ضفافنا ملتقى لمبدعى ومثقفى وعلماء ونجوم كفرالزيات, ولا يدخلها إلا المثقفين

الأحد، سبتمبر 11، 2022

أَيَا البَاحِثُ عَنِ الحَقِيقَةِ قَدْ حَظَوْتَ"سَلمَانُ مِنّا أَهْلَ البَيْتِ" ( الجُزْءُ الثَّالِثُ، وَالأَخِيرُ ) سَلْمَانُ مِنْ رُفَقَاءِ النَّبِيِّ- ﷺ- النُجَبَاءِ الأتْقِيَاءِ - بِقَلَمِ / حُسَامُ الدِّينِ أَبُو صَالِحَةٍ . ابن شبشير الحصة. طنطا

 

الشاعر الأديب / حسام أبو صالحة
ليسانس آداب وتربية - كلية التربية - قسم دراسات إسلامية- جامعة الأزهر رئيس قسم الدراسات العليا والعلاقات الثقافية بكلية الهندسة جامعة طنطا. ابن شبشير الحصة. طنطا

مَا زِلْنَا مَعَ البَاحِثِ عَنِ الاهْتِدَاءِ، السَّائِرِ بالاقْتِفَاءِ لِكُلِّ أَثَرٍ يَصِلُ لِرَبِّ الأرَضِ، وَالسَّمَاء، الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ، والمُثَابِرُ الأَصِيلُ سَلْمَانُ الخَيْرِ، وَالنَّاشِدُ لِلْبِرِّ المُسْتَحِقُّ بِكُلِّ فَخْرٍ قُوْلُ المُصْطَفَىٰ ، وَالحَبِيبُ المُجْتَبَىٰ - ﷺ- "لَوْ كانَ الإيمانُ عندَ الثُّريا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَٰؤلاءِ" فَلَمْ يَرْتَقِ سَيِّدُنَا سَلْمَانُ تِلْكَ المَنْزِلَةَ مِنْ فَرَاغٍ؛

فَلَا عَجَبَ إذَا تَفاخَرَ العَرَبُ بأحْسَابِهِمْ، وَانْسَابِهِمْ، أَمَّا هَذَا المَلَاكُ البَشَرِيُّ صَاحِبُ القَلْبِ النَّدِيِّ، وَالعَقْلِ السَّوِيِّ فَقَدِ افْتَخَرَ بانْتِسَابِهِ للإسْلَامِ قَائِلًا "أبِي الإسْلَامُ لَا أبَّ لِي سِوَاهُ"؛ لِذَا أثْنَىٰ عَلَيْهِ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ- كَرَّمَ اللهُ تَعَالَىٰ وَجْهَهُ - بِقَوْلِهِ "بَحرٌ بِالعِلْمِ لا يُدرَكُ قَعرُه، وهو منّا أهلَ البَيْتِ" .

 
وَهَا هُوَ قِسِّيسُ المَوصِلِ يُوصِيهِ  بصَاحِبِ نَصِيبِينَ فَهَيَّا بِنَا نَسْتَعرِضُ مَا بَقِيَ لَنَا مِنْ قِصَّتِهِ بِدَايَةً مِنَ البَنْدِ الثَّالثِ عَشَر :
 
الثَّالثُ عَشَر : قِسِّيسُ المَوصِلِ يُوصِي سَلمانَ بصاحِبِ نَصِيبِينَ:
 
قال:" أيْ بُنَيَّ، واللهِ ما أعلَمُ رَجُلًا على مِثلِ ما كُنَّا عليه إلَّا بنَصيبينَ، وهي مَدينةٌ تاريخيَّةٌ في الجَزيرةِ الفُراتيَّةِ العُليا، ومِنطَقةٌ إداريَّةٌ تَقَعُ حاليًّا ضِمنَ حُدودِ تُركيا، وتَتبَعُ اليَومَ مُحافَظةَ ماردينَ في جَنوبِ شَرقِ تُركيا، وهو فُلانٌ، فالحَقْ به فكُنْ معه ولازِمْه، " فلَمَّا ماتَ وغُيِّبَ لَحِقتُ بصاحِبِ نَصيبينَ، فجِئتُه فأخبَرتُه خَبَري، وما أمَرَني به صاحِبي، قال: " فأقِمْ عِندي. فأقَمتُ عِندَه، فوَجَدتُه على أمْرِ صاحِبَيْه مِن حُسنِ الدِّيانةِ، وحُسنِ العَمَلِ مع صَلاحِه، " فأقَمتُ مع خَيرِ رَجُلٍ، فواللهِ ما لَبِثَ أنْ نَزَلَ به المَوتُ، فلَمَّا حَضَرَ، قُلتُ له: "يا فُلانُ، إنَّ فُلانًا كان أوصى بي إلى فُلانٍ، ثم أوصَى بي فُلانٌ إليكَ، فإلى مَن تُوصي بي؟ وما تأمُرُني؟ "
 
الرَّابِعُ عَشَر :صاحِبُ نَصيبينَ يُوصِي سَلمَانَ بصاحِبِ عَمُّوريَّةَ :
 
 قَالَ : "أيْ بُنَيَّ، واللهِ ما نَعلَمُ أحَدًا بَقيَ على أمْرِنا آمُرُكَ أنْ تأتيَه إلَّا رَجُلًا بعَمُّوريَّةَ، وهي مَدينةٌ كَبيرةٌ كانتْ لِلرُّومِ، فَتَحَها - فيما بعد - الخَليفةُ المُعتَصِمُ العَبَّاسيُّ سَنةَ 223هـ، وتَقَعُ الآنَ في وَسَطِ غَربِ هَضَبةِ الأناضولِ التُّركيَّةِ؛ فإنَّه على مِثلِ ما نحن عليه، فإنْ أحبَبتَ فأْتِه. قال: فإنَّه على أمْرِنا" قال: فلَمَّا ماتَ وغُيِبَّ في الترابِ ودُفِنَ، وهذا يَدُلُّ على وَفاءِ سَلمانَ لِمُعلِّمِه، حيثُ انتَظَرَ حتى شارَكَ في دَفنِه، وقال سَلمانُ: "لَحِقتُ بصاحِبِ عَمُّوريَّةَ، وأخبَرتُه خَبَري" فقال:" أقِمْ عِندي". فأقَمتُ مع رَجُلٍ على هَدْيِ أصحابِه وأمْرِهم مِنَ الالتِزامِ بحُسنِ الدِّيانةِ، قال: " واكتَسَبتُ بالعَمَلِ حتى كانَ لي بقَراتٌ وغُنَيمةٌ" قال:" ثم نَزَلَ به أمْرُ اللهِ، فلَمَّا حُضِرَ، أي: جاءَ الراهبَ مَرَضُ المَوتِ قُلتُ له: يا فُلانُ، إنِّي كُنتُ مع فُلانٍ، فأَوْصى بي فُلانٌ إلى فُلانٍ، وأَوْصى بي فُلانٌ إلى فُلانٍ، ثم أَوْصى بي فُلانٌ إليكَ، فإلى مَن تُوصي بي؟ وما تأمُرُني؟ "
 
الخَامِسُ عَشَر:صاحِبُ عَمُّوريَّةَ يُوصِي سَلمَانَ بِنَبِيٍّ بأرضِ العَرَبِ بمَكَّةَ :
 
قال:" أيْ بُنَيَّ، واللهِ ما أعلَمُه أصبَحَ على ما كُنَّا عليه أحَدٌ مِنَ الناسِ آمُرُكَ أنْ تأتيَه، وهذا لِعِلمِه بتَبديلِ الناسِ دِينَهم وبُعدِهم عنِ الحَقِّ، ولكِنَّه قد أظَلَّكَ زَمانُ نَبيٍّ هو مَبعوثٌ بدِينِ إبراهيمَ وهو دِينُ التَّوحيدِ للهِ رَبِّ العالَمينَ يَخرُجُ بأرضِ العَرَبِ، مُهاجِرًا إلى أرضٍ بَينَ حَرَّتَيْنِ، بَينَهما نَخلٌ"، والحَرَّةُ: هي الأرضُ ذاتُ الحِجارةِ السَّوداءِ، والمُرادُ بها: المَدينةُ المُنوَّرةُ، وكانتْ حِينَئِذٍ تُسَمَّى يَثرِبَ، به عَلاماتٌ لا تَخفَى، يعني: أنَّ لِهذا النَّبيِّ عَلاماتٍ ظاهِرةً قد سَبَقَ ذِكْرُها في كُتُبِهم، ويَعلَمُها رُهبانُهم، ومِن تلك العَلاماتِ، (يأكُلُ الهَديَّةَ) التي تُهدى إليه؛ لِأنَّها دَليلُ مَحبَّةٍ، وتَخرُجُ برِضا الخاطِرِ مِن صاحِبِها، (ولا يأكُلُ الصَّدَقةَ) التي تُخرَجُ لِلفُقَراءِ والمَساكينِ؛ تكريمًا وتشريفًا له؛ لأنَّها مِن أوساخِ النَّاسِ يَتطَهَّرونَ بها مِن ذُنوبِهم، ويَترَفَّعُ النَّبيُّ عن أكلِها (بَينَ كَتِفَيْه خاتَمُ النُّبوَّةِ) وهو مِمَّا وُصِفَ به في الإِنْجِيلِ والتَّوْرَاةِ، ومِن صِفَتِه التي جاءَتْ في الرِّواياتِ أنَّه مِثلُ بَيضةِ الحَمامةِ مُدوَّرٌ، يُشبِهُ لَونُه جَسَدَه، وقيلَ: عَظمٌ رَقيقٌ على طَرَفِ الكَتِفِ، حَولَه خيلانٌ، جَمعُ خالٍ: نُقطةٌ تَضرِبُ إلى السَّوادِ، وتُسَمَّى شامةً، وعليه شَعَراتٌ مُجتَمِعاتٌ تُغَطِّيه، فإنِ استَطَعتَ أنْ تَلحَقَ بتلك البِلادِ فافعَلْ". قال: ثم ماتَ وغُيِّبَ في التُّرابِ، دُفِنَ "فمَكَثتُ بعَمُّوريَّةَ ما شاءَ اللهُ أنْ أمكُثَ.
 
السَّادِسُ عَشَرَ:سَلمَانُ يَطلُبُ منْ تُجَّارِ قَبيلةِ كَلبٍ حَمْلَهُ إلي مَكَّةَ :
 
ثم مَرَّ بي نَفَرٌ مِن قَبيلةِ كَلبٍ تُجَّارًا، وكانت مِن أقوى القبائِلِ، حيث كانت تُسيطِرُ على الطُّرُقِ المُؤدِّيةِ لِلشَّامِ، وكانت لها صِلاتٌ وَثيقةٌ بقُرَيشٍ في مَكةَ قَبلَ الإسلامِ، فقُلتُ لهم:" تَحمِلوني إلى أرضِ العَرَبِ فتُوَصِّلونَني إلى أرضِهم وأُعطيكم بَقَراتي هذه، وغُنَيمَتي هذه مُقابِلَ سَفَرِه وحَملِه معهم، "قالوا: "نَعَمْ" فأعطَيتُهموها وحَمَلوني معهم في قافِلَتِهم وعلى دَوابِّهم.      
 
السَّابِعُ عَشَر:قَبيلةُ كَلبٍ تَبِيعُ سَلْمَانَ ليَهُودِيٍّ بواديَ القُرى :
 
حتى إذا قَدِموا بي واديَ القُرى وهو مِن أوديةِ الجَزيرةِ العَربيةِ التاريخيَّةِ، يَقَعُ بَينَ تَيماءَ وخَيبَرَ، اختُلِفَ على مَكانِه، ولكِنَّ أغلَبَ الإشاراتِ تُشيرُ إلى أنَّه الوادي المَعروفُ حاليًّا باسمِ وادي الجَزلِ، ظَلَموني؛ فباعوني مِن رَجُلٍ مِن يَهودَ عَبدًا؛ فغَدَروا به، وجَعَلوه أسيرًا لهم، ثم باعوه، فصارَ مَملوكًا لِليَهوديِّ، قال سَلمانُ: "فكُنتُ عِندَه، ورأيتُ النَّخلَ، ورَجَوتُ أنْ تَكونَ البَلَدَ الذي وَصَفَ لي صاحِبي" يَقصِدُ به راهِبَ عَمُّوريَّةَ الذي وَصَفَ له الأرضَ التي سيَخرُجُ منها النَّبيُّ مُحمدٌ ﷺ ، ولم يَحِقْ لي في نَفْسي" أي: لم أتأكَّدْ أنَّه المَكانُ الذي وَصَفَه لي الرَّاهِبُ.                               
 
الثَّامِنُ عَشَ:اليَهُودِيُّ يَبِيعُ سَلْمَانَ لابنِ عَمٍّ لَهُ مِنْ يَهُودِ بَنِي قُرَيظةَ :
 
فبَينَما أنا عِندَه ، أي: عِندَ سَيِّدِه اليَهوديِّ الذي اشتَراه ويَخدُمُه، قَدِمَ عليه ابنُ عَمٍّ له مِنَ المَدينةِ مِن بَني قُرَيظةَ، وهي قَبيلةٌ مِن قَبائِلِ اليَهودِ، كانتْ تَسكُنُ المَدينةَ، فابتاعَني منه أي  اشتَراني منه، فاحتَمَلَني إلى المَدينةِ، فواللهِ ما هو إلَّا أنْ رأيتُها فعَرَفتُها بصِفةِ صاحِبي" فتأكَّدَ سَلمانُ أنَّها هي المَدينةُ المَقصودةُ، قال: "فأقَمتُ بها، وبَعَثَ اللهُ رَسولَه ﷺ بالرِّسالةِ، والتَّبليغِ لدِينِ الحقِّ، فأقامَ بمَكةَ ما أقامَ، لا أسمَعُ له بذِكرٍ مع ما أنا فيه مِن شُغُلِ الرِّقِّ؛ حيثُ كانوا لا يَسمَحونَ لِعَبيدِهم بالخُروجِ أو مُخالَطةِ الناسِ، أو مَعرِفةِ الأخبارِ، إلَّا ما جاءَ عَفْوًا دونَ قَصدٍ "
 
التَّاسِعُ عَشَر:سَلْمَانُ يَسْمعُ بِخَبَرِ وُصُولِ النَّبِيﷺ وَهُوَ فَوقَ النَّخْلَةِ:
 
ثم هاجَرَ النَّبيُّ ﷺ إلى المَدينةِ، فوَاللهِ إنِّي لَفي رأْسِ عَذقٍ لِسَيِّدي، أي: كُنتُ فَوقَ نَخلةٍ لِسَيِّدي، أعمَلُ فيه بَعضَ العَمَلِ، وسَيِّدي جالِسٌ، إذْ أقبَلَ ابنُ عَمٍّ له حتى وَقَفَ عليه، فقال: "فُلانُ، قاتَلَ اللهُ بَني قَيلةَ، يَقصِدُ الأنصارَ؛ لِأنَّ قَيلةَ هي أُمُّ الأوْسِ والخَزرَجِ، وهي قَيلةُ بِنتُ كاهِلِ بنِ عُذرةَ بنِ سَعدِ بنِ هَزيمٍ، واللهِ إنَّهمُ الآنَ لَمُجتَمِعونَ بقُباءٍ، وهي قَريةٌ على بُعدِ ميلَيْنِ أو ثَلاثةٍ مِنَ المَدينةِ مِن جِهةِ القادِمِ مِن مَكةَ على رَجُلٍ قَدِمَ عليهم مِن مَكةَ اليَومَ، يَزعُمونَ أنَّه نَبيٌّ" قال: "فلَمَّا سَمِعتُها أخَذَتْني العُرَواءُ، وهي الرِّعدةُ، والرَّعشةُ مِنَ الخَوفِ، أوِ الفَرَحِ، أوِ المَرَضِ، أو غَيرِ ذلك، حتى ظَنَنتُ سأسقُطُ على سَيِّدي مِن شِدَّةِ الرِّعدةِ، فلم أتماسَكْ" قال: " ونَزَلتُ عنِ النَّخلةِ، فجَعَلتُ أقولُ لابنِ عَمِّه ذلك: ماذا تَقولُ؟ ماذا تَقولُ؟ قال: فغَضِبَ سَيِّدي، فلَكَمَني لَكمةً شَديدةً؛ فضَرَبهَ بجُمعِ يَدِه ضَربةً شَديدةً، ثم قال: "ما لكَ ولِهذا؟ أقبِلْ على عَمَلِكَ فأكمِلْه؛ فليس لِلعَبيدِ أنْ يَتكَلَّموا أو يَسألوا أو يَتدَخَّلوا في كَلامِ السَّادةِ والأحرارِ! " قُلتُ: لا شَيءَ، إنَّما أرَدتُ أنْ أستَثبِتَه عَمَّا قال فأتأكَّدَ مِن صِحَّةِ كَلامِه ووُصولِ النَّبيِّ ﷺ إلى المَدينةِ "
 
العِشرُونَ : سَلْمَانُ يَخْتَبِرُ النَّبِيَّ ﷺ بِتَمرٍ في مَسْجِدِ قُبَاءَ:
 
وقد كان عِندي شَيءٌ قد جَمَعتُه مِنَ التَّمرِ أوِ الطَّعامِ، جَمَعَه لِنَفْسِه مِنَ العَمَلِ فلَمَّا أمسَيتُ أخَذتُه ثم ذَهَبتُ إلى رَسولِ اللهِ ﷺ وهو بمَسجدِ قُباءٍ، فدَخَلتُ عليه، فقُلتُ له:" إنَّه قد بَلَغَني أنَّكَ رَجُلٌ صالِحٌ، ومعك أصحابٌ لكَ غُرَباءُ ذَوو حاجةٍ فُقَراءُ، وليس لهم مالٌ، ولا طَعامَ عِندَهم، وهذا شَيءٌ كان عِندي لِلصَّدَقةِ، وهو قاصِدٌ بقَولِه (لِلصَّدَقةِ) مَعرِفةَ حَقيقَتِه، وهي إحْدَى العَلاماتِ التي أخبَرَه بها الرَّاهِبُ، فرأيتُكم أحَقَّ به مِن غَيرِكم؛ لِأنَّكم غُرَباءُ وفُقَراءُ؛ فقَرَّبتُه إليه، فقال رَسولُ اللهِ ﷺ لِأصحابِه: كُلوا،وأمسَكَ يَدَه فلم يأكُلْ مِن طَعامِ الصَّدَقةِ" فقُلتُ في نَفْسي: " هذه واحِدةٌ، أي: فتأكَّدَ مِن أوَّلِ صِفةٍ وَصَفَها له الراهِبُ قَبلَ ذلك، "ثم انصَرَفتُ عنه فجَمَعتُ شَيئًا، وتَحوَّلَ رَسولُ اللهِ ﷺ إلى المَدينةِ عِندَ بَني النَّجَّارِ أخوالِه، ثم جِئتُه به، فقُلتُ:" إنِّي رأيتُكَ لا تأكُلُ الصَّدَقةَ، وهذه هَديَّةٌ أكرَمتُكَ بها فأعطَيتُكَ إيَّاها بطيبِ خاطِرٍ، فأكَلَ رَسولُ اللهِ ﷺ ، وأمَرَ أصحابَه فأكَلوا معه، قال:" فقُلتُ في نَفْسي: هاتانِ اثنَتانِ. قال: ثم جِئتُ رَسولَ اللهِ ﷺ، وهو ببَقيعِ الغَرقَدِ بالبَقيعُ مِنَ الأرضِ: المَكانُ المُتَّسِعُ، ولا يُسَمَّى بَقيعًا إلَّا وفيه أشجارٌ أو أُصولُها، وبَقيعُ الغَرقَدِ: مَوضِعٌ بظاهِرِ المَدينةِ فيه قُبورُ أهلِها، كان به شَجَرُ الغَرقَدِ، فذَهَبَ وبَقيَ اسمُه، وقد تَبِعَ جَنازةً مِن أصحابِه، عليه شَملَتانِ له، وهو كِساءٌ يَتغَطَّى به، ويتلَفَّفُ فيه، والمِئزَرُ يَتَّشِحُ به فيُغطي جَسَدَه كُلَّه، وهو جالِسٌ في أصحابِه، فسَلَّمتُ عليه، ثم استَدَرتُ أنظُرُ إلى ظَهرِه، هلْ أرَى الخاتَمَ الذي وَصَفَ لي صاحِبي؟ فلَمَّا رآني رَسولُ اللهِ ﷺ استَدبَرتُه"، أي: جِئتُ ووقفْتُ خَلفَ ظَهرِه لأنظُرَ إلى الخاتَمِ عَرَفَ أنِّي أستَثبِتُ في شَيءٍ وُصِفَ لي، قال:" فألْقى رِداءَه عن ظَهرِه، فنَظَرتُ إلى الخاتَمِ فعَرَفتُه، انكَبَبتُ عليه أُقبِّلُه وأبكي، وكان خاتَمُ النُّبوَّةِ عِندَ كَتِفِه ﷺ، "فقال لي رَسولُ اللهِ ﷺ: " تَحوَّلْ. فتَحوَّلتُ"، أي: جِئتُه مِن أمامِه، فقَصَصتُ عليه حَديثي كما حَدَّثتُكَ يا ابنَ عَبَّاسٍ وهي قِصَّةُ خُروجِه مِن بَلَدِه يَتَتبَّعُ الدِّينَ الحَقَّ إلى أنْ رأى النَّبيَّ ﷺ ؛ فأعجَبَ رَسولَ اللهِ ﷺ أنْ يَسمَعَ ذلك أصحابُه،
 
الحادِي والعِشرُون: النَّبِيُّ ﷺ يَأمُرُ سَلمَانَ بِمُكَاتَبَةِ سَيِّدِهِ :
 
ثم شَغَلَ سَلمانَ الرِّقُّ، وما هو فيه مِنَ العُبوديَّةِ والشُّغُلِ حتى فاتَه مع رَسولِ اللهِ ﷺ بَدرٌ، وأُحُدٌ، قال: " ثم قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كاتِبْ يا سَلمانُ" والمُكاتَبةُ هي الاتِّفاقُ بَينَ العَبدِ والمالِكِ على قِيمةٍ يَدفَعُها المَملوكُ ممَّا يَكتسِبُه لنفْسِه بعدَ قِيامِه بحُقوقِ خِدمتِه لسَيِّدِه، ثم يَصيرُ حُرًّا.
 
الثَّانِي والعشرون: اليَهُودِيُّ يُعْجِزُ سَلمانَ في المُكَاتَبَةِ :
 
فكاتَبتُ صاحِبي على( ثَلاثِ مِئةِ نَخلةٍ) ، أُحييها له بالفَقيرِ، وفَقيرُ النَّخلةِ: حُفرةٌ تُحفَرُ لِلفَسيلةِ إذا حُوِّلتْ مِن مَغرَسِها المُؤَقَّتِ لِتُغرَسَ فيها؛ لِتَكونَ مَكانَها الدَّائِمَ، وَاشْتَرَطَ  اليَهُودِيُّ أَنْ يُثْمِرَ النَخِيلُ جَمِيعًا مِنْ نَفْْسِ العَامٍ (وبأربَعينَ أُوقيَّةً مِنَ الذَّهَبِ) يَدْفَعُهُمْ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، بَينَمَا الصَّخَابِيَّةُ بَرِيرَةُ قَد كَاتَبَهَا الانصارُ مُقَابِلَ عِتْقِِهَا  علي تِسْعِ أَوَاقٍ مِنْ ذَهَبٍ تُقَسِّطُهَا (تُسَدِّدُهَا) عَلَىْ تِسْعِ سَنَوَاتٍ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَىٰ إعْجَازِ اليَهُودِيِّ لِسَيِّدِنَا سَلْمَانَ حَتَّىٰ يَبْقَىٰ رَقِيقًا عِنْدَهُ؛ إذْ وَحدَهُ يَسْتَحِيلُ لَهُ الوَفَاءُ  بِكُلِّ هَٰذِهِ الطَّلَبَاتِ؛ لِذَالِكَ قَالَ -ﷺ- لِأصحابِه:" أعينوا أخاكم"، أي: ساعِدوه كلٌّ بما يَستطيعُ، فأعانوني بالنَّخلِ: الرَّجُلُ بثَلاثينَ وَديَّةً" وهي النَّخلةُ الصَّغيرةُ، فإذا خَرَجتِ النَّخلةُ مِنَ النَّواةِ فهي غَريسةٌ، ثم يُقالُ لها: وَديَّةٌ، ثم فَسيلةٌ، ثم إشاءةٌ، "والرَّجُلُ بعِشرينَ، والرَّجُلُ بخَمسَ عَشرةَ، والرَّجُلُ بعَشرٍ؛ يَعني: الرَّجُلُ بقَدْرِ ما عِندَه، حتى اجتَمَعتْ لي ثَلاثُ مِئةِ وَديَّةٍ،
 
الثالثُ والعشرون :النَّبِيُّ ﷺ يَغْرِسُ نَخْلَ سَلْمَانَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ :
 
فقال لي رَسولُ اللهِ النَّبِيُّ ﷺ:" اذهَبْ يا سَلمانُ ففَقِّرْ لها" أي احفِرْ لها الحُفَرَ التي ستُوضَعُ فيها، فإذا فَرَغتَ فأْتِني أكونُ أنا أضَعُها بيَدي فأمَرَه النَّبيُّ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يُجهِّزَ الحُفَرَ لِغَرسِ النَّخلِ، ثم يَنتَظِرَه حتى يأتيَه ويَضَعَ بيَدَيْه الشَّريفَتَيْنِ النَّخلَ في الحُفَرِ، ففَقَّرتُ لها، وأعانَني أصحابي، حتى إذا فَرَغتُ منها جِئتُه فأخبَرتُه، فخَرَجَ رَسولُ اللهِ النَّبِيُّ ﷺ معي إليها، فجَعَلْنا نُقرِّبُ له الوَديَّ، ونَضَعُه بَينَ يَدَيْه النَّبِيُّ ﷺ، "ويَضَعُه رَسولُ اللهِ النَّبِيُّ ﷺ بيَدِه، فوالذي نَفْسُ سَلمانَ بيَدِه، ما ماتَتْ منها وَديَّةٌ واحِدةٌ؛ فصَلُحَ النَّخلُ كُلُّه بفَضلِ اللهِ تعالى وببَركةِ نبيِّه النَّبِيُّ ﷺ فأدَّيتُ النَّخلَ، وبَقيَ علَيَّ المالُ.
 
الرابعُ والعشرون : النَّبِيُّ ﷺ يُعطِي سَلْمَانَ بَيْضةً مِنْ ذَهَبٍ :
 
فأُتيَ رَسولُ اللهِ النَّبِيُّ ﷺ بمِثلِ بَيضةِ الدَّجاجةِ مِن ذَهَبٍ مِن بَعضِ المَغازي وهي قِطعةٌ مِنَ الذَّهَبِ الخامِ على شَكلِ بَيضةٍ، فقال: "ما فَعَلَ الفارِسيُّ المُكاتَبُ؟" يَسألُ النَّبيُّ النَّبِيُّ ﷺ عن أحوالِ سَلمانَ؛ لِيُساعِدَه في سَدادِ المالِ الذي عليه، فدُعيتُ له، فقال: "خُذْ هذه فأدِّ بها ما عليكَ يا سَلمانُ" فقُلتُ: " وأين تَقَعُ هذه يا رَسولَ اللهِ مِمَّا علَيَّ؟ "
وكأنَّه رآها قَليلةَ الحَجمِ والوَزنِ ولا تَكفي ما عليه مِنَ الأربَعينَ أُوقيَّةً، قال ﷺ : " خُذْها؛ فإنَّ اللهَ سيُؤدِّي بها عنكَ" قال:" فأخَذتُها فوَزَنتُ لهم منها، والذي نَفْسُ سَلمانَ بيَدِه، أربَعينَ أُوقيَّةً والأُوقيَّةُ: قَدْرُها أربَعونَ دِرهمًا، والمُرادُ الدِّرهمُ الخالِصُ مِنَ الفِضَّةِ، أو ما يُعادِلُه مِنَ الذَّهَبِ، والأُوقيَّةُ 201 جرامٍ تَقريبًا" قال سَلمانُ: "فأوفَيتُهم حَقَّهم"، أي: أعطَيتُ أسيادي حَقَّهم كُلَّه وعُتِقتُ  فأصبَحتُ حُرًّا؛ فشَهِدتُ مع رَسولِ اللهِ ﷺ الخَندقَ"؛ ثم لم يَفُتْني معه مَشهَدٌ" معَ النبيِّ ﷺ ، والمَشهَدُ: الغَزوةُ والحَربُ.
 
- تِلْكَ القِصَّةُ بِغَايَةِ الغَرَابَةِ، وَقِمَّةِ العَجَبِ أنْ أقرَأ عنْ بَاحِثٍ للحَقِيقةِ بِهَٰذا الشَّكْلِ وَتِلْكَ المَهَابَةِ، وَذَاكَ الوَصْفِ العَجِيبِ، والسَمْتِ النَّجِيبِ اللَّٰهُمَّ إلا مَا كَانَ منْ سَمْتِ الأنبياءِ السابقينَ، وَرُسُلِ اللهِ الصَّالِحِينَ كنبيِّ اللهِ إبراهِيمَ الذي ظَلَّ يَبْحثُ وَيُطَالِعُ الكَونَ مِنْ حَوْلِهِ ليهتدي لخالقهِ؛ فاهْتَدَىٰ، وَكَمُثَابَرَةِ يُوسُفَ عَلَىٰ تلَاقِيهِ بِإخْوَتِهِ، وَوَالِدِيهِ؛ فَتَلَاقَيَا ، وَكَصَبْرِ نَبِيِّ اللهِ يَعْقُوبَ عَلَىٰ فِرَاقِ  وَلَدِهِ فَلْذَةِ كَبِدِهِ؛ فَرُدَّ إلَيْهِ مَلَكًا مُتَوَّجًا، وَنَبِيًّا مُرْسَلًا ، وَكَصَبْرِ أُمِّ نَبِيِّ اللهِ مُوسَىٰ بإبْعَادِ طِفْلِهَا رَضِيعًا بإلْقَائهَا إيَّاهُ بِاليَمِّ وَحِيدًا لِيَعُودَ لَهَا مُنْقِذًا لِسائرِ بَنِي إسْرَائيلَ مِنْ فِرعَوْنَ، وَجُنُودِهِ؛ وَقَد عَادَ مُنْقِذًا إيَّاهُم؛ لِذَا كانَ سَلْمَانُ أحَقَّ بِوَضْعِ النبيِّ ﷺ يَدَهُ عَليه قَائلًا : (لوْ كانَ الإيمانُ عندَ الثُّريا لَنَالَهُ رجالٌ مِنْ هَٰؤلاءِ) رواه أبو هريرةَ في قولهِ تعالىٰ ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ [الجمعة:٣]
 
وكانَ أحقُّ بقولِ الإمامِ عليٍّ -كرمَ اللهُ تعالىٰ وجْهَهُ- عنهُ :أدرَكَ العِلمَ الأوَّلَ، والعِلمَ الآخِرَ، بَحرٌ لا يُدرَكُ قَعرُه، وهو منّا أهلَ البَيْتِ. (شعيب الأرنؤوط (ت ١٤٣٨)، تخريج سير أعلام النبلاء ١‏/٥٤١ . رجاله ثقات)
 
-قَد كَانَ مِنْ عَادَاتِ العَرَبِ الفَخْرُ بِأنْسَابِهِمْ، فَقَد اجْتَمَعَ سَيِّدُنَا سَلْمَانُ مَعَ نَفَرٍ مِنَ الأعرَابِ فَسَألُوهُ عَنْ نَسَبِهِ بَعدَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ :" أنَا قُرَشِيٌّ”، وقَالَ آخَرُ : “أنَا قَيْسِيٌّ”، وَقَالَ الأخِيرُ: “أنَا تَمِيمِيٌّ”، فَقَالَ سَلْمَانُ :
 
أبِي الإسْلَامُ لَا أبَّ لِي سِوَاهُ...إذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أوْ تَمِيمٍ .
دَعِيُّ القَوْمِ يَنْصُرُ مُدَّعِيهِ.... فَيَلْحَقُهُ بِذي النَّسَبِ الصَّمِيمِ.
وَمَا كَرَمٌ وَلَوْ شَرُفَتْ جُدُودٌ...وَلَٰكِنَّ التَّقِيَ هُوَ بِالكَرِيمِ .
 
- لذَا كَانَ مِنْ رُفَقَاءِ النَّبِيِّ ﷺ الأربَعَةِ عَشَرَ النُّجَبَاءَ؛ فَعَنْ عَلِيٍّ بنَ أبي طَالبٍ : إنَّهُ لم يَكُن قبلي نبيٌّ إلا قَد أُعْطِيَ سَبْعَةَ رُفَقَاءَ نُجَبَاءَ، وُزَرَاءَ، وإنِّي أُعطِيتُ أربَعَةَ عَشَرَ: حمزةُ، وجعفرٌ وعليٌّ وحسنٌ وحُسَيْنٌ وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ والمِقْدَادُ وعبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ، وأبو ذرٍّ وحُذَيْفَةُ، وَسَلْمَانُ، وعَمَّارٌ، وبِلالٌ
أحمد شاكر (ت ١٣٧٧)، تخريج المسند لشاكر ٢‏/٣١١. إسناده صحيح.
 
فَهُوَ سَلْمَانُ الخَيْرِ ،ابنُ الإسْلامِ ، أبو عبد الله الفارسي، البَاحِثُ عَنِ الحَقِّ، النَّاشِدُ لِلحَقِقَةِ، سَابِقُ الفُرْسِ إلىٰ الإسْلامِ ، صَاحِبُ النَّبِيِّ -ﷺ-، وَمِنْ آلِ بَيْتِهِ، وَمِنْ رُفَقَائهِ النُّجَبَاءِ الأتْقِياءِ الأتْقِيَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَجَعَلَ الفِرْدَوَسَ الأَعْلَىٰ بِالجَنَّةِ مُسْتَقَرَّهُ، وَمَأوَاهُ بِصُحْبَةِ النَّبِيِّ-ﷺ-،، وَآلِ بَبْتِهِ الأَطْهَارِ  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا ، وَأَرْضَاهُمْ، وَاحَشَرنَا بِزُمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ نَسْعَدَ بِلُقْيَاهُمْ .


أقرأ أيضاً

قصائد ومقالات أ/ حسام الدين أبو صالحه

ليست هناك تعليقات: