ضفافنا ملتقى لمبدعى ومثقفى وعلماء ونجوم كفرالزيات, ولا يدخلها إلا المثقفين

الجمعة، مارس 05، 2021

"النقد المبطّن" ... عندما يكون الإبداع "مزعجاً" للسلطات دون أن يثير غضبها وبطشها

 

الأستاذ/ محمد حسين الشيخ 
كاتب مصري، عمل كصحافي تحقيقات، وكاتب مقالات لعدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية منذ عام 2004، وكان مساعدا لرئيس تحرير موقع دوت مصر، ومهتم بالتاريخ والفن. وابن قليب ابيار بكفرالزيات

"الرواية المبطّنة" داخل "الرواية الظاهرة" في الفن، أسلوب قد يلجأ إليه المبدعون في ظل السلطة الاستبدادية، مع إدراكهم أن من يقرأهم يمكنه فهم/رؤية الرسائل المبطنة في أعمالهم. بل يجب الفنانون أنّ الإسقاط في حدّ ذاته إبداع يعطي للعمل المُقدّم مذاقاً خاصّاً، كما الأساليب المجازية التي تعطي للشعر جماله. فكيف تحاك الرواية المبطّنة؟ وكيف يرتبط الاستبداد بالإبداع؟ وهل يستطيع الفن صناعة التغيير في العالم العربي؟ تدرس المقالة هذه الأسئلة في حور مع البروفيسور جاكوب هيغيلت Jacob Høigilt، أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوسلو، الذي أعدّ دراسة عن "الحكاية المبطّنة" في فن الكوميكس بالصحافة العربية الحديثة،

وقدرتها على محاربة السلطة الاستبدادية القائمة بالمنطقة العربية الآن. اختار جاكوب أعمال كوميكس من مصر ولبنان في دراسته. فلماذا مصر ولبنان؟ قبل الإجابة عن الأسئلة الأساسية لهذه المقالة، كان لابد أن نسأل جاكوب، لماذا اختار عينة بحثه الذي يخُص العالم العربي عموماًمن مصر ولبنان؟ وعن هذا يقول أستاذ دراسات الشرق الأوسط : في لبنان ومصر (وأيضاً الجزائر، وتونس، والمغرب، والعراق، وسوريا الخ من البلاد العربية العلمانية نسبياً)، هناك تقليد طويل وثري للإنتاج الثقافي عالي الجودة، ولكن ربما هناك تميّز نسبي لمصر ولبنان، باعتبارهما مركزين ثقافيين للعالم العربي منذ عقود؛ لذلك فليس من الغريب أن يصبحا مركزين للفنون التصويرية أيضاً. المجتمعان (مصر ولبنان) مختلفان نسبياً، فلبنان به تعدّديّة دينية، بينما هناك ما يشبه الاستقطاب الإسلامي المسيحي في مصر، وبالتالي انعكس ذلك على أوضاع اجتماعية وسياسية كثيرة، إلا أن ما يميّز الكوميكس العربي عموماً هو أن الرسامين لا يهتمّون بالدين كثيراً. ولكن إذا أردنا أن نقارن بين البيئتين المصرية واللبنانية، نجد أن المشهد اللبناني يميل أكثر نحو التجربة، ويدفع باتجاه حدود الفن الهزلي، في حين أن الأسلوب المصري - إذا استطعنا أن نقول أن هناك نمط مصري واحد- أكثر تقليديّة، ولكنه ليس أقلّ تعقيداً، يقول جاكوب  ويضيف: أمّا من حيث إدراك التغيير والانفتاح على القيم الإنسانية، فلا أعتقد أن هناك اختلافاً بين المدرستين، لسببين: أولهما: أن المبدعين الكوميديين المصريين واللبنانيين يدركون جيداً بعضهم البعض ويحترمون عمل بعضهم البعض، وثانياً: أن جميع المبدعين الهزليين في البلدين، مُكرَّسين لأفكار الحرية وحقوق الإنسان. آخر شيء يوضّحه جاكوب أن البلدين شهدا حراكاً سياسياً كبيراً، خلال السنوات الأخيرة، فاختار مصر كنموذج من دول الربيع العربي، ولبنان كبلد له طبيعة خاصة، وشهد حراكاً ذكياً خلال احتجاجات "طلعت ريحتكم" عام 2015، التي كانت أزمة القمامة في بيروت هي المحرّكة لها، ولكنها استُخدمت لتعرية النظام السياسي هناك بشكل عام.

انتشرت الرمزية في الأدب والشعر والرواية والتمثيل، والفنون عموماً في تجربة المبدعين المصريين في فترة حكم جمال عبد الناصر، وأكسبتها "الحكاية المبطنة" بعداً جمالياً عظيماً
من ناحية إدراك التغيير والانفتاح على القيم الإنسانية، ليس هناك اختلاف بين مدرستي الكوميكس اللبنانية والمصرية، لأن مبدعي الكوميكس المصريين واللبنانيين يدركون جيداً مشاريع بعضهم البعض ويحترمون عمل بعضهم البعض، كما أنهم مؤمنون بأفكار الحرية وحقوق الإنسان
يغضب الجميع من الشاب الذي يصلّي الجمعة ثم يذهب ليدخّن الحشيش، ولكن العقاب الأكبر يوجه له لأنه "زهق" من مصر: فن الكوميكس في العالم العربي
تجاوز الخطوط الحمراء في العالم العربي مُكلف جداً، فكم من معتقل بسبب قضية رأي، وكم من مبدع محاصر بقيود الدولة البوليسية والنظام الديني المتشدّد؛ والمسألة هنا ليست مجرّد أفراد نظام الحكم، بل النظام الاجتماعي والسياسي؛ بمفرداته السلطوية جميعها، من دين وعادات وتقاليد وسلوك مجتمعي، إلى قوانين وممارسات سلطة حاكمة، إلخ. "النسخة المخفيّة" يجب لظاهرها ألّا يحمل اعتراضاً عنيفاً، بل يجب أن تبدو متكيّفة بهدوء، وهنا تبرز مهارة المبدع في صناعة نكات وقصائد وقصص خيالية، تحمل رموزاً واستعارات وتعبيرات ثقافية تقاوم وتهاجم وتسبّ وتنتقد النظام المستبد، دون تصريح يوقع المبدع في فخّ العقاب، ويجعل السلطة "تتكاسل" في قمع المبدع. وبقدر ما للمناخ الحرّ من مزايا واسعة يتمناها كلّ مبدع، إلا أن المناخ الاستبدادي قد يحفّز التجويد الفني، ليقول المبدع ما يريده ولكن في قالب فني عميق، يقول جاكوب لـ"رصيف22"، مستلهماً تجربة المبدعين المصريين في فترة حكم جمال عبد الناصر، حيث انتشرت الرمزية في الأدب والشعر والرواية والتمثيل، والفنون عموماً، وأكسبتها بعداً جمالياً عظيماً.

كيف تُحاك القصة المبطّنة "المقروءة/المرئية"؟

استخدم جاكوب في دراسته مجموعة من قصص الكوميكس، التي عبّرت عن شعور الفنانين الذين رسموها بالعزلة عن المجتمع، للتعبير عن النقد الاجتماعي والسياسي وعن التضامن مع الأفراد والجماعات المضطهدة أو التي تشعر بغربة في مجتمعها... نختار منها نموذجين، أحدهما من مصر، والآخر من لبنان.

زهقت من مصر

قصّة الرسام الساخر محمد الشناوي، التي نشرها في مجلة الكوميكس المصرية "توك توك"، يمكن أن نقرأ منها الكثير. يتحدّث بطل الرواية للشناوي أمام الكاميرا، ويقول إنه سَئِم حياته في القاهرة، ثم يقدّم قائمة بما يفعله "الجميع"، لإثبات أنه قد فعل كلّ ما في وسعه ليجعل لحياته معنى، ولكن دون جدوى. (ذاكرت، اشتغلت، بصلّي الجمعة كل أسبوع، وأضرب جوينت مع أصحابي بالليل، اشتريت عربية كوري، وخطبت....). 
 يغضب الجميع من الشاب، الذي يصلّي الجمعة ثم يذهب ليدخّن الحشيش، سواء المارّة أو ضابط الشرطة الذي يتهمه بأنه ثوري. وما يثير غضب الضابط ليس أنه يدخّن الحشيش، ولكنه ما يثيره أن الشاب قد ملّ من الحياة في مصر؛ فببساطة غير مسموح لأحد بالملل في مصر! ويتوقّع الشناوي ظهور تحالف الدولة القمعية، والذي يتكوّن من الأجهزة الأمنية مع المواطنين الشرفاء، و"المواطنون الشرفاء" مصطلح يعبّر عن أفراد عاديين من الشعب (بعضهم له علاقات بالأجهزة الأمنية)، ويعملون لحسابها، لتشويه المعارضين والنيل منهم. وفي الكوميكس يعبّر مجموعة من المارة عن اشمئزازهم من بطل الرواية، ويضحكون عليه عندما يتعرّض لسوء المعاملة. في الكوميكس، لا يُسمح لأحد بالضحك ما لم يُطلب منه ذلك على وجه التحديد. ولكن في الإطار الأخير من القصة، هناك شاب ورجل مسنّ يضحكان في كتمان، كنوع من "التضامن الصامت". وهنا تنتهي القصة. قصة الشناوي مضحكة وشخصيّة وخفيفة، لذا فهي لا تجرّمه. ولكن بالنسبة للجمهور المصري الذي يستطيع التعرّف على الشخصيات ووضع القصّة، فإنها تشعُّ النفور من السلطات القمعية وتضامناً مع من يضطهدهم النظام. لا تدع القصة أي شك في أن كلّ شخص في القصّة يتعرّض للاضطهاد من قبل الدولة. في الوقت نفسه، لا يمكن معاقبة رسّام القصّة، لأنها ليست مباشرة. لأن الشناوي أوصل رسالته بشكل خفي.

"فرفر بلوز" في لبنان

المثال اللبناني هو قصّة "فرفر بلوز" للرسام مازن كرباج، والتي نُشرت عام 2012، في مجلة سمندل للكوميك. يسلّط الكوميك الضوء في البداية على تناقض المدينة العربية.. في البداية تبدو أصوات الشوارع هادئة كأصوات خرير الحمام (فر فر)، ثم تتحوّل إلى محمومة صاخبة، ثم تتحوّل القصة إلى الكآبة، وتتناول تهميش ومضايقة المرأة في الأماكن العامة. الإطارات هادئة مطمئنة في البداية، ثم تتحوّل إلى زحام عشوائي من الوجوه والمباني، والمركبات التي تجمّعت فوق بعضها البعض. بعد ذلك وفي صفحة كاملة تظهر المرأة ومن يلاحقها.. ونرى التعليق: ذوو الذقون هنا (يقصد المتشدّدين دينياً) وفي كلّ مكان، يمضون الوقت في الادعاء بأنهم لا يمضون الوقت بالنظر في النساء اللواتي يمشين في الشوارع. سرعان ما تُضغَط المرأة من الأُطُر المملوءة بعيون وأفواه الرجال، وبينما تغرب الشمس، نرى امرأتين تتلاشيان تدريجياً وتصبحان أشكالًا فارغة، ونقرأ التعليق: كم هو حزين هذا الغروب الذي يحجب الشمس والنساء، ويبشّر بالليالي الحزينة. بصرف النظر عن الكآبة، هناك بعض الرسائل التي يمكن أن نقرأها في عمل كرباج. أولاً: أنظر إلى الجانب الأيمن من الصورة الثانية. رصد من الراوي وتحويل المناظر من لوحتين إلى سلالم، إلى لوحتين للتلوّث، ثم لوحتين لرجال الشرطة ورجال الدين. إن النصّ المعياري والتجاور بين الصور، بها مفارقة تثير السخرية.  يتجنّب كرباج الإشارة بشكل واضح إلى الترابط بين تلوّث المدن، ورجال الشرطة والمتشدّدين دينياً. ومع ذلك، لا يتطلب الأمر جهداً كبيراً من جانب القارئ، للربط بينهما. لاحظ أيضاً التناقض بين النصّ الذي يبدو بريئاً: "الكثير من رجال الشرطة"، يقابله "الكثير من ذوي الذقون". ومع ذلك، في حين يبدو النصّ غير سياسي، فإن الصور تنقل إحساساً بالتهديد وعدم الراحة؛ فلا يظهر أي تعبير لطيف أو ابتسامة ولو خافتة على وجوه رجال الشرطة أو رجال الدين. الانطباع العام الذي يحصل عليه القارئ، هو أن الشارع تهيمن عليه أجساد ذكور مشوّهة ومهينة، مقابل نساء تظهر ملامح شخصياتهن واضحة. في الواقع، ينتقد كرباج المجتمع الذي تتآمر فيه الدولة (الشرطة) مع السلطات الدينية لتهميش النساء. لكن كرباج لا يقول ذلك بكلمات كثيرة، رسالته الناقدة من السهل التقاطها، ولكن لا يتمّ نطقها بوضوح، بل عن طريق الإشارات وتفاعل النصوص مع الصور. رسوم كرباج تزامنت مع تظاهرات "طلعت ريحتكم" عام 2015، وتتماهى الرسوم مع البعد الجنساني للاحتجاجات، التي كان للنسويات ونشطاء LGBTQ دور كبير فيها، ومن هنا جاءت ردود السلطة "ذكورية" الطابع، حيث تصفت الناشطات النسويات كيف لجأت الفصائل السياسية وقوات الأمن إلى عدوانية ذكورية تجاههن في الخطاب العام، كما "نصح" سياسيون لبنانيون المتظاهرات الاستماع إلى آبائهن وزعمائهن الطائفيين. وسخرت السلطات وقوات الأمن من كل ما هو ليس تقليدياً ذكورياً، من المثليّة الجنسيّة، إلى النقاش الذي يعطي مجالاً للآخر.

هل الكوميك يخدم السلطة بشكل "مبطّن"؟

يمكن أن نقول إنّ السلطات تفهم كلّ شيء، وتستطيع منع هذه الأعمال، ولكنها تتركها - إن تركتها- بهدف التنفيس وتخفيف الضغط عن المواطنين الحانقين عليها، لكي يتخلّصوا من كبتهم أوّلاً بأوّل، ولا يتحوّل غضبهم إلى عمل ثوري، وبالتالي فإن هذه الأعمال تخدم السلطة أكثر مما تضرّها. ويرى جاكوب خلال حديثه لـ"رصيف22"، أن الفن لا يتحمل بالضرورة مسؤولية التعبئة الاجتماعية أو السياسية. فهو لا يعتقد أن الفنانين يتحمّلون مسؤولية استخدام فنّهم بهذه الطريقة حتى لو كان المجتمع يمرّ بأوقات عصيبة. ولكن في كل الأحوال فإن تخفيف الضغط ليس أمراً سيئاً. قد تكون وجهة نظر السلطة مختلفة قليلاً، بمعنى أن هذا النوع من الإبداع لا يشكل بنظرها خطراً يستدعي العقاب. فهو "مزعج" دون شك، ولكنه لا يهدد، بنظر السلطة، استقرارها وسطوتها، ومن هنا، لا تعبأ بملاحقته، وهذا ما يعول عليه المبدعون في أعمالهم المبطنة، إن أرادوا تجنب البطش والتنكيل.


ليست هناك تعليقات: