بعيداً عن قضية أول من كتب الشعر في العصر الجاهلي، والتي استغرقت الكثير من الجدل بين النقاد والباحثين، يجب أن نعترف بأن البنية التي نشأت عليها القصيدة العربية، بنية مبهرة، وربما يرجع لها الفضل في خلود القصيدة أكثر من (14) قرناً.
فقد منحها البناء العمودي الهندسي المتقن، المكون من شطرين، جمالية الشكل والتنظيم، كما منحها وحدة تفعيلات الإيقاع الموسيقي المدوزن، الذي يتسلل إليك، تشعر به ولا تراه، وأضافت لها القافية الجهورة، التي لا تخطئها الأذن، الجرس المنغّم المتتالي، من بيت إلى آخر، والذي يطرب الأسماع، كأنك أمام أوركسترا سيمفونية.
أما البيان، والذي يتجسد في الصورة الفنية، فهو ساحة الإبداع الحقيقي، فقد رفعت الصورة الشعرية الكلام من الحوار العادي المباشر المرتجل، إلى مستوى أعلى من التعبير، يعتمد على الشاعرية والانتقائية والتنظيم وحسن الاختيار، وتؤدي هذه العملية إلى قوة المعنى، وجمال الألفاظ، والوصف الفني الدقيق.
ولكل جزئية هنا وظيفة، وغرض وتأثير في المتلقي، وقد تكاملت هذه العناصر لتحدث هذا التأثير الواضح لدى المستمع، والذي يدفع البعض عندما يستمع لبيت معين، أن يطرب له.
والجميل أن هذا البناء، برغم دقّته، جاء عفوياً، فليس هناك من جلس وقال (نريد أن نخترع القصيدة)، فالمنطق يقول إن الشعر بدأ في عصور سحيقة بأشكال بسيطة، وتعبيرات شاعرية، ثم مسجوعة، تطورت بالتدريج، لتنتهي بهذا البناء الشعري الموسيقي المقفى المدهش. المهم أن كل جزئية من الشعر، تكاملت وتعاونت، وتضافر البناء الشكلي مع البناء الفني، لتظهر لنا القصيدة العربية بهيبتها، وقوتها وتأثيرها النفسي والاجتماعي العجيب.
والشاعر الحقيقي، كالعالِم في المختبر، يعرف جيداً كيمياء القصيدة، وهي عناصر وجزيئات صغيرة، تتجمع بمقادير معينة لتعطي التفاعل المطلوب، وبالتالي يدرك كيفية الجمع بين هذه العناصر الفنية، بمقادير متوازنة ومتسقة في بوتقة الإبداع، ليخرج في النهاية بقصيدة جميلة ومؤثرة.
أي خلل في المعايير يضعف القصيدة، فمثلاً بعض الشعراء يهتمون بالنظم أكثر، فتتحول القصيدة إلى ما يشبه النشيد الحماسي، الخالي من الإبداع، وأحياناً يهتم الشاعر باللغة أكثر، فتتحول القصيدة إلى كمٍّ من التعبيرات اللفظية الجامدة، التي تشتت الانتباه، والبعض يهتم بالمحسنات البديعية أكثر، فتتحول القصيدة إلى زخارف براقة مبهرة، تُفقد القصيدة أهم ما تملكه.. العفوية والمصداقية والإبداع الفني.
المتابع لتاريخ الشعر العربي، سيرى أن هناك عصوراً شهد فيها الشعر خاصة، والأدب عامة، ازدهاراً واضحاً، مثل العصر العباسي الأول، الذي شهد التجديد في الأوزان والأغراض الشعرية، وظهرت أنواع جديدة من الشعر، كالشعر الفلسفي، وكان أبوالعلاء المعري أحد رواده.
كما شهد الشعر ما يسمى بعصر الانحطاط، ويؤرخ الباحثون لذلك من بعد سقوط بغداد (656هـ/ 1258م)، واستمر إلى سنة (1919م)، وفي هذا العصر، عانى الشعر ضعفاً فنياً وتكلفاً، وغلبت عليه الصنعة. وهكذا ظهر في الشعر فريقان، الأول شعراء الطبع، وفي المقابل شعراء الصنعة، ومن شعراء العصر العباسي الذين عرفوا بالطبع، الشاعر البحتري، ومن الشعراء الذين وصفوا بالصنعة، الشاعر أبوتمام. وفاضَل أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، بين البحتري وأبي تمام، في كتابه (الموازنة بين أبي تمام والبحتري)، ورأى أن الأول شاعر مطبوع، والثاني شاعر صنعة، يقول: (البحتري أعرابي الشعر، مطبوع وعلى مذهب الأوائل، وأبوتمام شديد التكلف، صاحب صنعة). كما أن مسلم بن الوليد، اهتم بالمحسنات البديعية، وبالغ في الألفاظ والمعاني، فاتّهم بأنه أول من أفسد الشعر.
يجب أن يعي الشاعر مقومات الشعر الحقيقية، ويعرف جيداً كيمياء القصيدة، والفرق بين الصنعة والطبع، والتكلف والعفوية، والنظم والإبداع، بذلك ينجح الشاعر، ويقدم لنا قصيدة جميلة الشكل، قوية المضمون، قصيدة عربية مؤثرة.
أقرأ أيضاً
قصائد ومقالات أ/ الأمير كمال فرج
هناك تعليق واحد:
مقال جيد ومانع عرضت فيه القصيدة بشكلها الأصيل المتدفق بالمعانى الراقية .وودت لو عرجت علي ما يكتب الآن من كلمات أسموها قصائد لتبين الفرق بينها وبين ما أسرت إليه؛
تحياتى
إرسال تعليق