القاهرة عاصمة مصر، لم تكن عند تأسيسها على يد القائد الفاطمي جوهر الصقلي مدينة للشعب، بل كانت عبارة عن كمبوند حكومي أرستقراطي، وفقًا لمسميات عصرنا الحالي.
وفي المقابل كان الشعب يعيش في مدينة الفسطاط (حي الفسطاط حاليًا بمصر القديمة)، تلك المدينة التي أسسها الفاتح عمرو بن العاص عام 20هـ – 641م، والأحياء التي انضمت إليه وصاروا يسمون مجتمعين بمدينة «مصر».
فارق كبير بين هؤلاء وأولئك، في شكل المعمار ومظاهر الحياة، في طبيعة البيوت، والمرافق العامة، والأحوال المعيشية عمومًا؛ فالقاهرة كانت منتجعًا من القصور، بينما كانت الفسطاط مدينة ضيقة الشوارع، مظلمة حتى بالنهار، ذات مبانٍ متعددة الطوابق، متلاصقة، وقد يصل ارتفاع المبنى إلى 14 طابقًا، حتى كانت تبدو لناظرها البعيد كالجبل، لارتفاع مبانيها وتلاصقها.
ويفصل بين المدينتين (مدينة السلطة ومدينة الشعب) بساتين وأراض شاسعة، في تعبير عن الهوة الاجتماعية والاقتصادية، والأهم الهوة السياسية بين الطرفين… في مظهر معماري يعبر بوضوح عن مصطلح الخواص في مقابل مصطلح العوام، وفقًا لأدبيات القرون الوسطى.
في هذا المقال نوضح كيف كان العمران وما يتبعه من مرافق عامة ونظم معيشية، في القاهرة والفسطاط، تعبيرًا عن أحوال الناس (سلطةً وشعبًا) في ذاك العصر
الحكومه تهرب من الشعب
قبل بداية شرح هذه الفوارق، دعونا أولاً نستعرض بإيجاز التاريخ العمراني لمدينة القاهرة في القرون الوسطى، وميل الحكام باستمرار إلى الانعزال والتحصن بعيدًا عن الشعب المصري.
الفسطاط كانت العاصمة القديمة لمصر في العهد الإسلامي الأول، حيث أسسها عمرو بن العاص (20هـ -641م) كعاصمة جديدة لمصر، بديلاً عن الإسكندرية، العاصمة القديمة، ولم تكن وقتها الفسطاط مدينة للشعب، بل لإقامة الوالي وقواده، وجنوده.
واستمرت عاصمة خلال العهد الأموي وحتى بداية العصر العباسي، ومع الوقت صارت مدينة للشعب، وازدادت شعبوية حين أسس صالح بن علي العباسي مدينة «العسكر» شمال الفسطاط، عام 133هـ – 750م، كعاصمة بديلة، لإقامة الوالي العباسي وجنوده، ولهذا سماها المصريون بمدينة «العسكر».
ولم يكن مسموحًا لعامة الشعب أن يسكنوا بها، حتى جاء الوالي العباسي السري بن الحكم عام 201هـ – 816م، وسمح لعامة الشعب بالبناء فيها، فأقبلوا متهافتين على السكن بجوار مركز السلطة.
ومع الوقت ضاقت «العسكر»، نتيجة حصار قصر الحكم ببيوت الشعب، فكان لزامًا إعادة الفارق كما كان، وهروب الولاة من هذا الحصار العمراني الشعبي، فكانت «القطائع».
أقام أحمد بن طولون مدينة «القطائع» عام 256 هـ – 873م تقريبًا، كمدينة حكومية أيضًا، بها قصره المنيف الشاسع ومسجده الذي لا يزال قائمًا إلى اليوم، ومقرات للحكومة والجيش، وسميت كذلك لأنه قسمها لقطاعات، وفي كل قطاع أو «قطيعة» تسكن طائفة من جنوده، فهذه قطيعة للجند الروم، وهذه للسودان، وهكذا.
ومع الزمن تسلل الشعب للقطائع، وبدأت تلتحم بالفسطاط، حتى جاء الفاطميون وأسسوا عاصمة جديدة وهي القاهرة، ومكانها الآن ما يعرف بالقاهرة الفاطمية (شارع المعز، والجمالية والغورية وأجوارها).
ونلاحظ في كتابات المؤرخين وجود مدينتين، واحدة للشعب صارت تسمى مدينة «مصر»، وهي مجموع المدن القديمة التي صارت إلى حد ما متحدة. وربما ما زال المصريون يطلقون على «القاهرة» اسم «مصر» في عصرنا الحالي تأثرًا بهذا الماضي.
أما المدينة الأخرى (القاهرة) الأرستقراطية فكانت بعيدة عنها، ومحاطة بالأسوار، ويفصل بينها وبين «مصر» بساتين وحدائق وأراضٍ خالية.
ولم تتوحد مصر مع القاهرة ويصبحا مدينة واحدة للشعب إلا بعد بناء قلعة الجبل كمقر جديد للحكم، والتي بدأ بناءها صلاح الدين الأيوبي عام 572-579هـ /1171- 1193م فوق جبل المقطم، لتنظر على مدينة الشعب من أعلى، في مظهر يجسد علو السلطة فوق الشعب، شكلاً وموضوعًا.
وظلت مدينة الشعب تتوسع، والحكام يجلسون مستريحين في القلعة طيلة العهود الأيوبية فالمملوكية فالعثمانية، بعيدًا عن ضوضاء الشعب، حتى بدأ الحكام من أسرة محمد علي ينزلون من القلعة في القرن التاسع عشر ويبنون قصور الحكم المعروفة الآن.
مصر والقاهره: منتجعات وعشوائيات
نعود إلى مدينتي مصر والقاهرة في العهد الفاطمي، والفارق بينهما من الناحية العمرانية وبالطبع من الناحية السكانية، ولذلك دعونا نصف كلاً منهما على حدة.
القاهره: منتجع السلطه المحرم على المصريين
أول بناء شيده جوهر الصقلي في مدينة القاهرة الناشئة كان ما يعرف بالقصر الكبير، واستمر العمل في بنائه 4 سنوات، ليصبح سكنًا للخليفة الفاطمي المعز لدين الله، الذي لم يأتِ إلى مصر من عاصمته القديمة في تونس (المنصورية) إلا بعد اكتماله في 362هـ – 972م.
كان القصر يقع وسط المدينة الجديدة، يحيطه الفراغ من كل الجهات، يبدو لناظره من بعيد كأنه جبل، لكثرة ما به من أبنية مرتفعة، ولا يرى مبانيه من هم داخل القاهرة لارتفاع سوره، وكان يحرسه في كل ليلة ألف رجل، خمسمائة من الفرسان، ومثلهم من المشاة.
وكان له 9 أبواب، أكبرها وأهمها باب الذهب، ثم باب البحر، وباب الريح، وباب الزمرد، وباب العيد، وباب قصر الشوك، وباب الديلم، وباب تربة الزعفران، وباب الزهومة.
أنشئت بالقصر مجموعة من السراديب تحت الأرض لتسهيل انتقال الخليفة من مكان لآخر دون أن يراه أحد. وكان القصر مليئًا بالفسقيات (أحواض المياه)، والبساتين، التي نصبت عليها السواقي لريها.
احتوى القصر على خزائن مختلفة للجواهر والأموال وكل مستلزمات الحياة، حتى الكتب، حيث احتوى على أكبر خزانة كتب، ربما في العالم الإسلامي، أو العالم كله وقتها، وعلى كل خزانة موظف أو أكثر لتنظيمها.
كما احتوى القصر على دواوين الحكومة، والتي كانت تنقل في بعض الأحيان إلى قصور الوزراء.
كان القصر في أفخم صورة؛ جدرانه وأسقفه مليئة بالنقوش والرسوم الملونة، مرصعة بالذهب والأحجار الكريمة، أرضه مبلطة بأفخم أنواع الرخام، ويكفي أن نذكر أن النافورة الرئيسية وسط القصر كان الماء يجري منها وإليها في أنابيب من الذهب والفضة، وجداول وقنوات وأحواض مبطنة بالرخام الفاخر.
بلغت مساحة القصر الكبير حوالي 70 فدانًا، من مجموع مدينة القاهرة التي بلغت 340 فدانًا.
كانت القاهرة أيضًا سكنًا للوزراء والأمراء الفاطميين وكل المقربين من السلطة أو على درجة من الأهمية، فكانت المدينة مليئة بالقصور.
وكانت قصور الوزراء تحاول الاقتراب في فخامتها من القصر الكبير، فقصر الوزير يعقوب بن كلس مثلاً، وزير الخليفة العزيز بالله، كان يحتوي على الكثير من الأجنحة، وفي بعض الأحيان نقلت إليه دواوين الحكومة، فكان به ديوان للخليفة نفسه، وديوان للجيش، وأخرى للأموال وللخراج والإنشاء والمستغلات، وغيرها.
وكان به بالطبع أجنحة لسكن الوزير، وأخرى لنسائه وغلمانه، وحجابه، وكانوا كثيرين، فقد بلغ الغلمان فقط حوالي 4 آلاف.
عرف قصر يعقوب بن كلس بـ”دار الوزارة»، فلما جاء الوزير بدر الجمالي انتقل إلى دار أخرى أنشأها في حارة برجوان، سماها «دار المظفر»، وتحول القصر القديم إلى مصنع لنسج الحرير، وعرف بدار الديباج.
كما بنيت دور أخرى بعد ذلك للوزراء، منها مثلًا الدار المأمونية، وهي القصر الذي بناه الوزير المأمون البطائحي، ومنها قصر العباس بن باديس الصنهاجي في حارة الأمراء، وكذلك قصر الصالح طلائع بن رزيك، وغيرها.
وجميع هذه القصور كانت غاية في الفخامة والأرستقراطية، إلا أنها بالطبع لم تكن مثل القصر الكبير.
وبجوار قصور الوزراء كانت قصور رجال الدولة، ومعظمها كانت تتكون من خمس طوابق أو ست، فخمة ومترفة، لكنها بالطبع أقل من قصور الوزراء، وكانت تحاط بالأسوار والحدائق.
جميع الدور والقصور كانت منفصلة عن بعضها (فيلات مستقلة)، لا يتلامس شجر دار منها مع شجر سور دار أخرى. وتميزت هذه الدور والقصور بأن الحدائق لم تكن تحيطها فقط، بل كانت أسطحها عبارة عن حدائق هي الأخرى، مملوءة بالورود والأشجار، فكانت القاهرة تبدو لمن يراها من فوق جبل المقطم كبستان فوق هضبة.
أما شوارع وأزقة المدينة فكانت في منتهى النظافة، ينظفها العمال يوميًا، خاصة أيام الحاكم بأمر الله، الذي زاد المدينة بهاءً بأمره بتعليق المصابيح ليلاً على جميع المباني، فأصبحت كل شوارع المدينة منيرة ليلاً.
كل ما سبق كان محاطًا بسور وبوابات، بناها جوهر الصقلي، ثم وسعه وجدده بعد ذلك بدر الدين الجمالي.
وكان العمال الذين يقدمون الخدمات، يأتون من مدينة مصر يوميًا إلى القاهرة في الصباح، وينصرفون ليلاً، ولم يكن مسموحًا لأي مصري أن يبيت بالمدينة أو يستمر مكوثه بها بعد صلاة العشاء.
مصر: عشوائيات مظلمه حتى بالنهار
كانت مدينة مصر كما الأحياء العشوائية في عصرنا؛ فالبيوت كانت متلاصقة متراصة بجوار بعضها بعضًا، مرتفعة جدًا بمقاييس هذا الزمان، أقل بناء فيها يتكون من 5 طوابق، ويرتفع حتى 14 طابقًا أحيانًا، ولم يمنع ذلك من وجود بيوت -لكنها قليلة- تتكون من طابق واحد.
وكانت الشوارع مزدحمة بالسكان، ضيقة، متعرجة، بها الكثير من المنحنيات، وتتفرع منها أزقة أشد ضيقًا، وكان من عادة أهلها إلقاء القمامة بها، إضافة إلى ما يموت من حيوانات كالكلاب والقطط.
وأدى هذا الضيق مع ارتفاع المباني إلى حجب ضوء الشمس بشكل كبير عن الشوارع، حتى صارت مظلمة يضطر أهلها إلى إضاءة المصابيح نهارًا.
كما مثلت الارتفاعات مشكلة في وصول مستلزمات المعيشة إلى الطوابق العليا، فكان الحمالون يصعدون إلى الطوابق العليا بمستلزمات الحياة وخاصة مياه الشرب، وكلما ارتفع الطابق كلما زاد ذلك من تكلفة إيصال المياه، فكان كل طابق يزيد ثمنه عن الذي سبقه بنصف دانق (مكيال إسلامي) في الغالب.
حوائط البيوت الخارجية كانت مبنية بالحجر والآجر، ومن الداخل كانت تقسم بالطوب الأحمر المكسو بالمِلاط، وكل طابق كان يتكون في الغالب من فناء مستطيل تحيط به الغرف وفي وسطه فسقية ماء، وفي إحدى جوانبه أحواض تزرع فيها الأزهار والرياحين.
أما أسطح المنازل فكانت كالقصور مزروعة بالورود والأشجار، حتى أن رجلاً أحضر عجلاً صغيرًا ورباه فوق سطح المنزل، وحين كبر وقوي جسده، نصب على السطح ساقية وعلقه فيها ليديرها، لرفع الماء من بئر الماء الملحق بالمنزل ليروي الزرع فوق سطحه.
وكانت المياه –غير النظيفة- تخزن في بئر خاص بكل منزل، ويستعمله الأهالي في كل شيء فيما عدا الشرب، أو يمكن أن يشربوا من مياهه ولكن بعد تنقيتها.
كانت المياه تصل لهذه الآبار عن طريق شبكة من القنوات والسراديب متصلة بالبِرَك الكبيرة (جمع بِرْكَة)، المتصلة بدورها بالخليج المصري، والذي تأتيه المياه من النيل وقت الفيضان، فتمتلئ الآبار وقت الفيضان ويظل منسوبها يقل تدريجيًا، وقد تجف تمامًا، ثم تمتلئ وقت الفيضان الجديد.
فيما يتعلق بالمياه والنظافة وقضاء الحاجة كان كل طابق بالمنزل -في الغالب- به مرحاض، ولكنه لم يكن يصلح للاستحمام، فكان الأهالي في الغالب يذهبون للحمامات العامة للاستحمام.
طبعًا، كان الوضع في القصور مختلفًا تمامًا، فقد كانت بها الآبار النظيفة، والسواقي التي ترفع المياه منها، وتصل في جداول رخامية وأنابيب معدنية (نحاس) إلى الحمامات الفخمة، التي كانت تحوي غرفًا للبخار، وبِرَكًا للاستحمام (مغطس).
لم تكن هناك مطابخ في البيوت الشعبية عادة، على عكس القصور بالطبع، فقد كان الأهالي يخافون من نشوب الحرائق بالمنازل نتيجة نيران الطبخ، وكانوا يحصلون على طعامهم من المطاعم التجارية.
أما عن ملكية المنازل في مصر فلم تكن متاحة للجميع، فقد كان هناك الإيجار بجانب التمليك، فكان المنزل أو الربع (مربع سكني مغلق كأنه بيت واحد لكنه كبير) يتكون من حجرات للإيجار، ويملك هذه البيوت الأثرياء، فيؤجرونها، أو يُسكِنون بها الفقراء كنوع من العمل الخيري.
وكان الخليفة الفاطمي وحده يملك 8 آلاف منزل يؤجرها للناس، ويتحصل على أجرتها شهريًا.
وصف مدينة مصر لم يكن شذوذًا عن مدن القرون الوسطى، التي لم تكن أفضل حالًا منها، بل إن المتأمل ليجد أنها كانت أفضل بكثير مما كانت عليه مدن أخرى.
بل إن ابن خلدون حين أتى مصر في 784هـ / 1382م، في العصر المملوكي، أي بعد العصر الفاطمي بأكثر من قرنين، وبعد أن صارت مصر والقاهرة مدينة واحدة، انبهر بها فوصفها كالتالي:
رأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي المُلك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الحوانك والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب في علمائه، قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء، ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق