تهتم أغلبية البشر بإرث الإنسان المادي، ولا يفكر أحد في الإرث المعنوي، وهو الأبقى عندما تتبدد الأموال، وتذهب إلى مصارفها المتعددة في الحياة.
إرث الأديب أين يذهب؟ الثروة الحقيقية التي أنفق من أجلها جلّ عمره، أقلامه، أوراقه، نظارته السميكة، مخطوطاته، مشاريع كتبه، أحلامه التي لم تكتمل، السنوات الطويلة التي ذهبت في البحث والقراءة والتقصي والكتابة وترسيخ القيم الجميلة.. أين تذهب؟
كثير من الأدباء العظام، عندما قضوا، لم يلتفت الورثة إلى الإرث الكبير.. قد تحظى أغراض الأديب وكتبه وأشياؤه في البداية بنظرات متحسرة، ودموع على الراحل الذي كان ملء العين والبصر، ثم غاب، ولكنها تنتهي، في أفضل الأحيان، في غرفة يطويها غبار النسيان، أو في كراتين ضاق بها المكان، فتم حشرها في الشرفة.
وفي حالات أقسى؛ يتخلص منها الورثة، سواء الزوجة أو الأبناء، وهناك قصص دامية لعظام ماتوا فدمّر الورثة آثارهم من مكتبات ومكاتب وشقق وفيلات، وباعوها من أجل المكسب السريع، مرددين الشعار القاسي (الحيّ أبقى من الميت).
في حالات قليلة نلتمس لأسرة الأديب العذر، فالإيقاع السريع اللاهث للحياة يدفعنا إلى نسيان أشياء كثيرة، وقيم كثيرة، ولكن ما لا نتسامح معه تبديد إرث الأديب.
يؤلمني كثيراً عندما أجد أبناء يهملون إرث آبائهم الأدباء، ويؤلمني أكثر عندما يتعرض هذا الإرث للتدمير، سواء بحسن نية أو سوء نية.. وفي المقابل أسعد وأبتهج عندما أرى أبناء يعملون بجد على نشر إرث آبائهم، ومواصلة مسيرة الراحل، حتى لو كانت بخطا قليلة ومتباعدة.. فهذا شاب قرر بعد وفاة والده الشاعر أن يتبنى رسالته الأدبية، وينشر صفحة باسمه على موقع للتواصل الاجتماعي، وينشر قصائده، فتحظى بالتفاعل، وكأنه مازال موجوداً حتى الآن، وهذا آخر خصّص وقته وجهده لجمع آثار والده الشاعر الراحل، وكأنه مكتب إعلامي له.. يعمل ويتحرك برغم غياب صاحبه الكبير.
ويحضرني هنا نموذج مشرف، وهو (سعود) ابن شاعر الإمارات الكبير
محمد بن سلطان الدرمكي (1940 -1998م) الذي مازال برغم وفاة والده منذ ما يقرب من (25) عاماً يعمل، على توثيق وجمع ونشر أشعار والده، ولا يمر أسبوع إلا ويرسل لي عبر الواتس، الجديد في ذلك، سواء باستفسار عن حوار لوالده نشر في صحيفة ما، أو إخباري بندوة تناقش أشعار والده الراحل.
تحرص الدول المتقدمة على الحفاظ على إرث الأدباء، حيث تحول أماكن سكناهم إلى متاحف، ومقار للأنشطة والندوات والإقامات الأدبية التي يدعى لها الأدباء من كافة أنحاء العالم، ولكن في العالم العربي؛ يذهب إرث الأديب غالباً إلى مصيره المحتوم.. الكراتين.
أتمنى أن ننتبه جميعاً إلى (إرث الأديب)، وأن توجد جهة رسمية أو غير رسمية، تعنى بجمع وحفظ وتوثيق هذا الإرث العظيم، خاصة وأن التقنية أتاحت لنا إمكانات كثيرة، يمكن استخدامها في هذه المهمة.
ولذلك فوائد كثيرة، فهو من ناحية حفاظ على قيم ثقافية وأدبية مهمة، يجب أن تبقى زاداً للأجيال الجديدة، ومن ناحية أخرى، هو إحياء لذكرى الأديب، وتذكير به، وبإنتاجه الأدبي، ورحلته الأدبية، وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي: (فالذكرُ للإنسان عُمرٌ ثان). والأهم؛ أن الحفاظ على إرث الأديب تذكير بالدعاء له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق