الثلاثاء، فبراير 14، 2023

جنيه واحد .. قصه قصيره للأديب الكبير/ محمود عرفات ابن كفرالزيات

الأديب الروائى/ محمود عرفات ابن كفر الزيات
روائى وقاص مصرى حاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عام 2005م عن المجموعة القصصية "على شاطئ الجبل". شارك فى انتصارات أكتوبر المجيدة عام 1973م، كضابط احتياط ،عضو اتحاد كتاب مصر.عضو نادى القصة و الجمعية المصرية للسرديات.وابن كفر الزيات

 من بولاق الدكرور إلى المهندسين فركة كعب، يأخذ المسافة مشيا في دقائق، يعبر السكة الحديد من الغرب إلى الشرق فتعتدل الصور المقلوبة، ويستنشق هواءً مسكونًا بعطر غامض، الطريق اليوم طويلة، الخطوات ثقيلة، شيء ما يكبله، اليوم يكمل ستة شهور من بدأ هذه الرحلة شبه اليومية،

عندما أشار عليه أصحابه المقربون أن يجرب حظه في المجمع الطبي الخيري، لم يكذب خبرًا، أذهله زحام البشر على كافة التخصصات فتح فمه مدهوشًا وسأل نفسه: كل هؤلاء مرضى، هل بقي أصحاء بالخارج. أقفل فمه عندما اصطدم به شاب يسرع في اتجاه أحد الأبواب، لم يقل الشاب: ولا يهمك. لأنه لم يجد الوقت الكافي ليلتفت ويعتذر

    سأل، ثم وقف في الصف الطويل المتعرج أمام الشباك. الحق يقال، الطابور يتحرك بسرعة، اقترب من النافذة، لاحظ بيد كل واحد جنيهًا، دفع الجنيه للموظف وأملاه اسمه وسنه وعنوانه، فكتب البيانا مرتين، وقطع الجزء الخاص بالطبيب وأعطاه له، واحتفظ بالجزء الخاص بالمتابعة. مضى فؤاد يسأل عن هدفه وهو يحمل تحت إبطه كيسًا بلاستيكيًا به كومة من التذاكر والتقارير الطبية وأغلفة الأدوية التي تعاطاها، لم يترك شيئًا للمصادفة، وجلس في انتظار دوره وهو يتمنى لو يجاذبه الحديث أحد ليقول له، في تعجب وامتنان: إنه فعلًا مجمع خيري، الكشف فيه بجنيه واحد. تذكر رحلة البحث والعلاج الطويلة وأسعار الكشف النار، جرب كل العيادات، من سبعة جنيهات إلى خمسة وتسعين جنيهًا، وابتسم غيظًا عندما تذكر البك الذي أخذ منه الجنيهات الخمسة والتسعين، جنيهًا ينطح جنيهًا، وسأله ضاحكًا: لماذا لا تجعلونها تسعة وتسعين مثل باتا، لكن البك لم يضحك، بل عبس حتى ظن فؤاد أن الرجل، الذي يصلح رئيسًا لمجلس الإدارة سيخصم من مرتبه ثلاثة أيام، عقابًا له على مزحته معه، وتراءت أمام ناظريه أحجام وأشكال وألوان عبوات الأدوية المختلفة، التي تعاطاها بلا فائدة. لم يتأخر الدور كثيرًا، بعد ثلاث ساعات كان يجلس أمام الطبيب يشرح له حالته بالتفصيل. في البداية شعر بالحرج بسبب ضآلة قيمة التذكرة بالنظر إلى الوقت الثمين للطبيب، الذى كان بشوشًا فلم يقاطعه، اكتفى بهز رأسه مشجعًا على مواصلة الشرح. انتهي فؤاد فألقى الطبيب نظرة سريعة على محتويات الكيس، وأبدى الاهتمام ببعض التقارير والتذاكر الطبية، وهز رأسه مرات دون أن يتمكن فؤاد من ترجمة مغزاها. نحى الرجل الكيس جانبًا وقال باختصار وحسم:

= عظيم.. الأوراق تدل على أن المشكلة عندك.. زوجتك سليمة.

= أعرف يا دكتور.. ما العمل؟

دفع الطبيب نظارته إلى الوراء وقال ببطء:

= الطريق طويل، ويحتاج صبر وثقة.

= الثقة في ربنا وفيك يا دكتور.

استمر الطبيب قائلًا:

= المسألة في يدك أنت، والموضوع يحتاج وقتًا، فهل أنت مستعد؟

= من يدك اليمنى ليدك اليسرى، تحت أمرك.

= إذن مطلوب فحصك اليوم هنا بجهاز استوردناه من شهور قليلة لمثل هذه الحالات.

مال الطبيب على المكتب، وكتب بالإنجليزية على ورقة رمادية اللون، دفعها نحوه قائلًا:

= رقم حجرة الفحص مسجل على هذه الورقة، أنا في انتظارك.

تعرف فؤاد على الحجرة بسهولة، لكنهم لم يسمحوا له بالدخول إلا بعد سداد مائة وعشرة جنيهات. سأله الرجل الذي يرتدي بالطو أبيض:

= ما مشكلتك يا حاج؟

= الخلف يا دكتور.

= إجلس هنا.

أجلسه على مقعد عال أمام جهاز بثلاث عيون تبرق في وجهه، ثم أطفأ أنوار الغرفة فغرقت في عتمة بددتها العيون الثلاثة للجهاز. بعد دقائق طلب منه أن يخلع السروال ويجلس ساكنًا دون أن يتنفس لمدة خمس ثوان فقط. أضاء الأنوار ثانية وأشار إليه أن يجلس في الخارج انتظارًا للتقرير. بعد دقائق نادى أحد الممرضين وأعطاه التقرير وطلب منه أن يصطحبه للطبيب. سارا إلى الطبيب دون أن يعطيه الممرض الفرصة للاطلاع عليه. قرأ الطبيب التقرير وهز رأسه استحسانًا، وقال في هدوء وثقة:

= بداية عظيمة، سوف نبدأ العمل الجاد فورًا.

قام الطبيب وفتح صيدلية صغيرة معلقة على الحائط، انتقى منها علبة صغيرة زرقاء قدمها لفؤاد قائلًا:

= هذه العلبة هديتي لك، به زجاجة فيه خمس حبات، خذ واحدة يوميا قبل العشاء بساعة، بعد خمسة أيام تعال لنبدأ الأبحاث.

    عاد فؤاد سيرا على قدميه وهو يكاد يطير من السعادة، خصوصًا لما قرأ على العلبة سعرها "ثمانية وسبعون جنيهًا". عندما رجع بعد الأيام الخمسة فضل أن يستمتع بالسير، هناك بدأت الأبحاث، معظم التحاليل تتم في المجمع الخيري، الأسعار نار، لكنه مجمع خيري يستفيد منه كل الناس، وخدماته تقدم مجانًا للفقراء، هكذا يقولون دائمًا. الأشعات بعضها يتم في المجمع، والبعض يتم في مركز خالص قريب، ويتم التحويل إليه على تذاكر مرقمة تحمل اسم المركز، يحتفظ الطبيب بدفتر منها. ستة شهور اعتاد فؤاد خلالها على السير عابرًا جسر السكة الحديد، فحفظ الطريق، وحفظه أصحاب المحال وباعة السجائر والمشروبات الباردة، الكيس البلاستيك لا يفارقه، تحت إبطه دائمًا، يتضخم يومًا بعد يوم، لم يعد في حياته غير المجمع الخيري. يذهب إلى عمله في الصباح، فيقضي نصف النهار في الحديث مع الزملاء والزميلات عن تطور العلاج، في المساء ينطلق إلى المجمع الخيري، يدور على كل الأقسام، حتى أصبح وجهًا مألوفًا للأطباء والممرضين والإداريين. الجميع يعرفون حكايته ويدعون له أن يطعمه الله بالولد، زوجته تلح عليه منذ شهر أن يكف عن بعثرة الفلوس، قالت له وهي تبكي:

= أنا زهقت، لا أريد عيالَا، أنا لا أراك إلا ذاهبًا أو راجعَا من المجمع الخيري.

يصبرها فؤاد:

= هانت.

فتصرخ:

= تضيع فلوسك ووقتك يا فؤاد، حرام عليك.

بالأمس ألقى الطبيب في وجهه بالقنبلة في وجهه فلم تنفجر، قال له:

= غدًا سوف نعقد اجتماعًا لمناقشة حالتك، ونبلغك بالقرار النهائي بإذن الله.

    بات فؤاد يتقلب على جمر النار، خطواته اليوم ثقيلة، شيء ما كبله كأنه نسي فرملة اليد مشدودة، ماذا يكون مصيره؟ هل يتحقق الحلم فيطول السحاب، أو يتبدد فيلقي بالكيس المنبعج بالتقارير، ويأخذ طريقًا غير الذي ألفه؟ أكياس الرمل تثقل ساقيه، وتجعله يجرجر قدميه، يكاد يعجز عن صعود درجات السلم القليلة إلى ساحة المجمع الخيري، تذكر إلحاح أمه وتشجيع أصدقائه وصرخات زوجته وحلمه بولد يملأ الدنيا صياحًا. قالت له زوجته قبل أن يبدأ رحلة اليوم:

= صرفنا دم قلبنا على الحكما، ثلاثة آلاف جنيه قبل المجمع الخيرى وثلاثة آلاف وستمائة في المجمع الخيري، ولا فائدة.

رد عليها وهو شارد ذاهل العينين:

= سنعرف اليوم قبل أن تغيب الشمس.

فؤاد لا يصدق أنها تصرفه عن العلاج، هل هذا معقول؟ حفيت أقدامهما من السير لزيارة الأطباء ومعامل التحليل ومراكز الأشعة، هل ينسى حلمها بالولد؟ وهل تنسى؟ عندما كانت ترفع يدها ورأسها نحو السماء وتتضرع باكية، يا رب حتة عيِّل يجعل للحياة معنى، اسكت يا ولد، غلبتني معاك، لا، لا يصدق أنها زهقت، وهي التي كانت تبوس يده عندما تستشعر بادرة يأس تلم به، تلح عليه ليقوم معها، لا يصح أن أذهب وحدي يا فؤاد، ويذهب فؤاد معها دائمًا، لم يدع اليأس يلتهمه، كسر أنيابه، واليوم تأتي لتقول له كفاية، حرام عليك، صرفنا دم قلبنا على الحكما، ليس لك حق يا أم العيال الآتية، أكيد خوفك هو السبب، تخافين أن يصدمني الطبيب بما يحزنني، تخافين عليّ، كم أحبك، وأحب صبرك وتشجيعك، هل تؤهلين نفسك لأسوأ الاحتمالات، لتقدري على الاحتمال، اليوم نعرف ونرتاح، رغم القلق وألم الانتظار، الفرج قادم، تماسكي وأنا يجب أن أتماسك، وأشد قامتي، ألتمس الفرج.

    انهد فؤاد على مقعد في صالة الانتظار، شعر بوخز كالمسامير في فخذيه، فانت واقفًا، لكنه فضَّل وخز المسامير على وخز أسياخ القلق تتقاطع في رأسه فجلس. انتظر حتى حل الموعد فلم يقدر على القيام، حاول فخذلته ساقاه، أدرك أنه لن يحتمل قرار الأطباء حتى لو في صالحه فغفا، ثم أفاق على صوت الممرض يدعوه لمقابلة الطبيب المعالج، تعجب الرجل من حركة فؤاد المتثاقلة فصاح به:

= مالك يا أستاذ فؤاد، صحصح، مجبور بإذن الله.

    نهض الطبيب واقفًا وهو يستقبل فؤاد ويجلسه على مقعد أمام مكتبه، لم يتكلم فؤاد، الكيس المنبعج يطل من تحت ذراعه الأيسر. صمت الطبيب لحظة ثم استجمع صوته النحاسي المحايد، وقال بحسم:

= أنا آسف يا أستاذ فؤاد، العلم عاجز عن مساعدتك، حاولنا كثيرا، لكن بلا فائدة.

    ساخ فؤاد في مقعده، حاول القيام فلم يقدر، ظن أن الكيس المنبعج يعوق حركته، فألقاه على الأرض، تبعثرت محتوياته، استند بكفيه على ذراع المقعد، فاندفع واقفًا، استدار ببطء نحو الباب، لكن الطبيب عاجله قائلًا:

= لا تنس.. اذهب إلى الخزينة، سيصرفون لك جنيهًا، ثمن التذكرة.


أقرأ أيضاً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق