الأستاذ/ يسرى الخطيب شاعر وباحث وصحفي |
– ظهر فيلم "رابعة العدوية" الثاني والأشهر، في سنة 1963م، للمخرج "نيازي مصطفى" الذي تعامل مع (الحدوتة) تجاريًا: الشبّاك أولا…
- لم يكن المؤلف "عبدالفتاح مصطفى" أو كاتبة السيناريو والحوار "سنيّة قراعة" لهما علاقة بالتاريخ الإسلامي، أو التوثيق التاريخي للأحداث والشخصيات، ولذا جاء فيلم "رابعة العدويّة" فيلمًا تجاريًّا مُبتذلًا، كاذبا….
فلا علاقة لأحداث الفيلم بوقائع التاريخ، وشخصية العابدة الزاهدة "رابعة العدوية"
(كاتبة السيناريو "سنية قراعة" كانت تعمل مع صلاح نصر، وجهاز المخابرات، وعليها علامات استفهام كثيرة)
- في فبراير 1962م، ظهرَ الفيلم الأول عن "رابعة العدوية" تحت اسم: "شهيدة الحب الإلهي"، (أبيض وأسود) للمخرج عباس كامل، والقصة والسيناريو والحوار: "إبراهيم الإبياري".. وكان أيضا مجموعة من التخاريف اللا منطقية التي تحكي عن صياد فقير من البصرة، باع ابنته تحت وطأة الأزمات الاقتصادية، وأجبرها سيّدها على الغناء والرقص وحياة اللهو والمجون، ثم اكتفت بالغناء فقط، حتى هداها الله على يد الشيخ ثوبان…
وفشل الفيلم واختفى تماما، ولم يعد يتذكره أحد..
- ومن المؤلفات التي ساعدت على تشويه سيرة "رابعة العدوية" ولم يكن لها أية علاقة بالواقع والحقائق والتاريخ؛ مؤلفات الكاتبين: طاهر أبو فاشا في مسرحيته الشعرية: (شهيدة العشق الإلهي)، وكتاب الدكتور عبد الرحمن بدوي: (رابعة العدوية.. شهيدة العشق الإلهي).. والكتابان يمتلآن بالخيال البعيد عن المنطق وحقائق التاريخ..
ومن الواضح أن صنّاع الفيلمين تأثّرا بالكتابين كثيرا
رابعة العدوية
هي (أم الخير بنت إسماعيل العدوي)
(100هـ/ 717م – 180هـ/ 796م)
أختلف الباحثون في سبب تسميتها بهذا الاسم الغريب، فهي أول مَن تسمَّت به، ونقلَ البعض أن اسمها (رابعة) جاء بسبب ولادتها بعد 3 بنات، وذكرَ بعضهم أن اسم (رابعة) يمت لدلالات رمزية واضحة في لغة العرب، كما في (رابعة النهار)، كما أن اسم (رابعة أو ربيعة) يُطلق في العراق على النخلة إذا ارتفعت وطالت ولم تنل ثمارها، ورابعة النهار: منتصف النهار، وهي أقوى فترة لضوء الشمس ووضوح الأرض،، وقيل إن "الرابعة" هو الوقت الذي يأتي بعد الضحى، وكما انتشر اسم "ضحى" في زماننا، كان اسم "رابعة".
من القارب الصغير للأَسر والعبودية
- وُلدت "رابعة" في مدينة البصرة، بالعراق (100هـ/718م)، لـ أبٍ عابد فقير، مات و(رابعة) لم تزل طفلة دون العاشرة، ولم تلبث الأم أن لحقت به، فوجدت الفتيات (رابعة وأخواتها) أنفسهن بلا عائل، يُعانين الفقر والجوع .. فذاقت (رابعة) مرارة اليُتم الكامل، وخرجت للعمل على القارب الصغير الذي تركه والدها، وكانت تنقل الناس بدراهم معدودة في إحدى أنهار البصرة، حتى دبّت المجاعة والقحط بالبصرة في ذلك الزمان، وانتشر اللصوص وقُطَّاع الطُّرق، الذين خطفوا الطفلة اليتيمة، وباعوها بـ 6 دراهم لأحد التجار القساة من آل عتيق البصرية، وأذاقها التاجر سوء العذاب..
الحريّة
– لم تكن "رابعة العدوية" مطربة أو راقصة، كما صورتها السينما، بل كانت عابدة زاهدة منذ وَعت، مثل أبيها،
واختلف الباحثون في حقيقة تحررها من الأَسر، فبعض المؤرخين ذكر أن أبناء سيّدها منحوها حريتها بعد وفاة أبيهم، بسبب صلاحها وزهدها، ومنهم من يؤكد أن سيّدها هو الذي أطلق سراحها، بعد أن رأى ورعها وقوة إيمانها،
– تقول دائرة المعارف الإسلامية (المجلد التاسع، العدد 11 ص 440) : (إن رابعة أقامت أول أمرها بالصحراء بعد تحررها من الأَسر، ثم انتقلت إلى "البصرة" حيث جمعت حولها كثيرًا من المريدين والأصحاب الذين وفدوا عليها لحضور مجلسها، وذِكرها لله، والاستماع إلى أقوالها، وكان من بينهم الإمام "مالك بن دينار"، والزاهد "رباح القيسى"، والمُحدّث "سفيان الثورى"، والمتصوّف "شفيق البلخي".)
بين الحقيقة والخيال
- ومثلما هو دَيْدَن البشر بإلصاق المناقب بالمحبوب والمثالب بالمكروه، فقد نُسجَ على "رابعة" ما يفوق العقل والمنطق، ونُسبَ إليها ما ليس لها، وهكذا اختلفت آراء المؤرّخين بخصوص حياة (رابعة)، فظهرت أساطير وحكايات عنها وأغلبها من نسج الخيال.
- استهجن أصحاب السلفية أقوال (رابعة العدوية) في الحب والعشق الإلهي للتعبير عن المحبة بين العبد وربه، وأوردَ محبو رابعة، وهم كُثُر، عكس ذلك، فجاء في الدر المنثور: (كانت كثيرة البكاء والحزن)، وذكر أبو القاسم القشيري في الرسالة: أنّ (رابعة) كانت تقول في مناجاتها: (إلهي تحرق بالنار قلبًا يحبّك؟!)
وقال ابن خلّكان: إنّها كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة.
العشق الإلهي
- كانت "رابعة" تبكي في سجودها حتى يبتل موضع رأسها، ولم تتزوج، ورفضت الزواج من كبار عصرها، من الأمراء والأعيان، مخافة أن يشاركها حب ربها، أو يشغلها قليلا عن خالقها، وكانت تقول: (ما ظهر من أعمالي لا أعدّه شيئًا)
ومن وصاياها: (اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم)
وقد سألها سفيان الثوري ذات يومٍ: ( صِفي لي درجة ايمانك واعتقادك باللّه عز وجل، فقالت رابعة: إنّي لا أعبد اللّه شوقا إلى الجنة، ولا خوفًا من جهنم، وإنما أعبده لـ كمال شوقي إليه، و لـ أداء شرائط العبودية )
وقال خالد بن خداش: سمعَت "رابعة" (صالح المريّ) يذكر الدنيا كثيرًا في قصصه، فنادته: يا صالح، مَن أحبَ شيئًا أكثر من ذِكره.
من أقوالها في الحب الإلهي:
1– إلهي أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلَّقت الملوك أبوابها، وخلا كلُ حبيبٍ بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك.. إلهي هذا الليلُ قد أدبر، وهذا النهارُ قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها عليَ فأعزى، فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، وعزتك لو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك.
2ـ اللهم اجعل الجنة لأحبّائك، والنار لأعدائك، أما أنا فحسبي أنت.
3ـ اللهم إن كنتُ أعبدك خوفا من نارك فاحرقني بنار جهنم، وإذا كنتُ أعبدك طمعًا في جنتك فاصرفني منها.. أما إذا كنتُ أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمني من رؤية وجهك الكريم.
4ـ إلهي.. ما أصغيتُ إلى صوتِ حيوانٍ، ولا حفيفِ شجرٍ، ولا خريرِ ماءٍ، ولا ترنيمِ طيرٍ، ولا تنعّم ظلٍ، ولا دَوِيّ ريحٍ، ولا قعقعة رعدٍ؛ إلا وجدتُها شاهدةً بوحدانيتك، على أنه ليس كمثلك شيء.
- سُئِلَت "رابعة" أتحبين الله تعالى؟ قالت: "نعم أحبه حقا"، وهل تكرهين الشيطان؟ فقالت: "إن حبي لله قد منعني من الاشتغال بكراهية الشيطان".
– لم تشذّ "رابعة" عن بيئتها الاجتماعية، المُحِبّة للشعر، فنظمت، ونُـقل عنها الكثير:
فليتكَ تحلو والحياةُ مريرةٌ/
وليتك ترضى والأنامُ غضابُ/
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ/
وبيني وبين العالمين خرابُ/
إذا صح منك الودّ فالكلُ هَيّنٌ/
وكلُ الذي فوق الترابِِ ترابُ/
وقالت:
تعصي الإلهَ وأنت تُظهرُ حُبَّهُ/
هذا لعمري في الفعالِ بديعُ/
لو كان حُبّكَ صادقًا لأطعتهُ/
إن المحبَ لمن يحبُ مطيعُ/
ولها بعض المقولات التي أخذها الشاعر طاهر أبو فاشا، وصاغها شعرا، مثل:
عرفتُ الهوى مُذ عرفتُ هواكا/
وأغلـقتُ قلـبيَ عمَّـن عداكا/
قالتها رابعة، وأكملها الشاعر طاهر أبو فاشا، وما زال الناس يخلطون بين كلمات رابعة، وشعر طاهر أبو فاشا.
– لم يُعرف عن رابعة العدوية معجزات أو كرامات إلا ما نُقل عنها من كلام الزهد والحكمة، كقولها لسفيان الثوري: (إنما أنت أيامٌ معدودة، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك، يوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم ، فاعمل)
وقولها: (أستغفرُ الله من قلة صدقي في قولي: أستغفر الله)
قالوا عن رابعة:
1- قال عنها الإمام ابن كثير: كان لها أحوالًا وأعمالًا صالحة، وصيام نهارٍ وقيام ليلٍ، ورُؤيت لها منامات صالحة.
2- أثنى عليها الإمام الذهبي في السّير، وحكى عنها سفيان وشُعبة وغيرهما ما يدل على صلاحها وزهدها وورعها.
3- قالت "عبدة بنت أبي شوال" وكانت من خيار إماء الله، وكانت تخدم رابعة.. قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنتُ أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين؟
إلى كم تقولين؟ يوشك أن تنامي نومةً لا تفوقين منها إلا ليومِ النشور.
قالت فكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت.
وفاة رابعة العدويّة
خرَجَت "رابعة" من الحياة بعد أن بلغت الثمانين من عمرها، وكانت وفاتها في سنة (180هـ – 796م) وقبرها بمدينة القدس، والله أعلم.
- رَحَلَت "رابعة" ولكن سيرتها ستظل أنشودةً تُروَى بين البشر، وحكايةً يرددها الصوفيون، ويعترض عليها السلفيون، ويرويها تاريخ العاشقين، ويعرضها الإبداع النثري والشعري والقصص الإسلامي، ولكن الجميع يتفقون أنها كانت رمزا للعشق الإلهي، والصلاح والزهد في دنيا البشر،
قد تختلف الوسائل، لكننا جميعا، غايتنا رب العزة الواحد الأحد الفرد الصمد.
المصدر:
موسوعة (شموسٌ خلفَ غيومِ التأريخ - الجزء الأول - يسري الخطيب)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق