كنت ألعب مع العيال في
الشارع عندما نادتني خالتي سعدية، تركت البلي والدنيا وقفزت نحوها فرحًا:
= نعم يا خالتي.
انحنت وهي تضع يدها على كتفي فاحتوتني وغمرني صوتها
الحبيب:
= بسرعة.. هات لي "إزازة لمبة نمرة خمسة".
وضعت في يدي قرش تعريفة، فأطبقت عليه بأصابعي وطرت. لمحت
نظرة الحسد في عيون أصحابي وأنا أجري في اتجاه عم خليل البقال، يعرفون أنني لن
أمشي من أمامه إلا بعد أن يعطيني حاجة حلوة، لأعود ولساني يلعب في فمي. خالتي
سعدية ليست أختًا لأمي، وإنما قريبة لها من بعيد، مات أبوها في الكوليرا، فتزوجت أمها
وتركتها أمانة عند أمي. خالتي سعدية تساعد أمي في عمل البيت، وأمي تشكو مني لطوب
الأرض، وعندما أدركت ولعي بخالتي سعدية ساقتها عليَّ لأحضر لها الحاجات من البقال،
أو ترسل معي شيئًا لخالتي وجيدة، أو تكلفني بإحضار بعض المخلل من عند جارتنا أم
موسى. أفضل الذهاب لعم خليل البقال لكي أُحلِّي فمي، وأنا عائد تذكرت نصيحة خالتي
سعدية:
= لا تلعب مع العيال بزجاجة اللمبة فتكسرها.
عدت وأنا أمشي بالراحة، وعيني وسط رأسي، أمسك الزجاجة
بكلتا يدي. ذات مرة انكسرت مني. عدت إلى أمي منكسا رأسي أتلعثم. قلت لأمي فلم
تضربني، لكنها انهدت في مكانها على الآرض، ووضعت رأسها بين يديها وأخذت تبكي في
صمت. انكمشت وجلست إلى جوارها أبكي، تمنيت لو تضربني، انتبهت لدموعي فأخذتني في
حضنها وهي تشكو من قلة الفلوس، فأقسمت بحياة الملك أنها آخر مرة، وانفلتُّ من
حضنها أجري لا أعرف إلى أين. في وسط الشارع خبطت في عمي رزق الله، نظر في وجهي
وسألني، لم يدعني أكمل، أخذني من يدي ووقف على عتبة بيتهم الذي يواجه بابنا ونادى
على امرأته فأقبلت مسرعة وهي تجفف يدها المبلولة من شغل البيت:
= نعم يا أخويا.
أمرها عمي رزق الله أن تحضر "إزازة" لمبة نمرة
خمسة لأم حسين، لم أفهم إلا عندما أحضرت الزجاجة، هممت متمنعًا فطبطب عليَّ وهو
يقول:
= عيب يا حسين، أبوك كانت أفضاله علينا، الله يرحمه.
عدت لأمي والزجاجة في يدي، وتحت عيني، رأيت ابتسامة
واسعة تضيء وجهها، فهمت أنها أدركت ما حدث، لأنها قالت:
= ربنا يخليه عمك رزق الله، ناس أُمرا.
ابتسامة أمي المضيئة جعلت قلبي يرفرف من الفرح، لكني
تذكرت كلام عمي رزق الله وهو يتحدث عن أبي، وتعجبت، لماذا يقرنون اسم أبي دائما
بهذه العبارة "الله يرحمه"، لقد ضقتُ بهذه الكلمة، لا أريد من الله أن
يرحمه، أريد فقط أن يجعلني أراه، يلبسني الجلباب الأبيض ويعدل طوقه على رقبتي،
ويضع قدمي في الحذاء الكاوتش، ويأخذني في يده ليشتري لي ملبس وكراملة، ونزور عمتي
فألعب مع عيالها، ونراقب الكبار وهم يتحدثون بوقار. يومها قررت أن أسأل خالتي
سعدية عن الرحمة التي يتحدثون عنها. خفت أن أحدث أمي التي تبكي كلما جاءت سيرة
أبي، لكني خرجت ألعب مع العيال فنسيت.
عدت بزجاجة
اللمبة إلى البيت. أمي كانت تجلس في وهن على السجادة تختم الصلاة في خفوت، شحوب
وجهها جعلني أقترب منها وأنا أرتعد، حتى أنني خفت أن تقع الزجاجة مني. أريتها
الزجاجة في حرص، فملأت وجهها ابتسامة جعلتني أتمنى لو ترسلني مائة مرة لأقضي لها
أي حاجة. بدت ابتسامتها الحلوة كأنها اعتذار عن عدم قدرتها على الكلام، سألتني أن
أرسل لها خالتي سعدية، فبحثت عنها حتى وجدتها في غرفة الفرن، همت بالذهاب إلى أمي
فسألتها إن كانت تريد شيئًا آخر، أخذتني في حضنها وهي تضمني في صمت، لاحظت أنني
لبدت في حضنها فقالت:
= تريد أن تذهب إلى البقال ثاني؟
لم أرد، قامت وهي تسحبني من يدي إلى حجرة النوم، فتحت
الدولاب العالي الذي تزينه المرآة الطويلة، مدت يدها تحت طيات الهدوم، ثم دست في
يدي قرش تعريقة آخر، قالت وهي تربت كتفي وصوتها معجون بحزن غامر:
= اذهب واشتر ملحًا.
لم أصدق نفسي، درت بجسدي منتشيًا، وجريت في اتجاه
البقال. أمام باب المحل كان يقف رجال كبار، دسست نفسي بينهم أتزاحم لأصل لعم خليل،
أفسحوا لي المكان وهم يبتسمون، لمحني عم خليل فمد يده وأخذ القرش وأعطاني قرطاسًا
كبيرًا من الملح، ثم أعطاني قرصًا من النعناع. على ناصية الشارع مددت رأسي ناحية
الميدان الواسع فأبصرت لمَّة، دائرة من الناس يلتفون حول رجل يصيح، خمنت أنه
الحاوي، نسيت أمي وخالتي سعدية والملح والشارع والبيت، وقفت أراقب الحاوي متشبثًا
بقرطاس الملح، صاح الحاوي:
= سقفة للنبي.
دوي المكان بالتصفيق مرة ومرة حتى انتشي الحاوي فصرخ:
= النذل يمشي من هنا، والرجل بحق يحط يده في جيبه ويخرج
المقسوم، وينصر المظلوم ويكرم الغلبان و.....
كنت طول "كده" رأسي في محاذاة جيوب الرجال،
جاءت سيرة الفلوس فامتدت الأيدي لتشير إلى مكامنها. سكت الحاوي لحظة ثم عاود
الكرة. هذه المرة امتدت الأيدي فأخرجت الملاليم المخرومة وقروش التعريفة الحمراء
المشرشرة تزينها صورة الملك المكتملة. في مواجهتي على الجانب الآخر من الدائرة
تعلقت عيناي بعينين تدوران في لهفة، وتبرقان بشكل أخافني، عينان تتوسطان وجهًا
دقيق الملامح لرجل أسمر، انزلقت نظراتي إلي أسفل، كان يرتدي جلبابًا متسخًا بلا
لون، قدماه حافيتان، فجأة اندلعت صرخة ملتاعة:
= آآآآآآآآه.. "محفظتي" يا أولاد الكلب.
اتجهت العيون المندهشة نحو مصدر الصرخة.. في لحظة كان
صاحب الحافظة يقبض على زمارة حلق الرجل الأسمر الحافي ذي الجلباب المتسخ. كانت
عيناه الملتمعتان في مواجهتي تمامًا، امتزجت اللمعة فيهما بالتحدي، توهمت أنه يشير
إليّ، ركبني الخوف فطرت نحو البيت.
اقتربت من
البيت فشعرت بالأمان، وهدأت أنفاسي، ولاحظت أن يدي عرقت على قرطاس الملح، فانبعج،
وبدأت حبات الملح تتسرب منه ببطء فأسرعت إلى البيت مستعذبًا ما تبقى من لسعة ذوبان
قرص النعناع في فمي. أمام باب الدار وجدت نساء كثيرات يفرشن القش في المدخل ويجلسن
عليه. أدهشني زحامهن. جريت كالمجنون أبحث عن خالتي سعدية فوجدتها تجلس بجوار الفرن
وجسدها يهتز وهي تنهنه، ناديتها فلم تسمعني، أخذت أهزها فرفعت وجهها ونظرت نحوي في
حنان بعيون حمراء منتفخة. بدت كأنها لا تقوي على النظر في وجهي. انتبهت النسوة لي
فبدأن في العويل. بكيت لبكائهن، جلستُ على الأرض واضعًا وجهي في الحائط، وواصلت
العياط. انتبهتُ على صوت عمتي وجيدة وهي تأخذني في حضنها وتحاول أن تملك نفسها.
بعد لحظة صمت وجهاد قالت:
= عيني عليك يا ابني.. لا أب ولا أم.
في هذه اللحظة بالذات تذكرت قرطاس الملح الذي كنت أمسكه بكلتا يدي، فانفلتُّ من حضن عمتي وجيدة، وطوحت به في اتجاه النسوة اللائي كن يصرخن في وجهي، بينما طعم النعناع مازال يلسع لساني
أقرأ
هناك تعليقان (2):
هكذا كانت خياتنا بين اليأس والرجاء والامل والضياع مع اصحاب الفطر السليمة.. احسنت
برجاء التعليق بالأسم أو عنوان صفحتك الشخصيه على الفيس
ودمتم بخير
إرسال تعليق