وكأن نور العين
إذا فُقد أضاء نور
البصيرة من قبل الواحد الأحد.
هكذا عاش الطفل
محمد بلا عين تبصر ، ولكن بقلب أناره الله وأهله ليكون علما من الأعلام. ليس في
القرية فحسب ولا في مصر وحدها، إنما في العالم الإسلامي كله.. لقد كانت ثقته بالله
أكبر من الإعاقة ويقينه به دافعا له لتحدي تلك الإعاقة.
الأستاذ الدكتور عبد المنعم القيعي رحمه الله
والحق أن في
قصته درس وعبرة لكل متكاسل متخاذل أصابه مس من بلاء ، فآثر البكاء والعويل على
العمل والنشاط.
أن الإعاقة ليست إعاقة عضو ما توقف عن الحركة ، وأصبح عبئا وهما على صاحبه، أما الإعاقة الحقيقية هي إعاقة عقول ، عطلها أصحابها عن التفكر والتدبر ، والعمل والسباحة في آيات الله في كونه.
لذا أثبتت شخصيتنا إثباتا عمليا أن المستحيل ليس إلا حاجزا نحن من يصنعه حين نتكاسل عن العمل، وأن المستحيل مجرد وهم اختلقنا في ظل عدم اليقين بالله والإيمان به وحده؛ لذا جاهد عالمنا ليحفر اسمه ليس بين العلماء فحسب إنما بين صفوتهم من أصحاب البصر والبصيرة الثاقبة. وهذا يتجلى بوضوح في كتبه وحواراته ومناظراته العلمية التي تدل على بعد النظر وقوة الحجة والبرهان.
إنها شخصية كسرت
كل الحواجز والعقبات التي من شأنها أن تكسر أعتى الرجال وأشدهم بأسا. لا لشيء.
إنما ليعطي درسا قوي الحجة شديد البأس لكل من أراد أن يتعلم كيف يواجه الحياة حين
يصيبه ابتلاء من الله عزوجل.
من أجل ذلك كله
كانت شخصية الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم القيعي رحمه الله محط حب وتقدير من
رآه أو سمع عنه أو حتى تتلمذ على يديه. بل حتى النساء اللواتي لم ينلن قسطا يذكر
من التعليم أصغوا إلى دروسه بكل شغف وإهتمام.
فدعونا نقترب من
تلك الشخصية لنعرفها أكثر وأكثر علنا نتعلم منها ما ينفعنا في دنيانا وأخرانا.
ولد الأستاذ
الدكتور محمد عبد المنعم القيعي يوم السبت الموافق 22/10/1927 بقرية الدلجمون.
وبين طين الأرض التي تنبت الخير وصفحتها التي تكسوها خضرة الزروع والثمار. وهو
بالطبع لم ير تلك الخضرة بعينيه التي ولد بها سليمة. لكن وفي الخامسة من عمره
احمرت عيناه بشده فذهبوا به للمعالج الذي أمر بربطها لعدة أيام. ما زاد من إلتهاباتها
وكون صديدا بداخلها ومع استمرار الرباط دون تنظيف العين فقد الطفل محمد بصره إلا
من عين ترى بصعوبة بالغة وبمشقة شديدة.
وفي بيت أسرته نشأ ووهبه أبواه للعلم. وسرعان ما تركه أبواه والتحقا بالرفيق الأعلى لتجتمع محنة فقد البصر مع محنة اليتم. ومع أن طفلا فاقدا للبصر أصبح بين عشية وضحاها يتيما له ألف عذر وعذر في البعد عن المسئولية وعن التعليم. لكن ما حدث على خلاف ذلك. فمنذ بداياته الأولى في المدرسة. رفض أن يكون مثار شفقة أو عطف من أحد. بل على العكس قرر أن يكون في المقدمة وأن يتنكر لفقدان بصره وأن يثبت أن الإعاقة ليست إعاقة عضو إنما إعاقة عقل عطله صاحبه. بل وتنكر لوجود تلك الإعاقة.
وانتبه أساتذه لذكائه مبكرا وجديته في التعامل مع الأمور فأحبوه وأكرموه أيما إكرام. وكان من ضمن أساتذته ذلك المعلم العظيم وأحد أهرامات التعليم في عصره فضيلة الشيخ محمد عز الرجال عتمان.حيث لم يكن معلما فقط بل أيضا أب لتلاميذه الذين منهم الطفل محمد الذي حفظ القرءان مبكرا فانتزع حب مدرسيه واحترامهم له. ثم انتقل إلى المرحلة الإعدادية .وكانت دراسته بالمعهد الأحمدي بمدينة طنطا .وكان لابد من ان يقيم بها حتى يتفادى صعوبة المواصلات في ذلك العصر من جهة .ومن جهة أخرى توفير المشقة والمجهود في السفر كل يوم من القرية لطنطا .
ومن ثم كانت زيارة أسبوعية له في طنطا وفيها
الزوادة ، وهي عبارة عن كل ما يحتاج له من طعام خلال الأسبوع ، وفي المعهد الأحمدي
يظهر الفتى محمد نبوغا مميزا او يلمع ذكاؤه أكثر ويقبل على التعليم بنهم وهو ما لفت أنظار معلميه في هذا الوقت .وتنتهي
تلك المرحلة بنجاح وتميزلينتقل بعدها للمرحلة الثانوية في نفس المعهد . ثم في
الثانوية بدأت تتشكل معالم شخصيته التي تنم عن صاحبها وترسم طريقا تعهد أن يتمه حتى
النهاية. وكانت تلك الفترة فترة من أخصب فترات حياته. وفيها
توطدت صلته بالعملاق الكبير عباس محمود العقاد بصفة غير مباشرة. والعقاد هو عملاق
الأدب العربي وأكثر الكتاب دفاعا عن الإسلام. حيث أثناء دراسته بالجامعة كان يزوره
المرحوم الأستاذ عبد المعطي القيعي، حيث كان اخا وصديقا وعينا للدكتور القيعي فهو
من يقرأ له كتبه ومن يستذكر معه دروسه ويصطحبه إلى حيث يريد كلما ذهب للقاهرة. وأيضا
فالأستاذ عبد المعطي كان من أقرب أصدقاء العقاد ، وكان لايفوته منتدى أو صالون أدبي
يحضره العقاد وبعد كل ذلك فهو جليس العقاد في بيته ، وكان لا يغادر بيت العقاد إلا
عند النوم. فكان هو وسيلة التواصل بين العقاد والأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم
القيعي، وهو ما أثر في بلورة شخصية الكتور القيعي فيما بعد حيث أن قوة حجة العقاد
جعلت الدكتور القيعي يسير على نفس الدرب من حيث تأصيل المعلومة. وكثرة القراءة في
الموضوع الواحد لأكثر من كاتب أيا كان انتماؤه وتوجهه. فأصبح الدكتور القيعي فيما
بعد من العلماء الذين يمكن تسميتهم بالموسوعيين.
انتهت المرحلة الثانوية الأزهرية بنجاح .ليتم تعيين الدكتور القيعي واعظا بوزارة الأوقاف بقرية بهجورة التابعة لنجع حمادى بقنا .وهو أمر غاية في الصعوبة .من حيث الحاجة لرفيق دائم له يساعده في كل شئونه .وهو أمر أيضا غاية في الصعوبة حيث الدخل المحدود من الوظيفة والنفقات التي لابد منها في سفرته تلك .وكأن العقبات التي كانت تعترضه في مسيرة حياته لم تكن سوى نفحات ربانية تمهده للمهمة التي سيعيش من اجلها .فقد أعطته القوة والصلابة واليقين بالله .سنوات ظل فيها الدكتور القيعي واعظا في صعيد مصر وهو يواجه كل أزمة بثبات ورباطة جأش لا نظير لها . ثم عاد مرة أخرى لقريته .لتكون فى القرية أولى ثمار ثباته ويقينه .نعم كانت له ابنة عم قرر الزواج بها .وهي السيدة سعاد القيعي والتي كانت له عالم جديد حمل في طياته نقلة شاملة .ليتحول الواعظ المغمور لعلم إسلامي ذائع الصيت في كل أرجاء العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه . وقفت الزوجة المخلصة بجوار زوجها وهي تحثه على أن يكمل دراسته الجامعية مهما كلف الامر وأنها ستكون عينه التي يبصر بها في سبيل أن يصل زوجها لمكانة تليق به علميا ، واستجاب الزوج لزوجته خاصة وهي تطلب منه أن يتم حلمه الذي ظن في يوم ما أنه لن يكتمل نظرا لظروفه الخاصة . ولكن بعد إستعداد شريكة عمره ورفيقة دربه للوقوف خلفة متحملة كل ما ستلاقيه من تعب ومشقة اشتعلت روح الحماسة بينهما وقرر الالتحاق بكلية أصول الدين جامعة الأزهر للدراسة بها .وكانت الزوجة عند حسن الظن وأكثر .حيث كانت تقرأ له ما أراد من كتب مقررة وغير مقررة بالساعات الطوال دون ملل أوكلل، والجميل هو أن طريقتها فى القراءة كانت بطريقة سلسة تجمع بين الهدوء والجمال والإتقان وكأنها صوت لمذيعة تتقن العربية وتملك ملكة القراءة بطريقة جذابة .ورغم أن شراهة الدكتور القيعي في القراءة والمطالعة كانت بلا حدود .وهو ما يتطلب مجهودا خرافيا من شريكة عمره إلا أنها لم تقصر في بيتها على الإطلاق
.وفي الجامعة يكتسب الدكتور القيعي احترام أساتذته
وزملاؤه على السواء .وكانت زيارات الأستاذ عبد المعطي القيعي بمثابة مزيد من
الاستزادة والتعلم من الأديب الكبير عباس محمود العقاد .فعشرات الأسئلة يحملها
الأستاذ عبد المعطي من الدكتور القيعي للعقاد .وهي اسئلة في كل المجالات .ما جعل
الدكتور القيعي تلميذا في مدرسة العقاد الكبيرة . وفي تلك
المرحلة كانت الزوجة فاتحة خير ونور .فقد تحسنت الأوضاع المادية .وبدأت الحياة
تعلن عن ابتسامتها للدكتور القيعي بعد زواجه من رفيقة دربه .وتمر سنواات الدراسة
ويحصل الدكتور القيعي على العالمية عام 1957م .وبعد الحصول عليها تزيد الحماسة
أكثر وأكثر لدى تلك الزوجة التي شعرت بفطرتها أن زوجها مكانه الطبيعي لابد وأن
يكون بين كبار العلماء .فتواصل دفعه للأمام متحملة فوق طاقتها وتطلب منه الانتقال
للخطوة التالية .(الماجستير) وبالفعل يواصل الدكتور القيعي دراسته وهو يشفق على
رفيقة دربة الوفية ويود لو استطاع أن يرد لها جزءا من صنيعها معه في يوم ما .
ويتواصل الليل بالنهار وتواصل الزوجة قراءة أمهات الكتب لزوجها ليلا ونهارا .وقد
يطلب منها أن ترتاح بعد تعب يوم كامل .ولكنها تبتسم له وكأنها تقول له : راحتى أن
تكون عظيما ، وسعادتى أن تحفر اسمك بين أكابر العلماء لأن عيني هكذا تراك .
وفي عام 1967
يحصل الدكتور القيعي على رسالة الماجستير بتفوق شديد .وكانت الرسالة بعنوان (نظرة
القرآن الكريم إلى الجرائم) ليتم تعيينه مدرسا مساعدا بقسم الدعوة بكلية أصول
الدين .وظلت الزوجة الوفية هي الجندي المجهول في حياة زوجها .وظلت تقرأ له
بالساعات في أمهات الكتب في شتى المجالات .ربما أرهقها التعب ؛ فهي بشر يتعب .ولكن
تواجه تعبها بصمت وسكون لتشعر زوجها أنها في سعادة بالغة وهي تقدم له كل ما يريد .
ربما اشتكت العين بين الحين والحين من كثرة المطالعة في الكتب والقفز بين الصفحات
لتسقط دمعة شكوى من العين طلبا لبعض الراحة . ولكن الزوجة سرعان ما تمسحها دون أن
تشعر زوجها بالأمر ولكن هيهات ! فلئن كانت عينه لاتراها فقلبه يشعر بكل شىء .ولكن
ما عساه يفعل في زوجة عنيدة لن ترضى بغير تحقيق ما تريد ؟ تمر الأيام والشهور
والزوجة الوفية على عهدها والزوج يبذل قصارى جهده ليرد الجميل لزوجته .ويخبرها
عمليا أنها صاحبة الفضل الأكبر بعد الله عزوجل فيما وصل له .وصلنا لعام 1970 حيث
اللحظة المرتقبة .التي تعلن فيها لجنة مناقشة الدكتوراه منح الطالب محمد عبد
المنعم القيعي درجة الدكتوراه عن رسالته بعنوان (جريمة السرقة بين الإسلام والفكر
المعاصر ) وهنا لم تكن فرحته بحصوله على الدكتوراه أكبر من فرحته بأن يهديها
لشريكة عمره ورفيقة دربه كرسالة أوهدية متواضعة منه لمن تحملت وصبرت وثابرت لتصنع
رجلا سيكون له شأن كبير في قابل الأيام . ونحن حين نحكي تلك السيرة وما فيها من دور علاقة
الزوجة بزوجها وتفانيها في دعمه .فلا يحدثني أحد عن الحب ولا عن العشق .فقد رأيته
واقعا ملموسا في قصتنا حيث الوفاء والتفاني في أسمى قيمه ومعانيه . ولكن الزوجة المخلصة لم يقف عطاؤها عند هذا الحد .بل لقد قامت بما يشبه
المستحيل .أو بما هو من دروب الخيال .وهو ما يجعل من تلك الزوجة قيمة وقدوة ويضعها
في مصاف العظماء بحق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق