يا سيادة القاضى. كل ما أطلبه أن تعطيني الوقت الكافى لأعترف براحتي.
قبل سبعة عشر عاما صدر قرار
رئيس الشركة الوطنية للطرق والكبارى والعوائق المرورية بإنشاء الإدارة العامة
لتنفيذ المطبات الصناعية وصيانتها ومراقبتها. واختارني مديرًا عامًا للإدارة..
وكنت وقتها مديرا لمكتبه. صعُبت علىّ نفسى: أنت غاضب مني يا ريس؟ فاستوى على كرسيه
العالى الدوَّار.. وتأرجح قليلا إلى اليمين ثم إلى اليسار وغمز بعينه غمزة
أشاعت الراحة في أعطافي وقال في ود: ستأكل الشهد يا ولد. فانشكحتُ وسرت النعنشة في
لحم أكتافي التى من خيره. ثم غمز الثانية فأضاءت أنوار المجد أمام عيني.. وفركت
اليمنى باليسرى فى حبور واستعنت، بفهمى وحكمته، على الشقا بالله. أسرعت ألملم بعض
الخواص الذين شرفوا بالعمل معه وشربوا من قُلَّة علمه الباردة.. ثم لضمتهم معًا
بخيط رقيق من الحرير المتين فأصبحنا عقدًا ثمينًا من المخلصين.. ودعوته ليشهد
الاجتماع الأول لرجال الإدارة برئاستي. حضر فتنحيت عن مقعدي العالى ليجلس عليه
ويفتتح اللقاء. قال: العمل الأهلي فى صناعة المطبات جاوز الحدود المسموح بها
دوليا.. والطرق السريعة أصبحت بطيئة من كثرة المطبات.. والناس تجرأوا على الدولة.
وأصبح كل من هب ودب يقيم مطبًا أمام بيته أو محله. فذا يقيم مطبًا لتهدئة السيارات
المسرعة محافظة على أرواح الأطفال والمارة. وهذا ليلفت انتباه السائقين إلى ورشة
إصلاح الكاوتش. وذاك لينصب منصة صغيرة يتربع فوقها صندوق صغير محندق تشبه صناديق نذور أولياء الله الصالحين.. وينصب
بجانبه فقير يكبس على رأسه طاقية من ورع.. وعلى وجهه قناع البر والتقوى.. ويتمتع
بصوت ناعم رقراق.. يدعو المارة وأصحاب السيارات وسائقي عربات الأجرة للتبرع لبناء
المسجد.. وهو فى الحقيقة يخطط ليبني منزلا على أطراف البلدة القريبة من الطريق.
هاجم الرجل الناس الجهلة الذين يشتغلون بما لا يعرفون. (المشكلة ليست في المطبات التى
يتم تصنيعها ليلا فقط وتفاجيء السيارات نهارًا.. وإنما فى أنها مطبات حادة مصنوعة
من الحجارة وقطع الزلط المدببة ومرتفعة جدًا.) توقف عن الكلام فجأة ثم أصدر
قرارًا: (يجب إنشاء قسم لتصميم المطبات.. يضم أفضل مهندسي الطرق بالهيئة. وقسمًا
للدراسات الميدانية لعمل حصر دقيق للمطبات، وقسمًا لبحوث تطوير المطبات. وقسمًا
قانونيا لاقتراح التشريعات الضرورية لنسف البيروقراطية التى تعطل المراكب
السايرة.)
*
فاتني يا سيادة القاضي أن أقول
إننا بدأنا العمل بمعركة صغيرة قادها مدير عام الرصف والصيانة. وادعى تضارب الاختصاصات بين إدارته وإدارتنا. لكن رئيس
الشركة حسم الخلاف قبل أن يستفحل. واسترضى مدير عام الرصف، المقرب من الوزير،
بحافز شهري إضافي تحت مسمى (جهود التدريب التشعبي).. فرضخ الرجل ووعد بتقديم العون
الكامل لي.
*
المعركة الكبرى بدأت في الوزارة وانتهت بالبرلمان. فأنجزنا تشريعًا يجرم
إنشاء المطبات بعيدًا عن إدارتنا الجديدة. اشترك في المناقشات الفنيون والقانونيون
وخبراء علم النفس الاجتماعي والمروري. واجهنا صعوبات لتوفير الاعتمادات المالية
لمصاريف وبدلات الانتقال لمعاينة الطرق، ومكافآت لخبراء البحوث الميدانية. ولكي
ينتزع من الوزير قرارًا بزيادة الاعتمادات، عينَّ الرجل الكبير تسعة وعشرين شابًا
حديثي التخرج رغم أن التعيينات موقوفة. لكن ضغوط أعضاء مجلس الشعب وتمرير مكتب
الوزير لبعض الأسماء وتدخل جهات أخرى نافذة حسم الأمر. بعض العاملين المشاغبين
أسموا ما حدث ب (صفقة الفرن).. يقصدون فرن التسوية العالي بحرارته التي تذيب
الحجر.
*
جمعت (عقد المخلصين الملضوم
بعناية).. وتم ضخ أول ميزانية.. لم تتجاوز نصف مليون جنيه. حرصت على صرفها
بالكامل.. وقام كبير المحاسبين بتستيف المستندات في أدق صورة. رئيس الشركة وقف
بجانبنا وقاتل في الوزارة لتزيد مخصصات الإدارة حتى بلغت في السنة الأخيرة مائة
وتسعين مليونًا.
قلت فى التحقيقات إن الأزمة
حدثت بسبب خلافات رئيس الشركة مع كبار المسئولين بالوزارة. سمعنا أنه أخطأ فى حق
الوزير الذى نقله إلى الديوان العام كوكيل أول للوزارة.. بدون عمل حقيقي.
*
لا أفهم لماذا بدأوا التنقيب
وراء الرجل. كيف يقول الخبراء إن الإدارة صرفت نصف مليار جنيه منذ إنشائها ولم
تحقق سيولة المرور ولم تمنع الكوارث اليومية على الطرق؟ قلت لهم: الفلوس تم
إنفاقها وفقا لمستندات سليمة روجعت بمعرفة الجهاز المركزي للمحاسبات الذى يسمع دبة
النملة ورنة القرش.. ويمنح الهيئات والمؤسسات مصادقة سنوية على سلامة إنفاقها.
النصف مليار مبلغ تافه. هو مجرد تجميع لأرقام ميزانيات سبعة عشر عامًا. صرفت
بمستندات صحيحة تمت مراجعتها عشرات المرات. إنه مبلغ صغير صرف على أعمال لجان
وأجور خبراء من كليات الهندسة وإدارات المرور التى تدس أنفها في كل ما يتماس مع
كلمتي المرور والطرق. أعترف أن بعض هذه المبالغ صرفت لمسئولين كبار بالوزارة
والشركات الشقيقة لضمان تسليك السكك المغلقة والواصلة لمكتب الوزير. دعم الوزير
لنا كان ضروريًا.. لأنه يستطيع قطع المياة والنور عنا بجرة قلم. رئيس الشركة
أوصاني أن أتذكر كل المتعاملين معنا في الأعياد والمواسم والمناسبات الشخصية.
ولذلك خصصت أجندة لتسجيل المناسبات بدقة حتى لا تفلت مني تفصيلة أندم على نسيانها.
*
الذين ينسبون لنا الفشل.. هم الفاشلون.. لا
يسعدهم نجاح أى شخص غيرهم. رئيس الشركة الذى أدعو الله أن يفك حبسه..رقاني رئيسًا
للقطاع. تحولنا إلى قطاع.. يدير إداراتٍ وأقسامًا موزعة على المحافظات. وبدأ
المسئولون في المحافظات يطلبون تعزيز إداراتهم بالكفاءات.. فاكتظت الإدارات
بالموظفين والخبراء والسعاة.. واستطعنا تدبير معدات وسيارات خاصة بنا.. وتمت السيطرة
على الطرق السريعة، لكن سلوك الأهالي في الطرق الفرعية أفسد خطط التطوير
والمراقبة.. وكان تقاعس إدارات الرصف بالشركة سببًا فى تعطيلنا.. لأننا لا نستطيع
العمل إلا بعد رصف الطريق.. وهو ما استغله خصومنا الحاقدون للادعاء علينا بالفشل.
*
لم أفهم الضجة التى أثارتها صحف المعارضة
ضدنا مؤخرًا. كنا نجري دراسات بواسطة
علماء من كليات الهندسة وخبراء مروريين.. لإنشاء مطبات حديدية مؤقتة.. يتم تركيبها
على الطرق نهارًا وإزالتها ليلًا.. لنضمن سرعة المرور في الليل.. ونؤمن السلامة
للعابرين نهارًا. وكنا بصدد دعوة الوزير ليشهد التجربة الجديدة لإقرارها ورصد
الميزانية اللازمة لتنفيذها.. لكن منهم لله.. أساتذة تثبيط الهمم وتعطيل كل ما هو
متحرك. علمت أن الرجل الذى أبلغ صحف المعارضة.. هو نفسه مدير عام الرصف الذى سبق
وأن استرضاه رئيس الشركة بالحافز العجيب الذى تم نحته خصيصًا له (جهود التدريب
التشعبي). صحف المعارضة نجحت في إثارة الرأى العام ضدنا.. بعد أن نشرت عددًا من
التحقيقات المدعومة برسوم كاريكاتورية مضحكة تسخر من مشروعنا الذى أثق أنه كان
كفيلًا بتقليل الحوادث في الطرق.
*
حدَّ الله.. كله إلا النسوان.. سألوني في
التحقيقات عن المهندس الذى أحلته للمحاكمة فحكمت المحكمة بفصله من الخدمة. سألني
المحقق: هل خططت لكي تتزوج امرأته؟ قلت له بهدوء: لقد جاءتني منهارة تستعلم عن
أسباب فصل زوجها.. فهدأتها وأثبت لها بالوثائق أنه لم يكن أمينًا على الأموال
العامة.. ولما سألني المحقق: كيف تزوجتها؟ قلت له إنها طلبت الطلاق من زوجها
المفصول.. وتقدمت طالبا الزواج منها بعد حوالي سنتين من واقعة الفصل.. أولاد
الحرام ادَّعوا أنني خططت لفصل الرجل لأتزوج امرأته.. هذا افتراء وأنا بريء منه.
الدليل على ذلك أنها على علاقة جيدة بزوجتي الأولى التي استأذنتها في الزواج
الثاني فوافقت.. وعدالة المحكمة استمعت إلى شهادتها التي أكدت ذلك.
*
والله يا سيادة المستشار أنا مدهوش من مرافعة
النيابة في القضية. البك رئيس النيابة استشهد بقصة تكررت في التاريخ بأشكال
مختلفة. تحكي عن أمير كاد يهلك من العطش في إحدى سفراته.. فأمر بإقامة محطة لسقي
المارة وعيَّن عاملًا ليسقي الناس وزود المكان بزير وكوز.. وكلف العامل أن يملأ
الزير يوميا ويحافظ عليه. بمرور الأيام قاموا بتعيين عامل ثان لمعاونة الأول.
وكبرت المحطة وزاد عدد العمال وتحولت إلى إدارة كبيرة لها مدير ومشرفون وعمال سقي
وصيانة وسجلات. وبعد عشر سنوات مر موكب الأمير على المحطة وأراد أن يشرب فلم يجد
مديرًا ولا خفيرًا ولا عاملًا ولا دفاتر.. ونظر فإذا الزير مكسور والكوز مخروم.
أنا مالي ومال الزير المكسور. أنا كنت أدير قطاع كبير في شركة ضخمة تتبع وزارة
محترمة لها تاريخ. وأعمل في ظل قوانين ولوائح تنظم كل شيء. كل ما بذلناه من جهد
مسجل ومؤرشف بالمستندات الرسمية والمراجعات المالية القاطعة. وضعنا الخطط والبرامج
وقمنا بتدبير العمالة والاعتمادات المالية لتنفيذها.. وعملنا دراسات عن الطرق
والسلوك البشري استفادت منها الوزارات الأخرى. ما يحز فى نفسي أنني أتعرض لهذه
الاتهامات قبل شهور من إحالتي إلى المعاش.
*
يا سيادة القاضي.. قلت كل شيء..
وضميري مستريح.. وأنا واثق في عدالة المحكمة وفي قضائنا الشامخ. لا يبقى إلا
تفصيلة صغيرة.. أقصد كشوف المرتبات الوهمية. أنا لا أعرف عنها شيئا. لم أرها ولم
تمر أمام عيني.. ولم يتحدث عنها أحد أمامي.. هى لعبة كبيرة دخلت فيها أطراف كثيرة
ومتعددة. أنا يا سيادة القاضي طول عمري
شبعان.. أحصل على مرتبي وحوافز تزيد عن مرتبي ثلاث مرات.. وجهد غير عادي يوازى ضعف
مرتبي.. بخلاف بدلات الانتقال وحضور اللجان والمصروفات النثرية المسموح بها.. فما
الذى يدعوني لتزوير كشوف مرتبات بأسماء لموظفين لا وجود لهم.. هذه جريمة شنعاء
تستحق الشنق.. وأنا لم أرتكبها.
*
لا توجد علاقات عمل بدون مشاكل.
الموظف يرى أنه أحق بالمزايا.. ولا ينسب لنفسه أي تقصير. الخلافات في العمل شيء
طبيعى.. والشكاوى الكيدية هي أسهل طريقة.. وآفة الموظف عندنا.. ادعاء المظلومية..
ولو تركت الإدارة نفسها لهذا النوع من الشكاوى لتعطلت ساقية العمل وامتنع الماء
وبارت الأرض.
*
شهادة الزور يا سيادة القاضي هى
أكثر ما يؤلمني.. وخاصة عندما يتلفظ بها أقرب المعاونين لي.. لمجرد تسوية خلاقات
تافهة قديمة. شاهدو الزور حلفوا اليمين. ومصيري معلق بحلفهم. وأحب أن أقول إنني
عملت في بيئة يتربى الثعابين في زواياها. كل قراراتي واضحة. لم أخالف تفصيلة واحدة
من تفصيلات النظام العام أو القوانين أو اللوائح. أدرت العمل بحكمة وبقسوة
أحيانًا.. لكنى لم أرتش ولم يدخل بيتي مليم حرام.
*
أرجوك يا سيادة المستشار.. اسمعني للآخر. سأقدم لعدالتكم العرض الذى يقفل
القضية بالضبة والمفتاح. ابني الأكبر يعمل في تجارة الأراضي.. قابلني في محبسي قبل
يومين.. وأبلغني أنه مستعد للتنازل عن نصف أمواله في البنوك.. وقدم لي شهادات من
البنوك بأرصدته التي تبلغ أربعمائة مليون جنيه. كما قدم إقرارًا بهذا الخصوص. ابني
البكري قال والدموع تملأ عينيه إنه لا يتخيل أن أسجن بسبب وشاية من حاقد أو شاهد
زور لتدمير سمعتي.
*
حاشية قد تبدو ضرورية
ما زال الرجل بمحبسه ينتظر الحكم في القضية.
وفي لفتة إنسانية رائعة.. سمحت مصلحة السجون لزوجتيه وأولاده بالاحتفال بعيد
ميلاده الثامن والستين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق