدي"، تماماً كما يُنادى على الملوك والسلاطين.
كذلك نلحظ أن الكثير من كبار ومشاهير الصوفية يلقبون بلقب "السلطان"، هذا اللقب الملكي المعروف، فنجد ابن عربي يلقب بـ"سلطان العارفين"، ونفس اللقب أخذه جلال الدين الرومي، ومن قبلهما إبراهيم بن أدهم وأبي يزيد البسطامي، وكان العزّ بن عبد السلام يلقب بـ"سلطان العلماء"، وكذلك لُقّب بهاء الدين ابن جلال الدين الرومي بـ"سلطان ولد"، كما لُقّب ابن الفارض بـ"سلطان العاشقين"، وعرف شمس الدين محمد الحنفي بـ"السلطان الحنفي".
قد يعتبر البعض أن المسألة مجرد بلاغة لغوية؛ ومن المعروف أن الصوفية من خلال كتاباتهم، وخاصة الشعر، أعادوا استخدام كلمات وموضوعات وأفكار اجتماعية وعاطفية سابقة عليهم، ووظّفوها كرموز واستعارات لغوية بلاغية لخدمة أغراضهم الروحية الدينية، حسبما يوضح الباحث في الدراسات العربية، بلال الأرفه لي، في دراسته Walking in the Steps of Poets: Courtly Themes in Early Sufism.
ولكن تبين أن الفكرة السلطوية عندهم تتجاوز اللغة، حيث نلاحظ أن الحياة الصوفية نفسها تكيفت مع الحياة السياسية الملكية في القرون الوسطى، وأصبحت موازية لها، متماهية معها في سلطويتها، وأصبح مشايخ الصوفية سلاطين وملوك وأمراء، خاصة بعد أن تطور التصوف من الفردية إلى المؤسسية، بعد أن انتظم المتصوفة في "الطرق" و"الخانقوات".
متى بدأ ذلك داخل التصوف الإسلامي؟ وما مظاهره وتجلياته في الواقع الصوفي؟ وما جذوره داخل الثقافة الإسلامية وداخل ديانات أخرى؟ هذا ما نجيب عنه في هذا المقال.
في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، أصبح للصوفية مكانة سياسية كبيرة، وبدا تأثرهم بالحياة السياسية في أدبياتهم وسلوكياتهم، ونما الأمر بقوة خلال الدول التي تلت السلاجقة في المنطقة
من الزهد إلى السلطنة
الفكرة العامة للصوفية هي الزهد، ورفض المتصوفة الأوائل في القرن الثاني الهجري، السعي وراء السلطة، بل مالوا إلى التواضع والفردانية والعزلة، وهناك نماذج كثيرة لهذا السلوك، وأهمهم إبراهيم بن أدهم، وكان من أبناء ملوك مدينة بلخ الإيرانية، يعيش مترفاً وتنازل عن كل ذلك وهاجر إلى الشام، وعاش زاهداً متصوفاً في البادية والحقول، حسبما نفهم من "الرسالة القشيرية" للقشيري.
وفي العصر السلجوقي، ولاسيما منذ عهد الوزير نظام الملك في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، أصبح للصوفية مكانة سياسية كبيرة وبدا تأثرهم بالحياة السياسية في أدبياتهم وسلوكياتهم، ونما الأمر بقوة خلال الدول التي تلت السلاجقة في المنطقة (الأيوبيين ثم المماليك في مصر والشام، العثمانيين في الأناضول، الصفويين في إيران الحالية)، حسبما رصد الباحث في العلوم الإسلامية Luca Patriz خلال دراستهSufi Terminology of Power.
ممارسات سلطوية ملكية داخل العالم الصوفي
هناك أكثر من نظام سلطوي تكون داخل الحياة الصوفية، سواء الروحية أو المادية؛ ففي العالم الروحي نظم الصوفية لأنفسهم مراتب ودرجات وصولاً إلى قمة الهرم السلطوي الروحي الصوفي حيث يقع "القطب"، وسلطاته الروحية تفوق أي سلطة دنيوية، فهو موضع نظر الله من العالم، هو صاحب الزمان وصاحب الوقت والحال، هو المتحقق بجمعية البرزخية الأولى، المطلع على حقائق الأشياء، الخارج عن حكم الزمان وتصرفات ماضيه ومستقبله إلى الآن.
ويلي القطب في الترتيب "الأوتاد": وهم رجال أربعة على منازل الجهات الأربع من العالم، أي الشرق والغرب والشمال والجنوب، بهم يحفظ الله تلك الجهات لكونهم محل نظره. وكأن القطب هو حاكم الأرض كليةً نيابة عن الله، وينوب عنه هؤلاء الرجال الأربعة في الحكم، كل في مكانه.
ويندرج تحت القطب والأوتاد مجموعة من الرجال، الذين يتحكمون في الحياة الروحية على الأرض، وهم: البدلاء، النقباء، النجباء، العارفون، العلماء، الشيوخ، والأولياء.
يكوّن أكثر من نظام سلطوي داخل الحياة الصوفية، سواء الروحية أو المادية؛ ففي العالم الروحي، نظم الصوفيون لأنفسهم مراتب ودرجات وصولاً إلى قمة الهرم السلطوي الروحي الصوفي حيث يقع "القطب"، وسلطاته الروحية تفوق أي سلطة دنيوية
ومن الطقوس المادية التي استعارها الصوفية من السلطة الملكية ولكن ألبسوها شكلا روحانياً طقس "الخِرْقة الصوفية"؛ فالولي لا يصنف كولي إلا بعد أن يُلبسه شيخه بعضاً من ملابسه الخاصة، اعترافاً منه بأن تلميذه صار ولياً، في مراسم تشبه المراسم ملكية، بحسب وصف الصوفي الشهير عبد الوهاب الشعراني نفسه في كتابه "الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية"، حيث قال عن طقس إلباس الخرقة: "كالخلعة من الملك".
والخلعة الملكية، بحسب تعريف حسن حمامي في "الأزياء الشعبية.."، هي ما يخلعه الملك من ثيابه على المقربين، إما لمبادرة أعجبته أو تكريماً لهم لما قاموا به من الأعمال.
من هذه الطقوس التي طوعت من المادية الملكية للروحانية الصوفية ما يعرف بـالعهد بين الشيخ وتلميذه، وهو ميثاق مقدس أو بيعة من التلميذ للشيخ على السمع والطاعة، كبيعة الناس للخليفة أو الملك في الإسلام، وهي ثقافة ممتدة من القرآن نفسه، ففي كتاب المسلمين المقدس يأخذ الله العهد على أنبيائه أن يبايعوا نبيه محمد وينصرونه: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ"
وفي القرآن أيضا يعاهد الله البشر أن يؤمنوا به: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ".
شيخ شيوخ الخانقاه: سلطة ملكية "مادية"
أما الممارسات المادية الملكية الصوفية البحتة فتظهر لنا بقوة داخل الخانقاه، تلك المؤسسة الدينية الشهيرة التي كانت سكناً ومقراً للمتصوفة، والتي وصفها ابن جبير الأندلسي في "الرحلة" بأنها "قصور فخمة"، مبرراً فخامتها بأن ساكنيها من الصوفية كانوا "الملوك في تلك البلاد"، وذلك بعد أن شاهد خانقوات دمشق في القرن السادس الهجري.
يلي القطب في الترتيب الصوفي "الأوتاد": وهم رجال أربعة على منازل الجهات الأربع من العالم، أي الشرق والغرب والشمال والجنوب، بهم يحفظ الله تلك الجهات لكونهم محال نظره. وكأن القطب هو حاكم الأرض كليةً نيابة عن الله، وينوب عنه هؤلاء الرجال الأربعة في الحكم، كل في مكانه
وداخل الخانقاه كانت تقام مأدبة تشبه مآدب الملوك؛ ففي قصور الملوك يجلس الملك على عرشه مترأساً المجلس، ومن على يمينه ويساره حاشيته، وبينهم من يغني ومن يسقي، وكذلك كان يجلس شيخ الخانقاه وحوله المتصوفة بنفس الشكل، يطربون ويشربون بل ويسكرون (روحياً) من الغناء الصوفي.
وكانت الخانقاه هي المؤسسة الدينية الحاكمة والأساسية في مصر والشام في العصر الأيوبي والمملوكي، حيث تمثل سلطة دينية موازية لسلطة السلطان، رغم أنه من كان يعين حاكم هذه الخانقاه "شيخ الشيوخ" الذي يقود الحياة الصوفية في مصر والشام، حسبما نفهم من دراسة أستاذ تاريخ الأديان ناثان هوفر Nathan Hofer المعنونة بـ The Origins and Development of the Office of the (Chief Sufi) in Egypt, 1173–1325.
ويوضح هوفر أن "شيخ الشيوخ" أعلى سلطة دينية في السلطنة، كان يدير الصوفية من داخل خانقاه دمشق، ثم خانقاه "سعيد السعداء" في القاهرة في العصر الأيوبي، ثم خانقاه سرياقوس -على أطراف القاهرة- منذ عهد السلطان المملوكي الناصر محمد، وتتبع الخانقاه الرئيسية وشيخها خنقاوات فرعية في جميع أنحاء السلطنة المملوكية. وكأن شيخ الشيوخ هو السلطان ومن يتبعوه من مشايخ على رؤوس الخانقوات الفرعية كالولاة الذين يعينهم السلطان لإدارة مدن سلطنته.
مظاهر الملكية موجودة حتى في الحياة الصوفية الحديثة أيضاً، ومنها أن لائحة المجلس الأعلى للطرق الصوفية المصرية التي وضعت عام 1910، جعلت تولي مشيخة الطرق الصوفية بالوراثة كالنظم الملكية التقليدية، حيث نصت اللائحة على أنه في حالة وفاة شيخ الطريقة يخلفه على قيادتها أكبر أبنائه الذكور، فإن لم يتوفر فأحد أقاربه الذكور، فالطريقة تسمى باسم الشيخ، وبالتالي فإن من يخلفه عليها لابد أن يحمل اسمه، كالدول الملكية تسمى باسم مؤسسها، وتظل محتفظة باسمه في عهود ورثته.
من أين استمد الصوفية سلطتهم الدينية؟
الأديان الإبراهيمية تصور الله كملك؛ ففي اليهودية والمسيحية يتم التعامل مع الله في الكتاب المقدس بألقاب "ملك اليهود"، "ملك العالم" "مالك الكون"، "ملك الملوك".
وفي الأيقونات البيزنطية، من القرن السادس إلى القرن السابع، نجد نقوشاً عن المسيح باعتباره "ملك الكون"، حيث يجلس المسيح على عرش سماوي، وفي العديد من التصاميم تُدعى السيدة العذراء بـ"الملكة"، حسبما يرصد Luca Patrizi.
وفيما سبق نجد اندماجاً تاما بين المعنى السياسي والمعنى الديني، فالملك هو الخالق وهو الحاكم، هو الدين وهو السياسة في آن واحد.
من الطقوس المادية التي استعارها الصوفية من السلطة الملكية ولكن ألبسوها شكلا روحانياً طقس "الخِرْقة الصوفية"؛ فالولي لا يصنف كولي إلا بعد أن يلبسه شيخه بعضاً من ملابسه الخاصة، اعترافاً منه بأن تلميذه صار ولياً، في مراسم تشبه المراسم ملكية
الثقافة الإسلامية ورثت الكثير من الثقافة الإسرائيلية وإن عدلت فيها، فنجد القرآن يذكر قصص داوود وسليمان، وفيهما تجسّدت صورة "النبي الملك"، ولكن الأمر لم ينطبق على النبي محمد، فلا تتعامل معه الثقافة الإسلامية كملك، رغم أنه كان فعلياً يمارس السلطة السياسية على مجتمع المدينة، ثم على شبه الجزيرة العربية تقريباً.
ولكن منصب خليفة المسلمين (الحاكم العام للمسلمين)، أخذ سلطات دينية سياسية واضحة، واجتهد فقهاء المسلمين في تقديسه دينياً، حتى جعله البعض مثل الصوفي الشهير أبو حامد الغزالي "خليفة لله في الأرض"، حسبما جاء في كتابه "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية".
كذلك فإن التصور عن الله في الإسلام يشبه كثيراً تصور اليهودية والمسيحية، فمن أسمائه "الملك"، وله عرش وكرسي، حتى وإن حاول البعض تفسير الأمر كمجاز، إلا أن البعض الآخر اعتبر أن هناك عرشاً وكرسياً وملكاً يجلس عليهما حتى ولو كانت أوصاف هذا الكرسي وهذا العرش أسطورية، وحتى ولو كان الله "ليس كمثله شيء" لأن القرآن نفسه ذكر ذلك نصّاً.
أخذ منصب خليفة المسلمين (الحاكم العام للمسلمين) سلطات دينية سياسية واضحة، واجتهد فقهاء المسلمين في تقديسه دينياً، حتى جعله البعض، مثل الصوفي الشهير أبو حامد الغزالي، "خليفة لله في الأرض"
هذه البيئة الدينية السياسية تسللت تدريجياً إلى التصوف، فوجدنا الصوفي الشهير أبو القاسم القشيري يقدم في "لطائف الإشارات" ترتيباً سلطويا لله والبشر، فيجعل من الله ملكاً، ويقسم المسلمين (رعيته) أمامه إلى طبقات، وأرقاهم وأقربهم للملك هم الصوفية "الأولياء، وأرباب القلوب وأصحاب الصفاء"، حيث يقول:
"فعوامُّهم كالرعية للمَلِك، وكَتَبَةُ الحديثِ كخُزَّان المَلِك، وأهلُ القرآن كحُفَّاظ الدفاتر ونفائس الأموال، والفقهاء بمنزلة الوكلاء للمَلِك... وعلماءُ الأصول كالقُوَّادِ وأمراء الجيوش، والأولياءُ كأَركان الباب، وأربابُ القلوبِ وأصحابُ الصفاء كخواص المَلِكِ وجُلَسائه".
إذا ما نظرنا لعقيدة الصوفية في "الاتحاد" ونضعها بجانب هذه التأثيرات السلطوية، يمكن أن نحصل على نتيجة وهي أن "أهل الله وخاصته"، الذين يتحدون به، فيصيرون كأنهم هو وكأنه هم، فهو سمعهم الذي يسمعون به، وبصرهم الذي يبصرون به، ويدهم التي يبطشون بها، وفقاً للحديث القدسي الشهير، الذين يتحدون بأسمائه وصفاته، هم ببساطة ملوك لأنهم متحدون بـ"الملك"!
البعض حاول تقديم مبررات روحانية لهذا المعنى، مثل علي بن جعفر السيروان الذي قال في كتابه "أدب الملوك في بيان حقائق التصوف"، إنه سمى كتابه بهذا الاسم لأن الصوفية زهدوا عن جميع أسباب الدنيا فصاروا "ملوكاً"، واستراحوا وطابت قلوبهم ونفوسهم، و"كيف لا يستحقون اسم المملوكية وليس لهم همة غير الله عز وجل؟!".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق