ما يعرفه غير المصريين عن لهجة مصر من خلال السينما والدراما التلفزيونية، ليس كافياً أبداً. فاللهجة المصرية الشائعة في الإعلام هي لهجة العاصمة "القاهرة"، وأحياناً نرى لهجةً صعيديّةً أو ريفيّةً، ولكن الواقع يقول، إن هناك اختلافات لا حصر لها في اللهجات الفرعيّة، المنبثقة عن اللهجة المصريّة القاهريّة. اللهجة المصريّة (أو اللهجات)، هي نتاج انتقال تدريجي لألسنة المصريين، من التحدّث بالقبطيّة إلى التحدّث باللغة العربيّة، بحسب دراسةٍ للباحث في علم المصريّات صموئيل معوض. فهل هذه اللهجات عربيّة بحتة؟ وكيف نشأت هذه اللهجات؟ وما العوامل التي أثّرت فيها؟ يشير أستاذ علم اللغة الشهير أحمد مختار عمر، في كتابه "تاريخ اللغة العربيّة في مصر"، إلى عاملين رئيسين أثّرا في "عربيّة مصر" وأكسباها لهجاتها الخاصة خلال فترة التحوّل من اللغة القبطيّة إلى اللغة العربيّة،
وهما: 1- اللغة القبطيّة. 2- تنوّع لهجات القبائل العربيّة التي استوطنت مصر. بالإضافة إلى عوامل ثانويّة، كالاستسهال واللامبالاة في النطق، وفي فترات لاحقة حدث اقتراضٌ بسيطٌ من الفارسيّة والتركيّة واللاتينيّة. 1- تأثير اللغة القبطية ويوضّح مختار عمر أن القبطيّة كانت متأثّرة باليونانيّة حين دخل المسلمون مصر، ولكنه تأثّرٌ على مستوى الإنتاج الثقافي المكتوب، وبعض الألفاظ الدينيّة في الكنيسة، نتج عن فترة الاحتلال اليوناني لمصر (323 ق.م حتى 30 ق.م)،ولكنه لم يمتدّ إلى الشارع المصري العامي، ولذلك فإن التأثير اليوناني على القبطيّة كان محدوداً، ومن ثمّ كان انعكاس اليونانيّة على "العربيّة المصريّة" التي قامت على أنقاض "القبطيّة" ضعيفاً بدرجةٍ تكاد لا تُذكر. أما القبطيّة فهناك فريق غالى في تأثيرها على اللهجة المصريّة العربيّة، وخاصّة "الصعيديّة" منها، واعتبرها متمكّنة منها بشكل كبير، من حيث المفردات (المتغلغلة بالمئات بل بالآلاف، في نظرهم)، وطريقة النطق، حتى أن جورجي زيدان (من زعماء هذا الفريق)، اعتبر أن هناك جملاً صعيديّة بأكملها أصلها قبطي. وهناك من ضعّف من هذا التأثير كالدكتور ولسن بشاي، وقال إن الكلمات القبطيّة في العاميّة المصريّة العربيّة لا تتجاوز 109 كلمات. والبعض مال إلى انعدام هذا التأثير، مثل المستشرق دي لاسي أوليري De lacy Oleary. ويميل مختار عمر إلى فريق اتخذ خطاً معتدلاً، ولم ينكر التأثير القبطي الواضح على "العاميّة المصريّة العربيّة" القائمة الآن، من حيث المفردات المختلفة، بالإضافة إلى التأثيرات الصوتيّة والنحويّة. وبالتأكيد كلّما عدنا بالزمن إلى الخلف كلما لمسنا ازدياد الميل المصري إلى اللغة القبطيّة. المجال يطول في شرح التأثيرات الصوتيّة والنحويّة والصرفيّة، ويمكن قراءته بالتفصيل في كتاب مختار عمر المُشار إليه، ولكن يمكننا هنا ذكر بعض المفردات القبطيّة التي لازالت قائمة في اللهجة المصريّة، وهي تنقسم إلى مجموعات نوعيّة، ومنها: أسماء الطعام: مثل "البِصَارة"، وهي طبخة تعتمد بشكل أساسي على الفول. "عيش"، ويعني الخبز. و"بَتّاوْ" وهو نوع من الخبز، "بُورِي": نوع من الأسماك، "ملُوحَة": نوع من الأسماك. أسماء نباتات: مثل البلح "الأمْهَات"، "سِرِيسْ"، وهو نوع من العشب، "بَرْسِيم"، نبات تأكله الماشية. "لبشة" مع القصب. أسماء أواني: "الزِّير" و"البَلّاص" و"المَاجُور"، وهي أنواع من الأواني الفخّاريّة. أسماء أمراض: "شُوطَة"، أي الوباء، و"سَنْطَة"، وهي نوع من الندوب الجلديّة، "وَاوَا"، وتعني الجرح، ويستخدمها المصريون الآن وهم يداعبون أطفالهم إذا ما جرحوا. هذا بالإضافة إلى أسماء شهور التقويم القبطي التي لازال الفلاحون المصريّون يعتمدون عليها في الزراعة مثل: "طُوبَة، أَمْشِير، هَاتُور، كِيهَك...". وأسماء البلاد التي تحمل أسماءً قبطية، مثل "صَفْط، سَمَنُّود، أَرْمَنْت.. وغيرها. كذلك كل المصطلحات الخاصة بالكنيسة، مثل "أَنْبَا، أَسْقُف، بَطْرِيَرْك..". وهذه الكلمات اقترضتها القبطيّة من اليونانيّة، ثم انتقلت إلى العربيّة. وهناك شكّ في أن تكون قد انتقلت إلى سوريا قبل أن تنتقل إلى "مصر القبطيّة". كلمات شائعة متناثرة مثل: "سيجا"، وهي لعبة شعبية لازالت موجودة في الريف. "يا باي"، والتي تتردّد حين يرى الشخص ما يفزعه، ومعناها في القبطيّة طائر "البومة" الذي يتشائم منه المصريون. "َبَحْ" بمعنى انتهى. "امبو" تستخدم مع الأطفال بمعنى "الشُرْب"، "جاي" وتستخدم في الاستغاثة أو الشكوى. "تَفْ" بمعنى بصق. "بِخْ"، حينما يريدون تخويف شخص، ومعناها في القبطيّة "الشيطان". 2- الهجرات العربيّة لعبت هجرات القبائل العربيّة دوراً كبيرًا في تسلّل اللسان العربي إلى المصريين، حتى من قبل ظهور الإسلام، وكانوا من عرب الشمال المسيحيين (جنوب الشام أو بادية الشام)، الذين استقروا في شمال غرب سيناء، وشرق الدلتا.
عاملان حاسمان أثّرا في "عربيّة مصر" وأكسباها لهجاتها الخاصة خلال فترة التحوّل من اللغة القبطيّة إلى اللغة العربيّة
عشرات المفردات في اللهجة المصرية لها أصول قبطية، من أشهرها أسماء شهور التقويم القبطي التي لازال الفلاحون المصريّون يعتمدون عليها في الزراعة مثل: "طُوبَة، أَمْشِير، هَاتُور، كِيهَك".
ما يعرفه غير المصريين عن لهجة مصر من خلال السينما والدراما التلفزيونية، ليس كافياً أبداً، فالمصرية "لهجات" وليست لهجة واحدة
هناك تعليق واحد:
معلومات جميله 💙
إرسال تعليق