على نفس الرصيف الذى لم يغيره الزمن، خلقنا لنشقى لا لنستريح.
بينما جلس حسن يستريح قليلًا فى الهواء وهو يتمتم بنفس الجملة التى يحفظها.
فى ليلة كهذه ضجت الحانة بالزبائن من العربجية احتفالًا بزفاف ابنة زميلهم علوان العربجى فى أول أيام العيد، على عبدالبارى الذى استأجر غرفة من الأوقاف فوق السطح أعلى الخمارة، وغمره الفرح لأن الشغل تحت السكن، وأنشد الأستاذ عارف شعرًا، وجاء سالم على غير عادته مصطحبًا بعض موظفى مجلس المدينة للمباركة وشراء زجاجات الكونياك الصغيرة لزوم سهرة العيد.
فى الغالب كان سالم يرسل الخادمة الصغيرة لشراء طلباته، أو يأتى فى عجالة يشترى ما يريد ويرحل،
لم يرتد الحانة واحتسى كأسًا وجلس فيها، إلا أنه هذه المرة جلس كثيرًا وبارك لعبد البارى وشرب معه، وأهداه نفحة من علبة العطار لتكتمل ليلته، ولم يخف عبدالبارى فرحته بابنة العربجى المليحة، وأمها التى انقطعت عن اقتحام الحانة وتوبيخ زوجها مقتنعة بنصائح عريس ابنتها، الذى أدخل مشروبات المقاهى على المحل، مثل الينسون والشاى والقهوة والحلبة والزنجبيل، وتوزيعها كطلبات على المحلات المجاورة، وأعاد العلاقات التى كانت شبه منقطعة بين الجيران، الترزى والجزار والجزمجى، بسبب فاروق الذى تكبر عليهم بعد زواجه من الخوجاية تارة، وبسبب حسن الذى عزف عن خدمتهم بتوصيل طلباتهم فى محلاتهم وتوبيخهم له وشكواهم لإمام الجامع.فرحت به الخوجاية لزيادة الدخل وشراء المزيد من المصاغ الذى ترصه بعناية فى معصميها وخواتم أصابعها، ويلمع القرط الكبير فى أذنيها.
ذاق حسن طعم الراحة من العمل، مكتفيًا بنظراته المشحونة بالعشق والشوق فى صمت، يتوقف عند حافة صمته عندما يشرع فى اعترافه، يكتفى بعزلته ويوخزها، تلك العزلة شبه المستديمة، ويحاور خياله عن روانيزا تلك الخوجاية التى خدعته بنظراتها والتصاقها به بحوارات عن الدفء والمستقبل منذ شب بين نهديها النافرين، حتى فوجئ بزواجها من هذا الفاروق كى لا ترحل مع من رحلوا من جالياتها، كيف رضيت بفاروق؟ هذا الأبيض البارد كلوح الثلج الذى لم يثبت رجولته وينجب منها كما كانت تتمنى.
يكتفى بأن يلملم أفكاره الشاردة، ويندب حظه الذى أقعده كل هذه السنوات التى سلمته للشيخوخة والوهن دون امرأة تدفئ فراشه، ودون عائق سواها.
وعبدالبارى من الفراغ يسعد فى تكوين عائلة له تاركًا معلمه فى فراغه الأبدى والمشقة والتوارى خلف متاهات الوهم، وفراغ آخر للغرفة التى شاركه فيها سنوات صباه ومقتبل شبابه.
يصعد عبدالبارى للسطح يضاجع جمال وحلاوة بنت العربجى فى حضن القمر، بينما يرتمى هو فى حضن وسادته ويضاجع ذاكرته المهترئة وقلبه الخافق يردد قولها له: هذه الحانة جنيناها من حبنا يا حسن، إذا تصدع سنغرق جميعًا، ولم نجد ما نأكله، سيأكلنا جميعًا السمك المتوحش الذى ينتظرنا بالخارج بفارغ الصبر.
كان يشعر أن رسالة أبويه تصله، فيجتهد ويكد ويدعو الله فى كل صلاة أن يبارك فى جهده وأن ينعم قريبًا بهذه الجميلة التى هبطت عليه من السماء مع المطر.
أصبحت كل أحلامه صدى لصوته المحبوس، يريد أن يصرخ بكل حياته السابقة كما صرخ من قبل أثناء محاكمة غازى ابن العربجى الذى تسلل إلى شقتها ليلة عيد، ليسرق مدخراتها والذهب، فاجأته بوجودها تلك الليلة فقتلها بينما رأيته يصطحب جريشة ابن عبدالبارى الذى انصاع له.
تهتز المدينة النائمة فى الحلم على مقتل الخوجاية.
وأدليت بشهادتى وحكيت ما رأيته.
ليكتشف الجميع أن مصوغات الخوجاية كلها قشرة، فالصو، عيرة، وأن كل مدخراتها كان يأخذها فاروق، وصرخت فى غازى، حرام عليك، ثم فى وجه عبدالبارى وزوجته وابنه جريشة، حرام عليكم.. حرام عليكم، وهم لا يعرفون أن القتيل هو قلبى وأحلامى وحياتى التى فلتت منى كلها.
خرج جريشة من السجن، اصطحب بلطجية ليطردونى من المحل.
يطأطئ عبدالبارى رأسه محتضنا أولاده وصبيانه، وأنا العجوز اللامادى بعد أن كنت الفرعون القصير.
فى ليلة كهذه، الليل يتنفس حزنًا باردًا، سار الشبح يترنح، ثملًا من احتفال الخروج من السجن، زجاجتان من الكونياك المستورد أذهبتا العقل، والروح تترنح وأذابت الجسد وهى تجر الجوال الثقيل على المدق الطويل المؤدى لنهاية الخرابة فى آخر الشارع، ألقى جريشة الجوال وعاد.
هطلت الأمطار وحامت الكلاب حول الأنين الصادر من جوف الجوال وماءت القطط الضالة، ارتعد الجسد من الصقيع وتحول الأنين إلى صراخ، هرع الذاهبون لصلاة الفجر، أخرجوه وجرى أحدهم إلى منزله، أحضر بطانية لفوه فيها، اصطحبوه للمسجد.
تنهيدة طويلة غسل بها صدره، بعد أن صلى الفجر وشرب كوبًا من الينسون أعده خادم المسجد، شعر أن المطر طهره واغتسل به.
ارتكن بظهره على المنبر وألقى رأسه بين كفيه، وترك دموعه تتساقط على الابتهالات المنبعثة بهدوء من الراديو الصغير من غرفة الخادم، بينما ذاكرته تسافر للماضى، حين دافع عن عبدالبارى وجريشة ووقف أمام أهل زوجته العربجية، استطاع بجسده المكتنز أن يقفز بينهم ويطيح الكراسى برءوسهم ويطردهم جميعًا من الخمارة، أطلق عليه الأستاذ عارف الفرعون القصير، وانتشر اللقب بين الرواد، تعجب لفتوته وأعجبت به الخوجاية، مما أكسبه قوة يهد بها الحانة يوميًا دون مساعد، يحمل صناديق البيرة والخمور بأنواعها وحده، يرص الزجاجات وقوارير الكونياك بعينين تلمعان، ولم لا؟.. وقد أكسبته نظرة الإعجاب من عينيها الواسعتين الملونتين قوة خارقة، فيشتعل بجسده الدفء فى لياليه الباردة، يصحو عبدالبارى فيجد المحل كأن جنًا مسه، مسح عليه فومض بريقًا، اطمأن أنها ليست لغيره، بعد هروب فاروق بأموالها لاكتشافه أن ما تتزين فى معصميها وأذنها ليس ذهبًا، وأن المرأة العجوز ترتدى باروكة صفراء وأن دولابها تتراص به ملابس بالية مصبوغة، والمجرم الذى لم تشفع نظرات عينيها الجامدتين المرعوبتين من عجوز لم تستطع الصراخ، لم يقتلها وحدها بل قتله معها.
ها هو مطرود من مقر حياته وذكرياته، تاركًا مدخراته من نقود فى غرفة الخمارة، مفلسًا يمد يديه يوم العيد للزكاة، البعض يترحم على ماضيه، والبعض امتنع عن مساعدته، يؤكدون أن مصير مثله هو الشارع وليس المسجد، إلا أن إمام المسجد قال: إن هذا بيت الله، فليقم به ما شاء الإقامة وأنا المسئول عنه.
اقشعر جسد حسن الواهن وانتفض، سأكون خادمًا للمسجد وللناس يا مولانا.
عفت نفسه عن الأكل إلا الفتات، وعذب صوته فأذن للصلوات، وبين الحين والآخر فى الليالى الباردة الطويلة يجرفه الحنين إلى الدكان الذى أصبح مخزنًا للأحذية يتربع عليه جريشة، وعلى الرصيف المقابل يجلس عبدالبارى أمام صندوق صغير يمسح الأحذية.
أحيانًا يجلس فى هدأة الليالى على الرصيف المواجه للدكان القديم يتأمل أبوابه الخشبية التى لم يغيرها الزمن، يجلس مثل نملة لا تجد فتحة العش التى سدها لهو طفل قاس، يغلق عينيه الكليلتين كأنه ينغلق على عالمه البائد، حين كانت الحانة هى الخمارة الوحيدة بالبلد.
غامت العينان تمامًا على أمه التى فارقت الدنيا، كأن شيئًا ما يضغط على قفصه الصدرى ناعمًا، كيدى أمه المعروقتين وهى تضغط على يديه تحثه أن يبحث عن أبيه، هذا الشىء الثقيل كوحدة سنواته السبعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق