ضفافنا ملتقى لمبدعى ومثقفى وعلماء ونجوم كفرالزيات, ولا يدخلها إلا المثقفين

السبت، ديسمبر 24، 2022

صورة مريم .. قصه قصيره للروائى الكبيرالأستاذ/على الفقى المحامى ابن كفر الزيات

 الأديب أ/ على الفقى ابن كفر الزيات

فلتت (مريم ) من يدي وجرت ، ينسدل شعرها الكستنائى الناعم خلف ظهرها ، حتى وقفت فوق حجر كبير على حافة النهر ، مالت برأسها للأمام تنظر في صفحة الماء . كاد قلبي أن ينخلع من مكانه، جريت وراءها، أمسكت ذراعها برفق. قالت في وداعة – انظر صورتي. وجه مريم على صفحة النهر ، وأسراب الطيور تمر حوله في تناغم ، كأنه كعبة وهذه الطيور تطوف حوله ، احتضنتها ، حملتها فوق كتفي ، عدت بها خطوات إلى الحشائش ، أنزلتها . اللعب هنا أفضل . راحت عيناي تتفحصان طول الكورنيش ، تقلبان في طول السنوات التي هرولت من العمر ، شهورا مضت نتقابل كل خميس ، في الصباح أذهب للمقابر ، ازور الأهل والأقارب ، اقرأ الفاتحة والدعاء لأرواحهم ، ثم أقف طويلا أمام (طارق )، أطمئنه على مريم ، ونجتر الخوالي من السنين ، لا نمل من الحكايات واسترجاعها ، ابتسم أحيانا ، ولا مانع من الضحك عند تذكر نادرة من نوادرنا التي لا تنتهي ، من أيام الطفولة والصبا ، ثم الشباب ، حتى عن زوجاتنا وما يحدث في المساء . وفى الخامسة تكون مريم بملابسها الأنيقة الرقيقة وشعرها الممشط على جبينها في انتظاري، يا ويلي إن تأخرت عليها ، لا تبرح الشرفة حتى أظهر من أول الشارع ، تأخذ السلالم قفزا تعدو من أول باب البيت حتى ترتمي في حضني ، خصصت هذا اليوم لها ، لا عمل ، ليؤجل كل شئ من أجلها ، أثنى ركبتي لأنها تصمم أن تتأبط ذراعي ، ابتسامة أمها تشرق من الشرفة . قالت ( سعاد ) قبل أن أصفق الباب ورائي – إياك ترجع البيت مرة أخرى. ظلت مريم تروح وتجئ ، تجرى وتلعب ، ثم ترتمي في حضني ، وجهها القمحي المستدير يذكرني دائما بوجه أبيها ، إلا أن وجه مريم أصبح مثل التفاحة ، تفاحة سقطت فجأة من شجرتها وهى في أول النضج بين يدي، تفاحة مثل التي اختلفنا عليها أنا وطارق أيام صبانا ، عندما كنا نعمل في مزرعة نجمع التفاح في صناديق ، ويأتي من ورائنا أنفارا آخرين يحملون الصناديق إلى العشة ، ثم أنفارا آخرون يحملونها فوق عربات النقل للتجار ، وكان الحاج صاحب المزرعة يختصنا بالاحترام والاهتمام ، لأننا نعمل وندرس في وقت واحد ، وكل يوم عندما تبدأ الشمس في التواري ، يسمح لنا الحاج بكيس تفاح ، نقسمه بالتساوي ، إذا زاد التفاح بعد القسمة يسمح أحدنا للأخر بأخذها ، على أن تكون تفاحة الغد الزائدة من نصيب الآخر ، وهكذا إلى أخر يوم عمل ، بقيت تفاحة ، رفضت أخذها لنفسي ، وصمم طارق على عدم تناولها ، اتفقنا أن نقيم حفل انتهاء العمل بأن نعزم أصدقاؤنا ، الذين يعملون في أماكن أخرى ، وضعنا التفاحة في منتصف الطاولة بين زجاجات العصائر ، نقطعها بالسكين شرائح ، حتى تكفى الجميع ، وسط ضحكاتنا وأعيننا التي تشرق وتلمع بمستقبل مجهول . لمحت بائع الحلوى ، أخرجت المحفظة ، خطفت مريم النقود وجرت على البائع تملأ وجهها ابتسامتها المفعمة بالروح والحياة . أطلت ابتسامة طارق من المحفظة، تعلقت عيني بعينيه الواسعتين. عادت سعيدة بكيس الحلوى ، ارتمت في حضني دون أن أفطن أن صورة طارق مازالت في يدي، ارتعشت عيناي في عينيه ، وألقت مريم عينيها في الصورة . ربتت يداي شعرها وضممت رأسها لصدري. راحت عيني تواجه المساحة المظلمة في الأفق والتي اختفت الشمس وراءها.. عجيب أمر هذا الموت ، يخطف من بيننا الأعز والأغلى من بين المحتاجين إليهم في وسط العمر ، بينما يتأخر كثيرا عن أمي التي مكثت أستدعيه من أجلها مدة أطول من أن نتحملها ، ليرحم مرضها ويرحمني من معايرات سعاد المستمرة لي ولها .. وفى النهاية لا يأتي برغبتنا أبدا .. عجيب أمر هذا الموت. طرقعت أصابعي في خدها التفاحى فاتسعت ابتسامتها ، وباتت يدها الرقيقة بين أصابعي ، وضعت المحفظة في جيبي ، وسرنا . لابد من تقديم أوراق مريم للمدرسة ، وسعاد كل أسبوع يتغير وجهها وتردد مقولتها المحفوظة مريم أصبحت سورة .. كل أسبوع مقررة عليك ثم تردد باستهانة لا تخلو من شماتة . الحمد لله أن أمك ماتت، لو تريد الزواج تزوج. كلام من وراء القلب ، وقلبي لا يريد أن يرميها بحجر عندما اخرج ، وهى ترفض الخروج ، تفضل الجلوس في البيت ، كارهة للبلد الذي ليس به أماكن جديرة بنزهتها . تكفى عليك مريم ونزهتها . هل هي الغيرة التي تقتحم نفوس النساء ؟ لم يقتنع عقلي بأن هذه الطفلة اليتيمة تكون سببا لغيرتها، إلا أنى انتفضت واقفا غير مصدق تعقيبها عما يفور به قلبها. - غدا تقوم بنزهة أمها أيضا.. لم أشعر إلا ويدي ترتفع وصرخة تنطلق ، تلتهب جدران الشقة الباردة التي تحوينا ، صفقت الباب وتركت كل شئ خلفي .. متجاهلا تهديدها. رفضت ( أم مريم )دهان جدران شقتها ، بعد رحيل طارق ، مكتفية بترديد عبارات الشكر لأصدقائه . ولابد أن نؤكد – نحن أصدقاء المرحوم – في كل مرة نعطيها مساعدة أو نهدى مريم هدية ، أن هذا دين علينا ، مهما فعلنا لن نرده ، تودعنا بإشارة ممتنة برأسها ، تمسك ييسراها مر يم المبتسمة على لقاء قريب ، وفى يمينها معاش التأمينات البسيط . حاولت أن أساعد مريم على ربط الضفيرتين من أجل الصورة . لاحظ المصوراتى ارتباكي واستهلاكي وقتا أكثر من اللازم ، نادى على العاملة ، أشرت عليها بذيل الحصان وقصة الشعر من الأمام .. فعلت . وقفنا على الكورنيش نأكل الآيس كريم ، ننتظر خاصية التصوير الفوري ، أحكى لها عن المدرسة وتحكى لي عن أمنياتها البريئة . أحاول أن أمسك عيني لأبدو أمامها قويا متماسكا ، أتعجل عقارب الساعة حتى أتسلم الصور واضع صورة لمريم بجوار صورة أبيها ، ونسلم وجهينا للمدى وأحضن كفها الصغير بين أصابع يدي ونعود معا .

ليست هناك تعليقات: