الأربعاء، مايو 24، 2023

ملامح للعبث والفانتازيا 'بين السما والبحر' للقاص علي الفقي بقلم أ/ محمد عطية محمود - القاهرة


مما يميَّز القصة القصيرة عن غيرها من فنون السرد؛ هو دخولها في غمار علاقة سرية غامضة وملتبسة تربط بين ساردها/ المسرود عنه، وبين الأشياء التي تستنطقها الكتابة كي تتشكل لتسبغ أنماطًا مغايرة أو سلوكًا مغايرًا لتلك الثوابت

أو الجمادات التي تتحول في المشهد القصصي إلى كائنات تنمو بروح السريالية التي تتناوب بين صورها المتعددة من عبثية وفانتازية وملامح أنسنة تعطي لتلك العلاقة الجامدة الروح القادرة على التشبع بعلاقات متوازية من الوجود، ما يعطيها تلك النكهة المختلفة التي تعمل على الدهشة والشغف، وهي من العناصر المهمة لنجاح أي نص قصصي..

من خلال قسمين رئيسين تضم المجموعة القصصية "بين السما والبحر" [1] للقاص والروائي علي الفقي، حوالي 20 نصا قصصيا تتراوح بين الطول والقصر، وتغلب عليها تلك النزعة إلى الالتباس المقصود فيما بين العبث المقترن بالخيال الفني، والفانتازيا التي تلتمس أشكالًا من التعاطي مع الواقع لتقدمه في صورة تقترب من الغرائبية، لكنها لا تخرج عن النسق المعياري لهذا الواقع المتحول، والذي يفرز نماذج أكثر إثارة يحاول السرد من خلالها إماطة اللثام عن الكثير من العلاقات الصامتة أو المختبئة تحت رماد أسئلتها.. حيث تضم قصص القسم الأول 9 نصوص تتميز معظمها بالطول النسبي الذي يعتمد على التفاصيل المتعددة الدالة على وجود الكثير من الأحداث والتداعيات الشارحة لتلك الحالة المفارقة للواقع، ولكنها تخرج من رحمه لتعبر عن موقف تتم تعريته على الوجه الذي يكشف إلى حد بعيد تداعيات تلك العلاقة الملتبسة والشائكة مع الواقع من خلال رموزه الشخصية واتكاء النص على الثوابت والجوامد التي يحركها لاستجلاء تلك الحالة من الانكشاف، كما نرى في نص "رقصة العدالة" الذي تبدو من عنوانه تلك العلاقة الدالة:

"سحبتني من يدي حتى الحائط المواجه للبوابة، المصمم على هيئة نصف دائرة ويشبه محراب الصلاة. أشارت بسبابتها إلى الميزان المائل المعلق على الحائط، تتسرب ضحكاتها رفيعة متواصلة، بينما تعلقت نظراتي لأعلى على المحامين والجمهور الذين وقفوا في الأدوار العلوية يشاهدون هذا المشهد الغريب، وهي تلف يديها حول خصري، ترقص، تضحك، تميل يمينا ويسارا.. للأمام والخلف"[2]

تبدو هذه المشهدية السردية على صلة وثيقة بالواقع الهزلي الذي يقدمه السارد هنا؛ ليدلل على حالة من الانفصال عن الواقع الحقيقي الذي تنطوي عليه ساحة المحكمة/ العدالة، ويذهب في اتكائه على الخلفية التي تشير إلى رموز العدالة لكي يصمها بالميل غير المتزن، ولعل استخدام ميزان العدالة هنا قد جاء بصورة غير مباشرة ضمن المشهد ليسبغ النص عليه الروح التي تمكنه من الدلالة، وتستنطقه بدلًا من العديد من العبارات التي لا لزوم لها، وهو ما يثير حالة الضحك والسخرية المقترنة بالعبث التي تقودها الفتاة/ المرأة المتهمة التي يبرز النص سماتها الشكلية المدللة على شخصيتها..

"خرج القاضي من قاعة الجلسة فصمت كل من في البهو والأدوار العلوية، ينتظرون رد الفعل من سميرة التي اعتدلت واقفة بعد أن كانت مائلة على صدري، سارت نحوه بخطوات واثقة، اخترقت الحلقة، نظرت في عينيه الجامدتين، امتدت يدها برفق إلى صدره فانكمش قليلًا، أحكمت قبضتها على رباط عنقه وسط وجوم الحاضرين، مالت عليه، همست في أذنه: "ممكن تكمل الرقص معي؟".. لم تمنحه فرصة اختيار أو تفكير، جرَّته داخل الحلقة التي دوَّت بالتصفيق والصفير"[3]

ليكون التصاعد الدرامي لتلك الحالة دالًا على التعمق والتوغل بصورة أكثر استنفارًا وأكثر تكسيرًا للنمط السائد لتلك العدالة الممثلة في ساحتها وميزانها وقاضيها، من خلال تلك الجرأة التي تصل إلى حد الهزل والجنون والانفراط في التصرفات التي تمادت في كونها خارجة عن المألوف ومتصاعدة بشكل هيستيري يجعل من الحالة تكاد تكون مستحيلة الحدوث في الواقع، لكن الدلالات تشير إلى الانسياق الضمني في هذه الحالة برغم عدم معقوليتها، ولتستمر رقصة العدالة حتى تصل إلى مبتغاها، أو الإيمان بتلك القضية التي أثارتها المرأة أيا كانت، بتلك السمات التي تحركت من حيز اللامعقول إلى حيز الوجود الفعلي/ المنطقي داخل الحدث القصصي الذي لم بفقد حيويته برغم استمرار المشهد وتعدد تحولاته.

أيضا ما نلمحه من ضمن التكوين العبثي لشخصية نص "بما لا يليق بعاشق قديم"، أو بالأحرى الوقوع في براثن الحالة العبثية المعترضة على الواقع، حين تتحول الصورة القديمة البهية للرجل، إلى صورة هزلية شاهدة على تراكمات الزمن وتداعياته، حين يطل محملًا بانتكاسات العمر والحالة الوجدانية التي كانت تريد التغلب على عنصر الزمن وتمنعه عنه، في صورة شبه كاريكاتورية يرصدها النص بهذه الحدة الساخرة من الذات التي تضخمت ودخلت في غمار التباهي غير اللائق، وهو ما يمثل نقطة انقلاب للنص/ الواقع على شخصيته:

"خرجت أم العروس تستقبل المهنئين، التقت عيناها بعينيه الفرحتين، في الوقت الذي ارتفع ضجيج الأولاد وصفيرهم عندما اندلق الماء من إحدى الشرفات المجاورة فوقه، فاختلط الماء بالتراب، فخلق طينا، صعق.. ارتفع رأسه الأصلع المليء بالنمش للسماء، التف الصبية والناس حوله، وهو يهرب بينهم من عينيها، ينزعون عنه ملابسه، جعلوه يتوسط الحلقة، ترتفع أصوات الموسيقى الصاخبة من القاعة كلما فُتح بابها، تصك أذنه الزغاريد، ويزم عينيه لعلها لا تراه"[4]

من خلال هذه المشهدية يبدو الاستغراق في تلك الحالة العبثية التي وقعت فيها شخصية العاشق القديم، وبيان أثر الزمن، بالصيغة الخيالية التي تسقط على حالة التعري/ الانكشاف التي وصل إليها العاشق أمام معشوقته القديمة، وما يستتبع ذلك من اجترار نفس الحالة التي كان عليها في شبابه، والتي لم يمنحها له التخييل، أو الدخول في غمار المغامرة التي لا تعترف بسنوات العمر، وهو ما مارسته كل الأشياء من حوله لتميط اللثام عن عجزه الواضح، وعدم اعترافه بمضي العمر..

"أخذ ينتفض ويقفز كالجواد الهارب إلى الهاوية، بينما ظلَّت هي واقفة على باب القاعة تحاول إخفاء دموعها وهي تشاهده يجري ويقفز، يقاوم عجزه،يبتعد ويبتعد، يبتلعه الظلام حتى اختفى"[5]

في حين تبدو قصص القسم الثاني البالغ عددها 11 نصًا أكثر التزامًا باللحظات الإنسانية الأكثر اختزالًا، بما يقربها من شكل اللوحة القصصية/ البورتريه الصغير المشبع بالدلالات، وهو ما تجنح إليه من خلال التكثيف اللغوي الدلالي الذي يقدم نصًا يكاد يختلف إلى حد كبير مع نصوص القسم الأول في الطول، ويزداد معه إيقاع الحالة المسرودة، كي تعطي تلك النكهة المختلفة إلى الحد الذي تبدو فيه براعة القاص في التقاط تلك الخيوط الشفيفة، مع الميل إلى سيريالية الحالة السردية بشكل أكثر تأثيرًا على بنية النص وعلى روحه المشبعة بالحس الفانتازي/ المتخيل؛ ففي قصة "قلب جديد":

"كان الطبيب يقص الجزء الأسود من الشريان الرئيسي ويضعه في سلة النفايات في ركن غرفة العمليات، بينما كانت تعطيه اللوحة ليضع القلب الجديد مكانه... جمعت الشرايين في قبضة يدها، ورفعت القلب لأعلى برفق شديد، فبدا مثل الجنين المولود توا"[6]

يشرح النص تلك العلاقة السريالية الخالصة، من خلال شقها الفانتازي التي يضع فيها القلب في مقابل الحياة، وعملية التخييل التي تتم من خلال رسم اللوحة الفنية التي يكتمل بها إعادة القلب جديدًا إلى مكانه؛ لتحل العلاقة الرمزية محل العلاقة الواقعية في رسم العلاقة الجديدة بالوجود والعودة إلى نقطة البداية، وهي عملية الولادة النفسية من جديد، تلك التي تلعب على أوتار الرغبة في معاودة الحياة، واقترانها بالإبداع الذي يبيِّن إلى حد بعيد علاقة الشخصية بالفن والرسم كتقنية تدخل في غمار كتابة النص وتكوينه وتشبعه بعملية إعادة الخلق.

وهو ملمح متكرر في النصوص يختلط بالرومانسية الجانحة التي تذهب بعيدًا إلى صناعة روح يفتقدها المسرود عنه في نص "روح" من خلال التخييل للدخول في حالة من حالات الوجود المتوهم أو الواقع المنعدم على حد سواء، من خلال حالة الاختزال التي يبدو فيها الزمن متلاشيًا يقتات على لحظات الماضي، ويقارن بينها وبين لحظات الحاضر بكل آلامه:

"بفرح طفولي ترك رأسه لصدر أمه التي لم تأته منذ سنوات. حكى لها عن عذاباته في غيابها. بكى كأنه لم يبك من قبل. ارتفع نشيجه فتوقفت عن تربيتها لظهره وكفت أصابعها عن مداعبة شعره الأسود المجعد. ثم اختفت تدريجيا حتى سمع صفق باب الغرفة.. قام مضطربًا يتخبط في ظلام الغرفة. بصعوبة أضاء النور...."[7]

فآلية التدافع بالأفعال الماضية تكثف إلى حد بعيد مشاعر الفقد التي تعاني منها الشخصية، وحنينها إلى رمز الأم التي تتحول في تيار الفانتازية المسيطرة على الجو العام للنص إلى طيف سحري/ ملاك حارس، مع الاضطراب النفسي الذي تثيره استمرار عملية الفقد مع ما يزيد من وطأته المشهد الآني للشخصية وهي تجابه نفسها في مرآتها:

"في المرآة غمره الشيب وزحف الصلع وثنيات العجز حول الرقبة، ورموشه قد سقطت من عينين ضعيفتين.. أطلت من الركن العلوي للمرآة زوجته الشابة شبه عارية تغط في أحلامها على السرير الآخر"[8]

كتطور للحالة النفسية، وكانتهاء نصي لها، ما يعطي للنص اكتمال بنائه من خلال التحول المفاجيء في الزمن أو الوجود الحقيقي في الزمن الأصلي للشخصية، وهي تسقط جُلَّ ما يحدث لها على تلك العلاقة المنبتة مع الزوجة الشابة التي تفترش السرير من خلال المرآة التي تلعب هنا دورًا رئيسًا في انعكاس الصورة من الداخل إلى الخارج، فالمرآة هنا تستنطق الحالة وتقوم باختزال السرد دون تقديم المزيد من الصور أو المشاهد أو العبارات التقريرية التي تجسد وجود الأزمة لدى الشخصية، وهو الفارق الشاسع الذي يجعل الالتقاء بينهما مستحيلًا، فيلجأ لحيلة الهروب إلى الماضي المتفلت هو أيضًا؛ ليقدم النص هنا العلاقة براهنية الانعكاسات والظلال، وهي من الجماليات التي تميز المجموعة بصفة عامة.

كما نجد سمة الاقتران بين العبث والخيال، أو اللعب على هذه الوتيرة أيضًا في نص/ لوحة "القطة والسيدة" التي تبدو فيها عملية التواصل بين المسرود عنها/ السيدة، وتاريخها مع الشخصية الذكورية الغائبة من خلال برواز/ لوحة تقبع فيها الصورة/ الأثر البعيد الذي تتركه فيها شخصية الرجل الباهتة برغم الحنين إليها أو تذكرها:

"يكاد هذا القابع في البرواز المتآكل أن يقفز كقط، والقطة تقفز بصعوبة على شباك المطبخ المطل على السلم ومن فتحة صغيرة تنكمش حتى تفلت للداخل، ترمي جسدها في حضن المرأة وهي تموء مواء الآتية من غربة وتلتقط أقراص العلاج وتضعها في فمها"[9]

يلعب النص هنا على الالتباس بين المرأة والقطة من ناحية، والرجل والقط من ناحية أخرى، حيث تتأنسن القطة لتقوم بالأفعال الموازية لأفعال المرأة، ويبدو القط على الطرف الآخر بنفس الحالة يتوازى مع شخصية الرجل الغائب، وتمضي الحالة كلها في العبث الفلسفي والنفسي، إضافة إلى العبث المادي  الذي يثيره وجود القطة في المشهد، بالتوازي مع الوجود المعنوي للقط الآخر الرابض في البرواز هو الآخر: "تعلقت ابتسامة باهتة ثابتة للمرأة على صورة قط البرواز، بينما برز الخوف في عيني القطة التي أخذت تمسح وجه السيدة ورقبتها، وتلعق يديها كأنها تغسلها غسيل الصباح"

حيث تمثل المفارقة هنا تماهيا بين المرأة والقطة معبرا عن حالة من حالات الإسقاط التي يحيلها النص على الواقع، ما يشي بحالة التوحد في الرغبات والمصير بين الاثنين، مستمدا من حالة من حالات العبث الوجودي التي تكاد تسيطر على الجو العام للمجموعة القصصية التي استلهمت إلى حد بعيد روح الفانتازيا والعبث، واختلفت في شقها الثاني بتجريد الحالة الإنسانية، لصالح الفكرة، بإغفال أسماء الشخصيات. 


[1]  بين السما والبحر – قصص – على الفقي – دار النسيم للنشر والتوزيع - 2019

[2] المجموعة ص19

[3]  المجموعة ص19

[4]  المجموعة ص 56

[5]  المجموعة ص 56

[6]  المجموعة ص65/66

[7]  المجموعة ص71

[8]  نفسه

[9]  المجموعة ص 69

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق