ضفافنا ملتقى لمبدعى ومثقفى وعلماء ونجوم كفرالزيات, ولا يدخلها إلا المثقفين

الثلاثاء، مارس 21، 2023

الظُّهُورُ الأَوَّلُ لإبْلِيسَ، وَمُحَاوَلَتِهِ بإبْرَاهِيمَ، وَذَويهِ التَلْبِيسَ - بِقَلَمِ / حُسَامُ الدِّينِ أَبُو صَالِحَةٍ ابن شبشير الحصة بمدينه طنطا الشقيقه

الشاعر الأديب / حسام أبو صالحة
ليسانس آداب وتربية - قسم دراسات إسلامية- جامعة الأزهر رئيس قسم الدراسات العليا والعلاقات الثقافية بكلية الهندسة جامعة طنطا. ابن شبشير الحصة. طنطا

 

أقسم الشيطان بعزة الله أنه سيقوم بإِغواء بنى آدم، وقد أقسم على ذلك، وهو يعلم عظمة هذا القَسَم؛ لأنه عرف أن الأمر بيد الله، وأنه يمكنه القيام بالإِغواء، والوسوسة، وقد قال تعالى بسورة الحجر :" قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(٣٩) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(٤٠)"

 

-وقد علل اللعين كذبًا سبب قسمه بالتزيين في الأرض، والغواية لبني آدم بقوله : "قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" (الحجر ٣٩)

 

بأسلوب مجاف للأدب، عارٍ عن التلطف بالقول، قالٍ عن الأخلاق الحسنة، والخلال الطيبة، ناءٍ عن التأدب في الحوار، والمخاطبة مع الله-تعالى- انتهج إبليس هذا الجفاء في الحوار، وذاك الصلف، والاستعلاء بالحديث ، والتمرد بالفعل ، والعصيان بكل كبر؛ فيقسم بإغواء الله تعالى له، وكأن الله تعالى هو من أغواه للتمرد، ودفعه للتكبر، وكتب عليه الكفر بالعصيان لأمره بالسجود لآدم، نافيًا عن نفسه المخيَّرة من الله تعالى بين الهدي، والردَىٰ، بين الطاعة، والمعصية، بين الإيمان، والكفر، بين الاستقامة، والانحراف بالغواية، مدعيًا زورًا، وكذبًا، وبهتانًا أن الله - تعالى- جبره، وسيَّره، ولم يخيِّره، لكن الله تعالى بعلمه الواسع المحيط الذي أحاط بكل شيء علمًا ، فلا يعزب عنه شيء مثقال ذرة قد علم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون  "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (١٤ الملك ) فكتب أزلًا بالقضاء عصيان إبليس، وكفره لتكبره، واستعلائه بتفضيل جنسه في الخلق علي آدم، وذلك لعلمه بمن خلق فالله - تعالى - قد خلق صنفين صنف جُبِلَ علي الصاعة كالملائكة؛ فلا يعصون الله تعالى أبدًا ما أمرهم، وصنف خَيَّرَه الله - تعالى- بعدما هداه للفطرة السليمة ، وهي الإيمان فخيره بين الشيء، ونقيضه وهما الإنس، والجان ، ثم كتب الله تعالى ما سيقع من هذا الصنف بناءً علي علم الله تعالى المحيط بطبائع تلك المخلوقات فالإنس، والجان يكتسبان أفعالهما من إيمان، أوكفر، وطاعة، أومعصية، وخير، أوشر بكامل اختيارهما بالدنيا ، وبناءً علي تعقلهما الأمر فالعقل مناط التكليف، والشرع أساس المحاسبة علي الفعل، وهذا ما يسمى بالقدر، إذن لا حجة لإبليس في إلقاء سبب عصيانه، وكفرانه إلي الله تعالى، فيستطرد إبليس قسمه بالله تعالى كما أغواه ، وأضله؛ فسيغوي البشرية جمعاء محببًا إليهم المعاصي، ومرغبًا إياهم فيها. الكاتب.

 

- فالمنتصر بهذه الحرب الضروس بين إبليس، والبشر هم من أخلصهم الله - تعالى - واستثناهم من تسلط الشيطان عليهم، وهم عباد الله المخلَصين بفتح اللام ففرق شاسع، وبين واسع بين المخلِص بكسر اللام، والمخلَص بفتحها؛ فالمخلِص مَن كانت أعماله خالصةً لله، أي يقوم بها لله فقط، ولا يقوم بها لغيره. وقد وردت في هذا المعنى آيات عديدة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿وما أُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾، وقيل هو من أخلص نفسه لعبادة الله وطاعته.

 

أمّا المخلَص - بصيغة المفعول - فهو من طبعه الله بطابع الإخلاص أي ختمه ومهره بختم الإخلاص، فاستخلصه وجعله خالصاً وأيد إخلاصه.

 

- نعود للظهور الأول لإبليس من جملة ثمانية مرات أحصيتها تفصيلًا بعد إجمال ، وكان هذا الظهور مع أبي الأنبياء خليل الرحمٰن سيدنا إبراهيم-عليه السلام - بمناسك الحج؛ حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما رفعه إلى النبي : "لما أتى إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه وسلامه المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض قال ابن عباس رضي الله عنهما:" الشيطان ترجمون، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون"، رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم واللفظ له، وقال صحيح على شرطهما، وفي صحيح الترغيب والترهيب للألباني. [المستدرك: 1713، وصحيح الترغيب: 1156].

 

- وجاء في مجمع الزوائد:13759 - عن أبي طفيل قال: قلت لابن عباس: "يزعم قومك أن النبي- -سعى بين الصفا والمروة وأن ذلك سنة؟" قال: "صدقوا، إن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالمناسك عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه السلام، ثم ذهب به جبريل عليه السلام إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان - قال سريج: شيطان - فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات، قال: قد تله. قال يونس: ثم تله للجبين، وَعَلَىٰ إسماعيلَ قميص أبيض، قال:" يا أبت ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه" ، فعالجه ليخلعه، فنودي من خلفه: "أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا" . فالتفت إبراهيم فإذا هو بكبش أبيض أقرن أعين".رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير أبي عاصم الغنوي وهو ثقة.(أرشيف منتدى الألوكة - المكتبة الشاملة الحديثة)

 

شرح الحديث :

 

هذا الحَديثِ يقولُ النبيُّ - -: "لَمَّا أتَى إبراهيمُ خَليلُ اللهِ المناسكَ"، وهي مَواضعُ أداءِ نُسُكِ الحجِّ، "عرَضَ له الشيطانُ"، أي: ظهَرَ له الشيطانُ "عندَ جَمْرَةِ العقَبةِ" وهي الجمْرةُ الكُبرى، والعقَبةُ مِنَ الشَّيءِ: الموضِعُ المرتفِعُ منه، والعقَبةُ: حَدُّ مِنًى مِن جِهةِ مَكَّةَ، "فرَماهُ بسَبْعِ حَصَياتٍ" وهي سَبْعُ أحجارٍ صِغارٍ، وهذا تَصغيرٌ لِقَدْرِ الشيطانِ، "حتَّى ساخ في الأرضِ"، أي: غاصَ فيها، "ثم عرَضَ له عندَ الجَمْرةِ الثانيةِ، فرَماهُ بسَبْعِ حَصَياتٍ حتى ساخ في الأرضِ، ثم عرَضَ له عندَ الجمْرةِ الثالثةِ، فرماهُ بسَبْعِ حَصَياتٍ حتى ساخ في الأرضِ"، وتَكرارُ ظُهورِ الشيطانِ يَدلُّ على تَكْرارِ مُحاوَلتِه إغواءَ إبراهيمَ، وإثناءَه عن طاعةِ اللهِ، وعن ذَبْحِ ابنِه إسماعيلَ، كما رَأَى في رُؤْياهُ، "قال ابنُ عباسٍ: الشيطانَ تَرجُمُونَ"، أي: تَضرِبونه بالحِجارةِ، "ومِلَّةَ أبيكم إبراهيمَ تَتَّبِعون"، أي: تتَّبِعون سُنَّةَ إبراهيمَ عليه السلامُ في رَجْمِه للشيطانِ، وفي ذلك حِكمةُ كَمالِ التَّعبُّدِ للهِ تعالى، والتعظيمِ لِأمْرِه .(الدرر السنية /الموسوعة الحديثية )

 

فالحِكمةُ من رَميِ الجمراتِ :

 

أولًا : طاعةُ اللهِ فيما أمَرَ به، وذِكْرُه بامتثالِ أمْرِه على لسانِ نَبِيِّه - -قال الله تعالى: وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة: 203]  ويدخُلُ في الذِّكْرِ المأمورِ به: رمْيُ الجِمارِ؛ بدليلِ قَولِه بعدَه: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 203] ، فإنَّ ذلك يدلُّ على أنَّ الرميَ شُرِعَ لإقامةِ ذِكرِ اللهِ، وعن عائشة عن النبي- - قال: " إنما جعل رمي الجمار، والسعي بين الصفا، والمروة لإقامة ذكر الله"قال أبو عيسى، وهذا حديث حسن صحيح.

 

ثانيًا: الاقتداءُ بإبراهيمَ في عداوةِ الشَّيطانِ ورَمْيِه وعَدَمِ الانقيادِ له فعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما مرفوعًا، قال: (لَمَّا أتى إبراهيمُ خليلُ اللهِ عليه السَّلامُ المناسِكَ، عَرضَ له الشَّيطانُ عند جَمْرةِ العَقَبةِ، فرماه بسَبْعِ حَصَياتٍ، حتى ساخَ في الأرضِ....)

 

-نعود لظهور إبليس الأول، وكان لسيدنا إبراهيم الاب، وإسماعيل الابن، وهاجر الأم:قال محمد بن إسحاق: "إن إبراهيم قال لابنه حين أمر بذبحه:" يا بني، خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب لأهلك" فلما توجه اعترضه إبليس ليصده عن ذلك، فقال:" إليك عني يا عدو الله! فوالله لأمضين لأمر الله! "فاعترض إسماعيلَ فأعلمه ما يريد إبراهيم يصنع به، فقال:" سمعا لأمر ربي وطاعة." فذهب إلى هاجر فأعلمها، فقالت:" إن كان ربه أمره بذلك فتسليما لأمر الله." فرجع بغيظه لم يصب منهم شيئا، فلما خلا إبراهيم بالشعب، وهو شعب ثبير، قال له: {يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102] .الكامل في التاريخ - 95/6163.

 

ما رجاه أسماعيل من أبيه عند ذبحه :

 

ثم قال له : "يا أبت إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصبك من دمي شيء فينتقص أجري، فإن الموت شديد، واشحذ شفرتك حتى تريحني، فإذا أضجعتني فكبني على وجهي فإني أخشى إن نظرت في وجهي أنك تدرك رحمة فتحول بينك وبين أمر الله، وإن رأيت أن ترد قميصي إلى هاجر أمي فعسى أن يكون أسلى لها عني، فافعل." فقال إبراهيم:" نعم المعين أنت، أي بني، على أمر الله! "

 

ما فعله إبراهيم عند الذبح :

 

فربطه كما أمره، ثم حد شفرته {وتله للجبين} [الصافات: 103] ، ثم أدخل الشفرة لحلقه، فقلبها الله لقفاها، ثم اجتذبها إليه ليفرغ منه، فنودي: {أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا} [الصافات: 104] ، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها.

 

قال ابن عباس: خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفا، وقيل: هو الكبش الذي قربه هابيل، وقال علي - عليه السلام -: كان كبشا أقرن أعين أبيض. وقال الحسن: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير فذبحه، قيل بالمقام، وقيل: بمنى في المنحر.

 

الكامل في التاريخ - 96/6163.

 

أين الموضع الذي أمر فيه إبراهيم بذبح ولده إسماعيل؟

 

قالوا: بمكة في المقام.

 

قالوا: في المنحر عند الجمار. قالوا في مواضع متعددة على صخرة، لكن الله أعلم بالمكان.

 

وقال ابن عباس: "فو الذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة، وقد يبس" [تاريخ الطبري: 1/194] يعني: أن الأجيال بعد إسماعيل ظلت محتفظة بقرون الكبش في الكعبة حتى صار الآمر إلى حفظه في الكعبة، ثم احترق لما احترقت الكعبة، احترق قرني الكبش بحريقها.

 

ما سبب الذبح؟

 

وممن ذكر ذلك ابن الأثير بكتابه الكامل في التاريخ لكنه خص بالذبيح سيدنا إسماعيل، والطبري ذكر نفس السبب بكتابه التاريخ، لكنه خص بالذبيح سيدنا إسحاق، ولا مجال هنا لتفنيد الأدلة، وبسطها إذ الحكمة هي ثبات الأب، والابن، والزوجة عند الابتلاء بالذبح من الله، وانتصارهم علي تضليل إبليس لهم أيا كان شخص الذبيح.

 

والسبب في أمر الله عز وجل ابراهيم بذبح ابنه الذي أمره بذبحه فيما ذكر أنه: " إذ فارق قومه هاربا بدينه مهاجرا إلى ربه متوجها إلى الشام من أرض العراق دعا الله أن يهب له ولدا ذكرا صالحا من سارة فقال:

 

«رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» يعنى بذلك ولدا صالحا من الصالحين كما أخبر الله تعالى عنه فقال: «وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» فلما نزل به أضيافه من الملائكة الذين كانوا أرسلوا إلى المؤتفكة قوم لوط بشروه بغلام حليم عن أمر الله تعالى إياهم بتبشيره، فقال إبراهيم إذ بشر به:" هو إذا لله ذبيح" فلما ولد الغلام وبلغ السعي قيل له: "أوف بنذرك الذي نذرت لله." (تاريخ الطبري - 269/6431/الكامل في التاريخ - 95/6163)

 

لماذا كان الذبح بلاء مبين؟

 

قال الله، وهو أصدق القائلين : "إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ" [الصافات: ١٠٦] الذبح الأمر به اختبار واضح جلي فسارع مستسلمًا، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37]، وفى بما أمر الله به، الواحد منا قد لا يطيق الصبر على مرض الولد، فكيف يصبر على ذبح ولده، ولكن هذا البلاء المبين الذي جعله الله لخليل الرحمن رفعة لمنزلته، ودرجته ، وهذا البلاء المبين الذي كان لخليل الرحمن زيادة أجر، وطاعة، وقربة، وبسببه شرعت هذه الشريعة العظيمة في ذبح الأضاحي.(الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد)

 

-ويا لقدر الله تعالى باختيار غلام للذبح عزَّ الزمان أن يجود بمثله، وقلَّ أن يبوء بشبهه،ويُخرجَ نظيره، لكنه، وإن غلى فلا يغلو علي الله، وإن عزَّ، فلا يَعِزُّ علي الإله؛ فقد اجتمع بالغلام محاسنُ الخَلق، وطيب الخُلُقِ؛ فقد بشرت به الملائكةُ أباه حائزًا، وجامعًا ما يلي :

 

١-بشرى من الله تعالى، وهدية.

 

٢-حليم، والحلم صفة لا تظهر إلا باكتمال رشده.

 

٣-كونه حليم يدل علي أنه لن يموت طفلا بل سيعيش لرشده.

 

٤-الحلم رأس الصلاح، وأصل الفضائل.

 

٥-آخذ بقلوب، وعقول الناس لحلمه.

 

٦-سيهبه الله تعالى لوالده رغم كبر سنه.

 

٧-الحلم من معانيه الرفق فسيرفق بوالديه ثم جميع الخلق.

 

-ولهذا كان ابتلاء الذبح كبير، وعظيم؛ لأن الذبح لن يكون لطفل بمهده، ولكنه عندما يبلغ السعي مع والده.

 

إذا صار إبراهيم متعلق القلب، والعقل بولادة طفل له علي شوق من كبر سنه حيث بلغ ستًّا، وثمانين سنة، وقد صار عند بلوغ هذا الطفل سن رشده، وتمام سعيه معه أكثر تعلقًا بسائر جوارحه بذاك الابن فلما بلغ الابن مرحلة سعيه الكامل معينًا لوالده كبير السن تمام الإعانة، فصار الأب لا يستغني عنه، بل معتمدًا كل الاعتماد عليه عندئذ تعلق قلب الاب، وفكره، وبصره بابنه لأنه أصبح زينة له يصحبه بكل مكان، ومجلس.

 

-فقد ذهبت مشقة كلفة تربية الابن، ورعايته، وإطعامه، وشرابه، وكسوته، وتعليمه حتي أينع النبت، وحان وقت قطف الثمار؛ حيث جاءت منفعته المنشودة بالسعي مع والده يدا بيد، فقيل عمر الابن حين بلوغه السعي ثلاثة عشر عاما، وقيل بلوغه سن الاحتلام أيا كان عمره، وقيل بلوغه سعي العقل الذي تقوم به الحجة، وقيل بلوغه سعي العبادة.

 

- قال إبراهيم - عليهِ السلامُ - لابنه :" إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ" [الصافات: ١٠٢]

 

قال ابن عباس : "كانت رؤيا الأنبياء وحيًا" حديث حسن. [المستدرك: 3613، وحسنه الألباني ظلال الجنة في تخريج السنة: 463].

 

وأخرج الطبري بسند حسن أيضاً عن قتادة: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: 102]، قال: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا في المنام شيئًا فعلوه". [جامع البيان: 22608].

 

قال القرطبي: قال مقاتل: "رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات". [تفسير القرطبي: 15/101]، والله أعلم.

 

وقال محمد بن كعب: "كانت الرسل تأتيهم أي يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظًا رقودًا، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم". [تفسير القرطبي: 15/101].

 

وهذا ثابت في الخبر المرفوع قال : إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا. [الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/171، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1705].

 

ولذلك إذا نام النبي ورأى رؤيا فإنها رؤيا حق لأن قلوب الأنبياء لا تنام بل هي حية، وما يرد عليها من الله -تعالى- فهو حجة يجب تنفيذه، فأمر الله تعالى إبراهيم بذبح ولده، والأمر لا بدّ من إنفاذه،(الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد )

 

-عند تلك اللحظة الحاسمة، والوقعة القاسمة، وعند بلوغ الابن السعي مع أبيه أخبره والده علي الفور برؤياه التي تخصه، وهنا تساؤل هام ينبغي إثارته لمعرفة الإجابة عنه : لماذا أخبر الأب ابنه برؤيا ذبحه؟

 

أولًا: ليؤهله لتقبل الأمر فيهون عليه وقعه خير من مفاجأته حال ذبحه.

 

ثانيًا :فيه توقير، وتقدير، واحترام من الأب تجاه ابنه فهو يستشيره برؤياه التي تخصه، ويريد معرفة رأيه دون فرض الأمر عليه.

 

ثالثًا : ليختبر رضا الابن بقضاء الله وقدره مهما كان وقعه، ودرجة صعوبته، وقدر شدته.

 

رابعًا: ليختبر صبر الابن، وعزيمته، علي الامتثال لأمر الله تعالى، وطاعته رغم حداثة عهده، وصغر عمره.

 

خامسًا :ليختبر صبر الابن، وعزيمته، علي الامتثال لأمر والده النبي.

 

- وإذا كان طرح السؤال السابق مهم، فطرح ذاك التساؤل أهم وهو :

 

بم أجاب الابن بعدما أخبره والده برؤيا ذبحه؟

 

قال : "قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)" الصافات.، وفي قول الابن دلالة علي :

 

١-يقين الابن بأنه أمر، وابتلاء من الله تعالى.

 

٢-ثقة الابن التامة، وتصديقه الكامل لأبيه النبي فيما يوحى إليه.

 

٣-تذكير الابن لأبيه بأنه أمر من الله، وليس لوالده دخل فيه لقمة الشفقة، ومنتهي الرحمة بالأب الذي ينفطر قلبه وجعًا من فراق أعز ما عليه، وأقرب ما لديه، وأغلي من عنده؛ فلا يحمل والده مالا يطيق، وما ليس له به دخل.

 

٤-وعد من الابن لأبيه بالصبر، وعدم التضجر عند تنفيذه أمر ذبحه بقوله "سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ".

 

٥-السين في قوله (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) تفيد التوكيد وقرب الوقوع، سَتَجِدُنِي وهي: للتنفيس، وقال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لأنه أمر مستقبلي، والإنسان لا يستطيع أن يجزم ماذا سيقع، لكن يؤكد أنه سيجده صابرًا، سأصبر واحتسب عند الله، وقرنه بالمشيئة لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله ، وأيضاً فإن عدم الاستثناء هنا يمكن أن يوحي بشيء من الادعاء والزعم، ولا يكون الإنسان على مستوى هذا الزعم،

 

٦-اسند الابن صبره الي الله، وعلقه بمشيئة الله تعالى، وهذا قمة اليقين بتعقل الأمور فما شاء الله كان، ومالم يشأ لم يكن، فقد يكون الأمر فوق طاقته، وأكبر من عزيمته فلا يستطيع معه صبرًا، لكنه بالله، ومع الله، وفي الله سيكون صابرا، ولا يعصي له أَمرًا.

 

-فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات: 103]، لما تشهدا وذكرا الله ماذا حدث؟ ولماذا ذكر الله هنا فَلَمَّا أَسْلَمَاإبراهيم يسمي على الذبح، والولد يتشهد لأنه قبل الموت لا بدّ من النطق بالشهادة، فَلَمَّا أَسْلَمَا ذكر الله إبراهيم ذكر على الذبح، وإسماعيل على وداع الدنيا.

 

وقيل: أَسْلَمَا، يعني: استسلما، وانقادا، وامتثلا للأمر رغبة، فيما عند الله، خوفًا من عقاب الله، ووطن الولد نفسه على أنه مذبوح، والأب احتسب الأجر في ذهاب فلذة كبده بيده، ولم يقل له: سأرسل ملكًا يذبحه، أو هو سيموت سآخذه يموت حتم أنفه، لا، أنت تذبحه بيدك.

 

وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعلي فَلَمَّا أَسْلَمَا، يعني: فوضا أمرهما إلى الله.

 

وأخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: أسلما هذا نفسه لله، وأسلم هذا ابنه لله. [جامع البيان: 21/76].

 

وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] قلبه، قلب إبراهيم إسماعيل على جبينه ليضجعه فيذبحه منكبًا على وجهه لئلا ينظر إليه وقت الذبح، فلعله يرى من ألم الولد وتغير وجهه عند الذبح ما يجعله يتراجع، أو يتلكأ، أو لا يكمل الذبح، فقلبه على وجهه ليكون هذا أهون على تنفيذ المقصود.

 

قال قتادة: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ: أي وكبه لفيه، يعني: قلبه على فمه، وأخذ الشفرة.

 

-والذي عرفنا من الآية أن الذبح لم يتم مع أن الشروع فيه حصل، لكن عطل الله خاصية القطع في السكين كما عطل خاصية الإحراق في النار، فلما لم تحرق إبراهيم النار ومن خواصها الإحراق عندما ألقي فيها كذلك لم تقطع سكينه مع أن من خواص السكين القطع، وقد اختار شفرة قوية حادة لسرعة إنجاز المهمة، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وكبه، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات: 104-105]، فالتفت فإذا هو كبش.

 

وقد يقال: إنه ما دام أنه لم تثبت صحة تعطل السكين عند القطع فيكفي في الامتثال أنه تهيأ، وأنه استعد، وقلب الولد على جبينه، وما عنده أي تردد في الذبح والتنفيذ.(الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد)

 

-حقيقة قصة غاية في الروعة، وقمة في الطاعة، وعظمة في الخضوع، والامتثال لأمر الله تعالى مهما كان صعوبة الأمر، ومشقة التكليف، وإنني حقًا لا أعلم أي الأفراد أقدمه مثالأ يحتذي، ونبراسًا لضرب المثل، ونموذجا للقدوة الحسنة آالأب في قبوله الأمر من الله بصدر رحب رغم كونه برؤيا منامية إلا أن رؤيا الأنبياء حق، وكون الذبح لأعز ما لديه، وبعد كبر سنه ؟ أم الابن حديث السن قريب العهد، الذي أطاع أمر الله دون تخاذل، وأطاع أمر والده، بل، وصدقه، وآمن بكل ما قاله له؟ أم الأم التي قبلت أمر الله بذبح من سيكون بجانبها عند سفر والده للشام وهي بمكة، وهي بعمر بالغ، وسن متقدم؟

 

ألا حَيَّا اللهُ الجميعَ والدًا، وابنًا، وأمًّا علي طاعتهم، وهزيمتهم للشيطانِ الرجيمِ الذي حاولَ جاهدًا معهم جميعًا لإثنائهم عن الذبحِ لكنهُ فشلَ، فَعَضَ علي يديْهِ بَنَانَ النَّدَمِ، وَأيْقَنَ أَنَّهُ قَد انْهَزَمَ .


ليست هناك تعليقات: