ضفافنا ملتقى لمبدعى ومثقفى وعلماء ونجوم كفرالزيات, ولا يدخلها إلا المثقفين

الأحد، يناير 10، 2021

قصة قصيرة : أصابع حريرية

 

 بقلم الأستاذ/ على الفقى المحامى والروائى الكزداوى

وقفت فوق الطوار مستندا على عكازى، منتظرا هدوء الطريق من السيارات حتى أستطيع العبور للجهة الأخرى، وأعانق البحر، رميت عينى من وراء نظارتى الشمسية السوداء على رماد الذكريات الملقاة فوق الرمال، جعلت أهش بعصاى ما يسبح على السطح من ماض قريب.انتبهت على ملمس حريرى بأصابع يدى المهملة بجانبى، يممت شطرها، رأيت جسدا بثوب أسود من أعلى الرأس حتى القدمين، كأنها قطعة سوداء مصمتة، الملمس الحريرى للقفاز الأسود يقبض على يدى، وصوت هادئ بنعومة ذات الحرير يتسرب لأذنى - هيا بنا نعبر الطريق.

استجبت واتكأت على عكازى كما استجابت السيارات فتوقفت، قلت فى نفسى - لعلها بركة الضريرة.

عبرنا الطريق الذى استكان لقبضة يدينا وصوت حفيف طرف العصا على الأسفلت يشق لنا خطواتنا.

جلسنا على مقعد حجرى فى مواجهة البحر الذى اقترب، مازلت ممسكا بأصابعها الحريرية وبيدى الأخرى أرسم دوائر الماضى بالعصا فى الهواء، على النخيل العالى من وراء أسوار المنتزه.. مرورا بالشاطئ حتى المركب الذى اعتليناه ليعبر بنا الجذر التى لهونا عليها ونداعب الموج.. فى قلعة تاريخنا، ونحن فى السينما نتابع اختراقه صدورنا لنضحك، أملأ السماء وأنسى طعم الملح الذى ينزف من عينى محاولا حبسه.

تسحب أصابعها برفق من يدى، تخلع قفازها وتمرر الأصابع الرقيقة على خدى، تمسح الدمعات الهاربة من الذكرى، أنتبه لعينيها العسليتين وترتد رأسى للخلف، محدقا - عيناك جميلتان.

تضغط جفنيها الحمراوين كما تضغط على الحروف بدهشة - أنت ترى؟ّ

ترتعش شفتاى وتردد دهشة أكبر- حسبتك ضريرة؟

تبتسم وترفع ستارة وجهها - وأنا عبرت بك الطريق لأنك كفيف.

انتقل بصرى يتفحصها ويسرد تفاصيل ملابسها السوداء وثارت التساؤلات...

ارتعشت وهمهمت وزاغت عيناها- أنا أرتدى الأسود لأننى... وخرجت اليوم لكى....

وأنا أنا....

قاطعتها.. وضعت أصابعى الخشنة على ثغرها الدرى..

- لا يهم.. لا يهم.. قد رأيت العلامة على رسغك، لا يهم الاسم أو الديانة أو الموطن أو... المهم هذه اللحظة، هذه اللحظة بالعمر كله، بالإنسانية كلها، أنت عبرت بى الطريق لأنى كنت كفيفا والآن أبصرت.

القلب يرقص وعبرة فرح مفاجئ مسحت الدمعة المالحة، ما أروع أن أرى عينيك، أن ألمس يدك، أن أكلمك ويدك على وجهى.

رحت أمرر أصابعها على خدى وأقبلهما وهى يتصارع بداخلها الشعور، لا تعرف إن كانت منتشية فى لحظة خيالية، أم مضطربة من هذا المجنون الذى ساقته الصدفة.

حتى سمعت من ينادى عليها، انتبهت، أسدلت ستارة وجهها ولبست نظارتها السوداء.. و..

بين طرفة عينى وانتباههما، اختفت.

قمت بصعوبة أحجل بعصاى، متجها نحو الرمال، استقبلت قدما الأمواج، ألقى العصا بكل ما أستجمع من قوة،

انتظرت أن أرى البحر يشق نصفين فتغرق جيوش الذكريات للأقنعة التى كفرت بى، متحسسا وجهى ومواضع الأصابع الحريرية.


ليست هناك تعليقات: