نظمنا مظاهرة عيال صغيرة.. وهتفنا: (بُكرة العيد ونعيِّد.. وندبح أبوك الشيخ سيد).. ولما استقامت نغمة الهتاف علتْ أصواتنا.. فانتشينا من فرط الحماس.. حماستي فترت بسرعة.. لأن أصابعي خرجت من الفردة اليمنى لحذائي المقطوع فاصطدمت بحجارة الطريق.. تركت اللمَّة لأنحني على الفردة العاصية وأضع أصابعي داخلها..
لحقتُ بالقافلة لأواصل الهتاف.. وأعاود التوقف لأخفي أصابعي داخل الحذاء المسكين. لا أعرف من المسكين.. أنا أم الحذاء.. الذى كدت أسمعه مرات كثيرة يصرخ بي: اعتقني لوجه الله. يصعب عليَّ صراخه.. فلا أستطيع أن أعتقه.. وتصعب عليَّ نفسي. لا أجرؤ أن أجاهر أبي بمطلبي.. فأذهب إلى أمي وهى تطبخ أمام الكانون. أتلكأ أمامها ثم أجلس بحيث ترى أصابعي تخرج من الحذاء. أبتسم فى خجل.. فتمسح دموعها التى سالت في صمت. تنظر نحوي من تحت لتحت.. ثم تلعن دخان الكانون الحامي.. لسعتني دموعها.. لكني تماسكتُ أمامها.. ثم حركت أصابع قدمي اليمنى بشكل جعلها تبتسم.. فغادرت المكان أحجل مفتعلا البهجة.. ما إن وصلت إلى الشارع حتى فرت الدمعة من عيني. كيف يأتى العيد وأنا بهذا الحذاء؟ لا.. هو ليس حذاء.. بل هو مركوب لعين.. كيف أذهب إلى العيد مع أصحابي؟ سيكون معي قروش قليلة مثلهم أشتري بها عسلية أو مهلبية ألوان وأشوف صندوق الدنيا.. لكن لن يكون لي حذاء لامع ومشدود مثلهم.. سيهمل أصحابي منظر أصابعي الباصة من الحذاء.. لكن الآخرين الذين ننافسهم فى لعب الكرة سينتهزون الفرصة ويجعلونني مهزأة العيد.. وقد نتشاجر.. وأعود إلى أهلي ممزق الثياب مخدوش الوجه. الجلباب أمره ميسور.. تحرص أمي على مظهرنا في العيد.. فتدخر جلباب العيد الصغير بطاقيته المصنوعة من نفس القماش.. وتجهزه للعيد الكبير. أصابني زهق.. جعلني أشوح بيدي..
وأنفخ بغيظ.. فتوقفت عن الهتاف.. وامتنعت عن الجري مع العيال. رجعت وقعدت في وسط
الدار ساهمًا. لحظتني أمي فقالت مؤنبة: مالك يا واد؟ استدركتْ كأنها انتبهت إلى
حال حذائي فقالت مواسية: تفرج بإذن الله. تذكرت أني رأيت فى فترينة الجمعية
التعاونية خف كاوتش خفيف بربع جنيه.. هو ليس حذاءً.. لكنه يكسو القدم ويحميها من
الشوك والحجارة والزجاج.. لو استطعت تدبير ربع جنيه لاشتريته لأحضر به العيد..
وأتجنب مهزأة العيال. فكرت في حصالتي.. بها خمسة تعريفة.. لا تنفع ولا تشفع..
دموعي سالت ولم أقدر على منعها. باقي يومين على العيد.. وأريد الخف. أفقت على يد
أمي تهزني برفق وتتمتم: قوم يا حبيبي.. خذ العشر بيضات لخالتك أم ماهر. سكتت لحظة
ثم استدركت هامسة: وهات منها ثمن البيض. قمت فرحًا لأني رأيت في ابتسامتها وعدًا
لي بالفلوس. أسرعت بالبيض وعدت أطبق بقبضة يدي على الفلوس. أشارت أمي إلى الحصالة
فأسرعت بوضع الفلوس داخلها. هزت رأسها متسائلة.. فقلت والفرح يرعشني: أعطتني سبعة
صاغ ونص.. معي الآن عشرة صاغ. أكملتُ وكأننا ندبر مؤامرة: باقي خمسة عشر قرشًا.
قالت في خفوت: فرجه قريب.
بعد المغرب جلسنا على الحصيرة..
أنا وأبي وأمي وأخي الصغير الذى تعلم الكلام وأخذ يعابث أختي التي تحبو وتصدر
أصواتًا غير مفهومة.. تحلقنا حول الطبلية وتعشينا.. ثم قام أبي فجلس على الكنبة
وأسند ظهره إلى المسند.. وأخذ يدخن في صمت وتلذذ.. ثم رأيته يلقي برأسه إلى الوراء
ويقول: كل سنة وانتم طيبين يا أولاد.. ردت عليه أمي قائلة: وانت بالصحة والسعادة
يا حاج.. ربنا يخليك لنا. نظر أبي نحوي ثم هتف كأنه تذكر شيئا: اذهب يا واد لسيد
البقال وهات تموين السجائر.. ومد يده بنصف جنيه.. مددت يدي وأخذت النص جنيه وهممت
بالجري ناحية البقال فى أول شارعنا. لكني لاحظت أن أمي نظرت إلى أبي نظرة طويلة لم
أفهمها. بعد عدة خطوات ناداني فعدت إليه مسرعًا.. انتظر لحظة قبل أن يقول: قل لسيد
البقال يعطيك سجائر بثلاثين قرشًا فقط.. وهات الباقي وحطه في حصالتك. جريت
كالرهوان إلى سيد البقال.. وعدت بالسجائر.. أعطيتها لأبي.. ونمت والحصالة والكاوتش
في حضني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق