الأديب الروائى/ محمود عرفات ابن كفرالزيات
روائى وقاص مصرى حاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عام 2005م عن المجموعة القصصية "على شاطئ الجبل". شارك فى انتصارات أكتوبر المجيدة عام 1973م، كضابط احتياط فى أحد التشكيلات القتالية المدرعة بالجيش الثانى الميدانى.عضو اتحاد كتاب مصر.عصو نادى القصة.عضو الجمعية المصرية للسرديات.
لمحها تجلس على الطوار العالى المجاور للمقهى. لفت نظره وجهها الحليبي تحيط به طرحة سوداء بشراشيب.. لكنه أسرع ليقضي مشواره القريب. بعد الظهر رآها جالسة على سلم محل البقالة.. تضع بين ساقيها مخلاة دمور.. وتنتعل شبشبًا بلاستيكيًا رخيصًا لم يفلح جلبابها الطويل أن يخفيه. نسيها حتى شاهدها وهو يصعد سلم السنترال.. شيء ما جذبه نحوها.. فنظر في عينيها مباشرة فألقت ببصرها إلى الأرض. سيدة سبعينية لم ينجح الزمن في طمس ملاحة وجهها المستدير.
انشغل بها وفكر في حكايتها. وجهها أبيض جميل.. تزينه عينان حائرتان. ماذا تخفي عن الناس.. وماذا يعرف الناس عنها؟ لو متسولة لاتخذت موقعًا ثابتًا ودافعت عنه دفاع من يحافظ على مصدر رزقه. لو تبيع شيئًا لأعلنت عنه بشجاعة من يبحث عن لقمة عيش شريفة. لا تبيع ممنوعات.. فبائعو الممنوعات لا يجلسون على سلالم المحال والمقاهي يعرضون بضاعتهم بتبجح.توقف أمامها مباشرة وسألُها هامسا: يا حاجَّة.. ممكن أساعدك في حاجة؟ همستْ بصوت لا يبين: معي عيش. مدت يدها في المخلاة وأخرجت كيسًا به عدد من أرغفة الخبز. لوحتْ بالكيس في خجل وأكملتْ في رجاء: خذ لك كيسًا أو اثنين. مد يده داخل المخلاة وأخرج عدة أكياس. بدا الاضطراب عليها.. لكنه طمأنها: بكم الكيس يا حاجة؟ لمح شبح ابتسامة خجلى على شفتيها وهي تهمهم: اللي تشوفه. مدَّ يده بورقة مالية.. فرفضتْ أن تأخذها.. وقالت وهى تبعد يده عنها: هات فكة. همس بود: لا أريد باقي يا حاجَّة. نظرت نحوه وهي تزوي ما بين عينيها في احتجاج وقالت: دا كثير. تأكد أنها تخفي ما لا يعرفه أحد. كلماتها القصيرة الخجلى أغلقت كل السكك في وجهه.. لكنه صمم أن يعرف.. فطلب منها أن تبيعه كل ما في المخلاة من عيش.. لكنها رفضت في تصميم.. فعرض أن تأخذ فلوس ما أخذه من أكياس.. وهددها: سأجلس بجوارك على السلم حتى تأخذي حقك. الأخذ والرد جعلها تلين قليلا.. فمدت يدها وأخذت الورقة المالية.. ثم رفعت كفيها إلى أعلى ونظرت إلى السماء وأغمضت عينيها وأخذت تدعو في سرها. سألها: أين تسكنين يا حاجة؟ نظرت إلى بعيد وقالت ساهمة: كنت أعيش مع أخي في البر الثاني حتى مات. سكتت.. احترم صمتها إذ رأى فى عينيها دموعًا حائرة تأبى السقوط.. أكملتْ بعد تردد: وطردتني امرأته من البيت الذى كان يسكنه. هنا سقطت الدموع فتحول الوجه الحليبي إلى تمثالٍ لبؤسٍ حزين. هزت رأسها.. ثم تحدث الحزن بلسانها: ثلاث سنين قاعدة مع ناس طيبين في الجزيرة.. أكرموني آخر كرم.. وأنا مكسوفة منهم.. وأسعى لتدبير لقمتي.
همَّت أن تقوم.. فهم أنها لا ترغب فى الحديث.. سألها عن اسمها فاحمر وجهها.. ومدت يدها لتخفي فمها بطرف طرحتها. وضعت كفيها في حجرها وألقت ببصرها بعيدًا. صعب عليه أن يتركها دون أن يعرف لها طريقًا. فدارى خيبة أمله بأن قال لها بلهجة احتجاج: كيف أناديك.. وكيف أصل إليك؟
انتبه على صوت أحد أصدقائه يحييه ويدعوه لشرب الشاى في نادى البلدية القريب. فجلسا إلى طاولة تظللها شجرة الفيكس العتيقة.. وتطل على مياه النيل الضحلة. حدثه عن الطرحة أم شراشيب والعينين الحائرتين وحمرة الخجل وسور الصمت. أشاح الصديق بيده بما يعني.. ارم وراء ظهرك وكبَّر دماغك. فلزم الصمت وهو مشغول بالعينين الباكيتين.
هذا الصباح خرج يتمشى في شارع الترعة.. مستمتعًا بشمس الشتاء الحانية.. فلمحها تجلس على سلم أكبر محال البقالة في البلدة.. مثلما كانت تجلس قبل أيام. أسرع نحوها.. قبل أن يصل إليها سمع صوت ارتطام.. وعلا الزعيق والصخب.. وتطايرت الشتائم.. نظر نحو اللمة والهرج والصراخ فرأى معركة تكاتك. اصطدم توكتوك بآخر فنزل السائقان يتضاربان.. فوقفت كل التكاتك وتوقف المرور وتحول الشارع إلى ساحة معركة. قدر أن الأمر لن يزيد عن دقائق ثم يتصالح الجميع. فمضى نحو السيدة مصممًا أن يعرف عنها كل شيء. قبل أن يصل إليها بأمتار وجدها تنكفيء على جانبها فوق السلم. لا يدرى هل طالتها خبطة عشواء أم تعرضت لإغماء مفاجيء. أسرع محاولا إفاقتها فلم يتمكن.. لم يجد فيها جرحًا أو نزفًا فاستنجد بالمارة الذين سارعوا بفتح سكة لتوكتوك حملوها فيه وتوجه معهم إلى المستشفى القريب. رجا سائق التوكتوك أن يدخل بها إلى الاستقبال فوافق متبرمًا. شعر بحرج تبدد سريعًا إذ رأى كثيرين يتطوعون للمساعدة. جاءت الممرضة وطلبت منه تحرير تذكرة دخول. وجد نفسه وحيدًا بجوار السيدة المجهولة. أسرع لكتابة التذكرة. هز الموظف القلم بيده وسأله: ما اسمها؟ قال له متحيرًا: لا أعرف لها اسمًا. قال فى زهق: اذهب وفتش في جيبها عن بطاقة أو ورقة تفيدنا. أسرع إلى السيدة فاقدة الوعي وأدخل يده فى جيب جلبابها وأخرج (بوك) صغيرا.. فتحه فرأى فيه نقودًا قليلة وبطاقة شخصية قديمة متآكلة.. وصورة أبيض وأسود باهتة. دقق فى البطاقة فلم يميز الاسم ولا الملامح. قال للموظف بثقة: سجل عندك.. أمينة عبد السلام.. ثلاثة وسبعين سنة.. تسكن في الجزيرة. أخذ تذكرة الدخول وأسرع نحو الاستقبال. رأى الممرضة تساعد الطبيب ليفحص أمينة. نظر إلى وجه الطبيب.. فلم ير سوى ملامح الحياد المهنية.. كتب الطبيب بضع كلمات في ورقة أعطتها له الممرضة ليحضر الدواء من الصيدلية المواجهة للمستشفى. أسرع بإحضار الحقن التى جهزتها الممرضة وحقنت بها الست أمينة..
وجلس قريبًا في انتظار أن تفيق. قضى الوقت يحاول فهم الصورة الباهتة.. ومعرفة علاقة الست أمينة بأربع بنات يقفن متجاورات.. تتراوح أعمارهن بين الخامسة والثانية عشرة.. الشبه بينهن واضح.. يلبسن جلابيب بنفس التفصيلة وتتدلى من رأس كل واحدة منهن ضفيرتان. دارت الأفكار في رأسه.. هل هى واحدة من الأربع بنات؟ وهل هن أخوات؟ أم هن بناتها؟ أم من أقربائها؟ أفاق من حيرته على عمال يضعونها على الترولى ويدفعونه إلى خارج الحجرة. أسرع إلى الممرضة متسائلًا.. فاكتفت بأن قالت: لا تقلق.. هي تحت الملاحظة حتى تتحسن. سألها: متى أحضر لأطمئن عليها؟ فقالت: ليس قبل العاشرة مساءً. شعر ببعض الاطمئنان فانصرف.. ليتناول الغداء مع الأولاد ويستريح قليلًا.
بعد صلاة العشاء أسرع ليطمئن على أمينة.. فأبلغته الممرضة بأنها غادرت المستشفى منذ ساعة بعد أن أمر الطبيب بخروجها.لم يعرف الرجل ماذا يفعل. أخرج من جيبه متعلقاتها.. وتدافعت دوامة من الأسئلة داخل رأسه (ماذا أفعل وأنا لا أعرف لها اسما ولا عنوانًا. قالت إنها تقيم مع ناس طيبين. في الجانب الآخر من البلدة.. في الجزيرة.. خلف محطة السكة الحديد. منازلها مجرد عشش من الخشب والصفيح. أهل البلدة يخوِّفون أولادهم بها.. ويحذرونهم من دخولها أو المرور منها خاصة بعد المغرب. هي منطقة شمال.. ولا يسكنها إلا الناس الشمال. حاولت السلطات تطويعها فلم تفلح). أفاق من سرحته ولم يعرف كيف يطمئن على الست أمينة؟ وهل هى اسمها أمينة فعلًا؟ وكيف يسأل عنها؟ وهل يستطيع أن يغامر ويدخل الجزيرة في هذا الوقت المتأخر والبرد الشديد؟ وماذا يفعل بمتعلقاتها التي وقعت في يده؟ وما مصير هذه الأمانة؟ فكَّر أن يؤجل التفكير في أمرها ويذهب إلى بيته لينام. وفي الصباح يستطيع أن يتمشى في شارع الترعة باحثًا عنها في المواضع التى رآها فيها. هدأت نفسه قليلًا وشعر ببعض الراحة. هز كتفيه وهو يقول لنفسه: لم أقصر في حقها. وضع البطاقة المتآكلة والصورة القديمة والنقود القليلة في (البوك).. وأسقطه في جيب معطفه.. ومضى نحو بيته. همَّ أن يدق الجرس.. لكنه توقف وهز رأسه كأنه تذكر أمرًا. عاد ليقطع الطريق إلى محطة السكة الحديد. عبر رصيفي المحطة. نظر إلى المنازل الواطئة وعشش الصفيح. ولم يلتفت إلى تل القمامة الذى تسرح فيه القطط المتوحشة مع الكلاب الأليفة. رفع ياقة المعطف لتحميه من البرد ومن المتطفلين الشمال.. ودخل الجزيرة بخطوات مُتهيِّبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق