من إبداعات أعمال المؤتمر العلمي لقسم اللغة العربية والنقابة الفرعية لاتحاد كتاب الغربية (8 مايو 2022م) (مسارات الأدب في وسط الدلتا)
أ.د. محمَّد سيِّد عليّ عبد العال (محمَّد عُمَر). (أستاذ الأدب والنَّقد- كليّة الآداب- جامعة العريش)
مَدْخَلٌ:
شغلَتْ قضيَّةُ الإبداعِ النّقدَ القديمَ منذُ فجره الأوّلِ، وكدّ النّقّادُ عقولَهم في البحث عن محفّزات الإبداعِ، أو دوافِعهِ، أو محَرِّضَاتِهِ، أو دواعيهِ، إلى آخر تلك المصطلحات التي تبحث عن إجابةٍ واحدةٍ: ما القوَّة التي تُلهم الشَّاعِر وتدفعه إلى قولِ الشّعرِ؟
وانتهى بهِم القولُ إلى أنّ ثمّة أسبابًا داخليّةً وأخرى خارجيَّةً، يمكننا تتبّعها بشكلٍ مباشرٍ في شِعر أحدِ الشّعراء المبرّزين في المشهد الشِّعريّ المعاصرِ؛ أعني الحسيني عبد العاطي، هذا الشَّاعِر الرّومانسيّ الذي أثرى الحركةَ الثّقافيَّةَ في الثّلاثينَ عامًا السّابقةِ، ولم تكنِ الدّراسَاتُ التي أُنجِزتْ حولَ شِعرهِ تكافئُ شعرَهُ وشعريَّتَهُ؛ ومن ثمّ كان هذا هو حافز هذه الدّراسة ومبعثها الأوّل في الكشفِ عن بواعثهِ ومحفّزَاتِهِ.
الشاعر الكبيرالأستاذ/ الحسينى عبد العاطى الرئيس الأسبق لنقابه اتحاد كتاب مصر بوسط الدلتا وابن كفرالزيات |
أولًا: الاستعدادُ الفطريُّ والبواعثُ الداخليَّةٌ:
- بواعث نفسيَّة وأخلاقيَّةٌ:
أُبادرُ فأُجيبُ -بعد استقراءِ شعرِ الحُسيني- بأنّ أولَ ما يلفتُ متلقّي شعره هو النَّزعةُ الإنسانيَّةُ؛ فهي أهمُّ ما يُميِّزُ شعر الحسيني عبد العاطي؛ التي تكشف عنها عناوين دواوينهِ:
1- أحزاني على القمر (ديوان بالعامية، مطابع "المقاولون العرب"، 1991م).
2- سنبلات الحلم (ديوان فصحى، سلسلة إبداع الحرية، 2006م).
3- طفل يمتشق النور (ديوان فصحى، سلسلة إبداع الحرية، 2006م).
4- كلام الناس (ديوان بالعامية المصرية).
هذه النّزعة تتجلّى أكثر في عناوين قصائده الدّاخليّة أيضًا، بل تتجلَّى في كل كلمات قصائدهِ، تجليها في كلِّ أفعالهِ، وهي قضيةٌ جدّ خطيرةٍ، يحسن لناقدِ شعرهِ الوقوفُ أمامها؛ بمعنى آخر يمكننا اكتشافُهُ من إجابة السُّؤالِ المُربكِ المُلغِزِ الذي حيّر المُتَلَقِّين للفنونِ ممّن آمنوا بنظريّة الانعكاسِ الأدبيّ بعيدًا عن مغالاة أفكار "لوكاتش" الماركسيّةِ، وإنّما المقصود الذي نتوجّهُ إليهِ هنا هو محور النّظريّة في كون الأدب انعكاسٌ لنظرة الأديبِ إلى قضايا مجتمعهِ وواقعهِ؛ فهو لا ينظر للمجتمع بمرآة مستوية، بل قد تكون محدبة أو مقعرة حسب طبيعة تكوينه الإنسانيّ والثّقافيّ.
ولعلّ نقدنا العربيّ القديم أكثر وضوحًا فيما نقصده هنا؛ يمكننا استنتاجه من قول ابن رشيق القيرواني (ت456هـ) فيما أوردهُ في بابٍ فريدٍ من كتابهِ: "العُمدة في محاسنِ الشّعرِ ونقدِهِ"، أسماه "باب في آدابَ الشَّاعِر"، يقول: "من حُكْمِ الشَّاعِر أن يكونَ حُلوَ الشَّمائلِ، حَسَنَ الأخلاقِ، طلقَ الوجهِ، بعيدَ الغَورِ، مأْمُونَ الجانِبِ، سهلَ النَّاحيةِ، وطِيءَ الأكنافِ، فإنَّ ذلكَ ممَّا يُحَبِّبُهُ إلى النَّاسِ، ويَزينُهُ في عيُونِهِم، ويُقرِّبُهُ من قلوبِهم، وليكُنْ مع ذلكَ شريفَ النَّفسِ، لطيفَ الحِسِّ، عزوفَ الهِمَّةِ، نظيفَ البَزَّةِ، أَنِفًا؛ لتهابهُ العَامَّةُ، ويدخلُ في جملةِ الخاصَّةِ، فلا تمجُّه أبصارُهُم، سمحَ اليدينِ، وإلَّا فهو كمَا قالَ ابنُ أبي فننٍ؛ واسمهُ أحمدُ:
وإنَّ أَحَقَّ النَّاسِ باللَّومِ شَاعِرٌ
يَلُومُ عَلَى البُخْلِ الرِّجَالِ وَيَبْخَلُ (1)
وكلَّما قرأْتُ، في الحقيقةِ، هذا النَّصَّ المُدهشَ لابنِ رشيقٍ (390-456ه) يأخذنِي العجبُ، وأتساءلُ عن نتيجةِ تطبيقِ هذهِ الأحكامِ على شُعرائِنا، بلْهُ أدباءَنا ومفكِّرينا وكُتَّابَنا، ونقَّادنا، ولعلّ هذه القضيَّةَ لم يُلْتَفَتْ إليها التفاتةً دارسةً فاحِصةً إلَّا متأخّرًا في النَّقدِ الثَّقافيّ؛ فقد صرِّحَ عبد الله الغذَّامِي في بدايةِ مشروعِهِ في النَّقدِ الثقافيِّ مُتسائلًا: "هل هناك أنساقٌ ثقافيَّةٌ تسرَّبتْ من الشِّعرِ وبالشِّعرِ لتؤسِّسَ لسُلوكٍ غيرِ إنسانيٍّ وغير ديمقراطيٍّ" (2).
ولم يكنِ النّقدُ بمنأًى عن هذهِ السُّبَّةِ الثّقافيَّةِ "لقد أدَّى النَّقدُ الأدبيُّ دورًا مُهمًّا في الوقُوفِ على جماليَّاتِ النُّصوصِ الأدبيَّةِ، وفي تدْرِيبنَا على تذوّقِ الجماليِّ، وتقبُّل الجميلِ النُّصُوصِيّ، ولكنَّ النَّقدَ الأدبيَّ، معَ هذا وبالرَّغمِ من هذا أو بسببهِ، أوقع نفسهُ وأوقعنَا في حالةٍ من العَمَى الثَّقافيِّ التَّامِّ عن العُيُوبِ النَّسَقيَّة المُختبئة من تحتِ عباءة الجماليِّ، وظلَّت العيوبُ النَّسقيَّةُ تتنامى متوسِّلةً بالجمالِيِّ الشِّعرِيِّ والبلاغيِّ حتَّى صارتْ نَموذجًا سُلوكيًّا يتحكَّمُ فينا ذهنيًّا وعَملِيًّا، وحتَّى صارتْ نمَاذجُنا الرَّاقيةُ بلاغيًّا هي مصادرَ الخَللِ النَّسقِيِّ. ولنأخذْ أمثلةً من أبي تمَّام والمتنبي وأدونيس ونزار قبَّاني؛ وهي أمثلةٌ على الجماليِّ الشِّعريِّ؛ وهي أيضًا أمثلَةٌ على الخلَلِ النَّسقيِّ"(3).
ولم يقع النَّاقدُ العربيُّ في حبائلِ اللّعبةِ المخاتلةِ، بل تورَّطَ في تأسيسِ قواعدِها كمَا ينقلُ إلينا حازمٌ القرطاجنيُّ (ت 684ه) عن الخليلِ بن أحمدَ (100-170ه): "الشُّعراء أمراءُ الكلامِ يُصرفونهُ أنَّى شاءُوا. ويجوزُ لهم ما لا يجوزُ لغيرهِم من إطلاقِ المعنى وتقييدِهِ، ومن تصريفِ اللَّفْظِ وتعقيدِهِ... واستخراج ما كلَّت الألسنُ عن وصفهِ ونعتهِ، والأذهانُ عن فهمهِ وإيضاحهِ. فيقربونَ البعيدَ، ويبعدونَ القريبَ، ويحتجُّ بهِم ولا يُحتجُّ عليهمْ، ويصوِّرونَ الباطلَ في صُورةِ الحقِّ، والحقّ في صُورةِ الباطِلِ"(4).
ولعلَّه التَّأويل الأقرب لفهم العلماءِ لحديث النّبي : "إنَّ من البيان لسِحرًا"، حين رأوا في ذلك تعليقًا على ما حدث بين الشُّعراءِ في حَضرةِ النَّبيّ ، على أَنَّ الرَّجلَ ببيانهِ، وحُسْنِ عِباراتهِ يَجْعلُ الحَقّ باطِلًا، والباطِلَ حقًّا، فهذا الَّذي يكسبُ من الأَوزارِ ببيانهِ ما يكسبهُ السَّاحِرُ بسٍحْرهِ"(5). وهوَ ما أودُّ الإشارةَ إليهِ؛ بمعنى أنّ الشّعر صورةٌ من صاحبِه في غالبِ الأحيانِ، ومِرآةٌ لصاحبِهِ أحيانًا، ولعلّ هذا التّصوُّرَ قريبٌ ممَّا لخّصهُ الأديب الفرنسيُّ "بوفون" في قولتهِ الشّهيرةِ: "الأسلوب هو الشّخصُ".
وقد توقَّفَ ابن طباطبا وحازمٌ القرطاجنيُّ وغيرُهما أمام تلك القضيّة، ولعلّ القاضي الجرجانيَّ (ت392هـ) يجملُ استعدادَ الشّعراءِ للشّعْرِ أو مكوّناتهم تكمنُ في القوّةِ الخفيّةِ التي ربطوها بقوّةٍ خارقةٍ فوق طاقةِ البشَرِ قد ترتبطُ بعالمِ الجنّ أو عالمٍ آخر ميتافيزيقيّ، والرّوايةِ؛ وهو ما نجملُه في قولنا: الموهبةِ والثّقافةِ.
بعد هذه المقدَّماتِ الضّروريَّةِ يحسنُ بي -وأنا ممّن يَعرفُ الحُسينيّ عبد العاطي إنسانًا في قرابةٍ تمتدُّ لقرابةِ رُبع قرنٍ- أن أُقاربَهُ بشعرِهِ.
وأُبادرُ أيضًا فأقولُ إنّ مَنْ يُدركُ الحسينيّ شاعرًا فسيجد انتصارًا لكُلِّ ما هوَ إنسانيٌّ في شعره وشخصهِ، ولعلَّ هذا ما حَفظ له هذه المكانةَ البارزةَ على خَرِيطةِ الشِّعر المصريّ والعربيّ، على قلَّةِ دواوينهِ المنشورةِ، كما أشرتُ آنفًا، ولإيثاره تقديمَ الآخرين على نفسهِ دورٌ في ذلكَ أيضًا.
فقد تلمَّسَ الحسينيُّ ما هو جوهريُّ على حِسَابِ ما هوَ زَائِفٌ ورَخيصٌ، وإنْ غَلَا طِلَاؤُهُ، وانبهرَ به السُّذجُ والسَّطحيُّونَ، ومَا أَكثرَهُم!
ففي قصيدتهِ:" ابكيني"؛ وهي قصيدَةٌ إنسانيَّةٌ تتحدَّثُ عن الموتِ والصداقةِ، ونلحظُ فيها استلهامَ رُوحِ كلٍّ منْ أبي العلاءِ المعرّيّ، وإيليَّا أبي ماضي في دعوَتِهما النَّاسَ إلى المحبَّة, وبدلًا من أنْ يصير الآخرون هم الجحيمُ؛ كما يقول "سارتر"، بل يَصِيرُ الآخرُ هو الأنَا في التحامٍ والتئامٍ، ولن أُفرّقُ هنا بين قصيدةٍ عاميّةٍ أو فُصحى؛ فهذا التفريق ليسَ محلَّ اهتمامنا في هذه الدّراسةِ.
ومن ثمَّ؛ فالتَّعالي الأجوفُ على القراءات النّقديّة الثقافية لشعرِنا العامي والسّعي إلى تهميشهِ هو محضُ تعصُّبٍ فنيٍّ، في أحسن الظّنونِ، ومجافاةٌ لروحِ المنهج العلميّ الصّحيح؛ فلم يعدْ من المقبولِ الدّعاوى القديمةُ بأنّ الغرض من دراسةِ الأشعَارِ العاميَّةِ مؤامرةٌ على الفصحى، وأنَّ الاحتفاءَ به دعوَةٌ إلى إحلالهِ محلَّ الشِّعر الفصيحِ؛ بل صارَتْ قِراءتهُ أَمرًا مُلحًّا بُغيَةَ الكشْفِ عن طبيعةِ الأنساقِ الثقافيَّةِ المُضمَرةِ وراءِ هذه النُّصوصِ التي هي أقربُ لرُوحِ المُجْتمعاتِ، وَأقربُ أيضًا إلى فهْمِ القيمِ التُّرَاثيَّةِ التي يرسِّخُها، والبنى الفلسفيَّةِ والاجتماعيّة بتمثيلاتها الكاشفة عن روحِ الجماعة من ناحيةٍ ورُوح الشَّاعِر ودوافعهِ ومحفّزاتِهِ من جهةٍ أُخرى.
فضلًا عمَّا تحفل بهِ من قيمٍ جماليَّةٍ، وصورٍ فنيَّةٍ، وتناصَّاتٍ كاشفةٍ عن ثقافةٍ المبدعِ التي قد يتسرَّبُ الفصيحُ منها في العاميّ والعكسِ؛ كما في قصيدته "إبكيني":
إبكيني... أبكيكِ
ما أنا إبن الأرض الطّين
والحكمه فى أصلي الموت
باستقبل وش الدنيا بصوت
وبودع وش الدنيا بصوت
إبكيني... أبكيك
ريحني بإيدك
ما هي إيدك إيدي
وإديّه إديك
ريحني عشان ما أصعبش عليك
خليني أبكيك
وابكيني
والدمعه تسيل جوايا
تحرر عيني
أبقى لي نايات
في عروقي
نغمه فى تكويني
الله
بتشيل الهم الكاتم نفسي
تشفيني
أتحرّر من جوايا
تحييني
إِبكيني
إِبكيني (6).
وإذا انتقلنا من الاستعدادِ الفطريّ الذي يمثّل باعثًا جَوهريًّا، ومُحفّزًا ملحًّا إلى البُعدِ الثَّقافيّ؛ فإنّهُ سيَتبادرُ إلَى أذهانِنَا في تدَاعٍ تلْقائيٍّ المَحْفوظُ والمُمتصُّ في الذَّاكرةِ الشِّعريَّةِ والمدوَّنة العربيَّةِ المُشعرنةِ قولَ أبي العلاءِ المعرِّيّ (363 هـ-449 هـ):
خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الأرْضِ..
إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ
وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْـــدُ..
هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ
سِرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيدًا..
لا اخْتِيالًا عَلى رُفَاتِ العِبادِ
رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مرارًا..
ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ
وقد تستدعي هذه الذّاكرةُ أيضًا قول إيليَّا أبي ماضي (1889-1957م):
نسِيَ الطِّينُ ساَعَةً أنَّهُ طِينٌ..
حَـقِـيـرٌ فَـصَـالَ تَيْهًا وَعَرْبَدْ
وَكَسَى الْخَزُّ جِسْمَهُ فَتَبَاهَى..
وَحَـوَى الْمَـالَ كيـُسهُ فَـتَمَرَّدْ
يَـا أَخِي لاَ تَمِـلْ بِـوَجْهِـكَ عَنِّي ..
مَا أَنَا فَحْمَةٌ وَلاَ أَنْتَ فَرْقَدْ
أَنْتَ لمَ ْ تَصْنَعِ الْحَرِيرَ الّذي تَلْـبـَسُ..
وَاللُّؤْلُؤَ الّذي تَتَقَلَّدْ
أَنْتَ لاَ تَأْكُلُ النُّضَارَ إذَا جُعْـتَ..
وَلاَ تَشْرَبُ الْجمَانَ الْمُنَضَّدْ
أَنْـتَ في الْبُرْدَةِ المُوَشَّاةِ مِثْلِي..
في كِسَائِي الرّدِيمِ تَشْقَى وَتسعدْ
لَكَ في عَالَمِ النَّهَارِ أَمَانِي..
وَرُؤًى وَالظلاَمُ فَوْقَكَ مُمْتَدْ
وَلِقـَلْبِي كَمَا لِقَـلْـبِـكَ أَحْلامٌ
حِسَانٌ فَإنَّـهُ غَـْيرُ جَلْمَدْ
أَأَمَانِيَّ كُلُّهَا مِنْ تُرَابٍ..
وَأَمَانِيكَ كُلُّهَا مِنْ عَسْجَدْ
ومن خلال هذا الامتصاص يمكننا أن نصل إلى النّصّ الخفيّ الذي يتسرّب في شرايين النّصّ الظّاهرِ؛ فيحوّلهُ من نصٍّ مصريّ إلى نصّ عربيّ، ومن نصّ معاصر يعالجُ مشكلةً آنيّةً إلى نصّ عابرٍ للأزمنةِ، ومن نصٍّ يعالجُ قضايا ذاتيّةً إلى نصٍّ يعالجُ قضيّةً إنسانيّةً وجوديّةً.
- الحُبُّ:
من الدّوافعِ النّفسيَّةِ في شعر الحُسينيُّ الحبُّ بوصفه دافعًا ذاتيًّا داخليًّا.
ذكرتُ في دراسَةٍ سَابقةٍ: إنَّ الحُسيني عبد العاطي شاعرٌ قضيّتُهُ الحُبُّ؛ وهو رجلٌ دينهُ الحبُّ، وشِعرهُ كلُّهُ دعوةٌ لِلحُبِّ، ولنقفْ إلى إهداءِ ديوانهِ: "سُنبلات الحلمِ" الذي اكتنزتْ فيه رؤيته الشّعريّةُ، ومحفِّزَاتُ ديوانِهِ كُلِّهِ:
لَكَ الحُبُّ يَا نَهْرُ دُونَ الشَّبِيهِ
لَكَ القَلْبُ دَوْمًا فَعِشْ أَنتَ فِيهِ (7)
وإن كان الإهداءُ؛ كما يرى نقّادُ السِّيميولُوجيا، يمثِّلُ وظيفةً تداوليَّةً، وبقدرِ الاحترافيَّةِ التي يصِلُ إليهَا الشَّاعِرُ، تتكشَّفُ درجاتُ التَّواصُلِ بينَهُ وبينَ المُتَلَقِّينَ؛ لذا يمثِّلُ هذا البيتُ المفردُ/ الإهداء، من بحرِ المتقاربِ، المكسُورِ الهاءِ فى رويِّهِ، إطارًا فنيًّا أيضًا للدِّيوانِ، أو كما يسمَّى في السَّرد الحكايةَ الإطار التي تُصبُّ فيها كلُّ الحكاياتِ.
يُثيرُ هذا الإهداءُ التَّساؤال الآتي: إلى من يتوجَّه الإهداءُ هُنا؟؛ فنحنُ أمام ثلاثة أبطالٍ متصارعينَ لنيل شرفِ القرابة التَّواصليَّةِ، والاستحقاق للإهداءِ: "الحبّ، القلب، النَّهر".
وبتفكيرٍ ورويَّةٍ نجدُ أنَّ الإهداءَ للقلبِ أقربُ، في حين يتراجعُ الحبُّ والنَّهر في الخلفيَّةِ، ويصيران بطلينِ مساعدينِ، دون وجود للبطلِ الضِّدّ، بل يقوم كلٌّ منهما بدور البطل المساعد الذي يشرئبُ لينالَ حظوةَ البطولةِ، وشرفَ الإهداءِ.
من هنا نجحت احترافية المبدع الحُسَينِيّ عَبْد العَاطِي في وضعِ بصمَةِ شخصيَّتهِ الإبداعيَّةِ، واختزال رؤيته الفنيَّةِ ومفهومه للشِّعر والحياة في هذا الإهداءِ.
وينتقلُ النَّهرُ، فجأةً، من الهامشِ إلى المتن؛ كما انتقل من الغيابِ إلى الخطابِ في الاعتراضِ بالنّداء: "يا نهرُ"؛ فالنِّداءُ جاءَ، هُنا، لتفسيرِ الضَّمير "لك"، وذوبانِ الإنشاءِ في الخبرِ والاستفهامِ المُضمَر في الإجابةِ المتدفِّقةِ.
وقد فكَّ الاعتراضُ شِفرةَ النَّصِّ، وجعل النَّهر في دائرة الضَّوء، وكأنَّهُ يبدأ بموروث القُوَّةِ الذي تركهُ له الشُّعراءُ من الإطارِ الشعْريّ الموروث، ثمَّ ينتهي به الأمرُ إلى الانكسارِ والتَّسليمِ للواقعِ؛ فيصيرُ تابعًا لا متبوعًا، وآخذًا لامأخوذًا منهُ؛ فالنَّهرُ هو المدعو –هنا- للعيشِ في القلبِ، لا أن يستمدَّ القلبُ منْهُ، إنَّه صارَ رافدًا، والقلبُ هو المنبعُ أو المصبُّ، والحبُّ هو الهَديةُ المهداةُ، والماء المتدفّق دومًا من القلب الثّرّ القادر على إمداد الآخرين بشُريانِ الحُبِّ وسرِّ الحياةِ.
ومن ثمَّ؛ امتلك بيتٌ واحدٌ موزونٌ مُقفًّى مصرّعٌ كلَّ أدواتِ التَّواصلِ الشّعريّ؛ فتجعلنا موسيقى المُتقاربِ: "فعولن فعولن فعولن فعولن" المتقاربة الأسباب والأوتاد نرقص طربًا ربَّما دون أن نُمعنَ التَّفكيرَ، ونتعمَّقَ الفكرةَ ؛ لما يأخذنا من نشوةِ الإيقاعِ السَّريعِ.
وبالنّظر لِلصورةِ؛ فالخيال المَعكوسُ المُتَضَافرُ معَ الخَيالِ المَنفيّ يُسيطرُ عليها؛ فالنَّهرُ هنا هُو المَدعوُّ للعَيشِ في القَلبِ، ولا يستمدُّ القلبُ منْهُ، والتَّضافر معَ النَّفي يأتي في هذا التَّشبيهِ المَنفيّ "دون الشَّبيهِ" وهما من أندرِ الصُّورِ الشِّعرِيَّةِ في الموروثِ الشّعريّ، والمُعاصرِ أيضًا؛ أعني الصُّورَ الشِّعريَّةَ الحقيقيَّةَ لا المفتعَلَةَ.
امتلكَ هذا الإهداءُ كلّ مقوِّماتِ المُوسيقا الطَّربيَّةِ التي تبشّرُ دومًا بِمَوهبةٍ فِطريَّةٍ صدقَ المَوهبةِ وأصالتِها، وزادَهُ التَّصويْرُ في أعلَى درجاتِهِ الكفاءةَ الخياليَّةَ المشهودَ لها عندَ العربِ من حيثُ التَّشبيهُ المعْكُوسُ، والمَنفيُّ، وتَضَافُرُ الخَبرِ بالإنشاءِ والاعتراضِ مع السِّياقِ، والتَّرصيع: "لكَ الحُبُّ"، "لكَ القلبُ "، مع التَّصريع: "دون الشَّبيهِ"، "أَنتَ فيهِ"، مع الإيقاع: "فعولن" التَّامة الأسبابِ والأوتادِ، والأمرِ: "فعِشْ"، معَ النِّداء: "يا نهرُ"، والتَّوكيدِ اللفظيِّ: "أنتَ"، مع الإيجاز بالقِصَر: "دون الشَّبيه"، وتوزيع الفاء مع القافِ والشّين والهاءات الثَّلاث الموسومةِ بالثّقل، مع حروفِ المدِّ والنَّبر والتَّرخيم في عذوبةٍ وسلاسةٍ.
يُؤكِّدُ كلُّ ما سبقَ تجذُّر حساسيَّةِ اللُّغَةِ، والإيمان بعبقريّتها، وهوَ مع كلّ ذلك بعيدٌ تمامًا عن النَّبرة الخطابيَّة التي تسِمُ شعراءَ المنتدياتِ الثَّقافيَّة. ولذا نوجّه احترامَنا النَّقديّ لكلّ من وصف شعرهُ بالحميميَّة على مستويي التَّلقِّي: "المسموع، والمقروء"، وبخاصَّة شعرهُ المهموسُ، ويمكنُ أن نتوقَّف أمامَ قصيدتينِ للشَّاعر في هذا الدّيوانِ للوقوفِ على ملامحِ البناءِ الفنِّيّ والموضوعِيّ في تجاربهِ الشِّعريَّة، وسوف أمعنُ الحديثَ في الفنِّ.
الإحساسُ الموسيقيّ الفطريّ الموروثُ:
في قصيدتهِ الأُولى: "هي الباقياتُ" يأتي البناءُ المُوسيقيُّ في تنوُّع مدهشٍ ومثيرٍ؛ إذْ تأتى الأبياتُ الثلاثةُ الأولى على الوزنِ الخليليِّ موزونة مقفَّاةً على التّاء المَكْسُورَةِ، ثمَّ تأتي الأبياتُ الثَّلاثة التَّاليةُ لها من المتقاربِ أيضًا، ولكنْ مع الحاء المَكْسُورَةِ، وإن وقع في السِّنادِ في البيت الأخيرِ؛ فجاءت الحاءُ مضمومةً، والكسر هو المتبعُ، ثم يأتي بيتٌ مفردٌ وشطرٌ واحدٌ على طريقَةِ التَّوشيحِ على قافيةِ القافِ الصَّعبَةِ، ثمَّ ينطلق من أسر القافية الموحَّدة وعدد التَّفعيلاتِ الموروث، وينطلقُ مع شعر التفعيلةِ "فعولن " حتى آخر تفعيلة "هي الباقياتُ "التي تأتى ختامًا للُّغْزِ الموسيقِيّ والمعنوِيّ معًا.
أمَّا اللُّغز الموسيقِيُّ فهو إجابةٌ على سؤالٍ اتّهامِيٍّ يوجَّه إلى شُعراء التَّفعيلةِ؛ وهو: لماذا لا تكتبون الشِّعر العموديَّ؟ وتكون الإجابةُ المضمرةُ في نفسِ السَّائلِ هي العجزُ عن مواكبتِها أو القدرة عليها، ولكنَّ شاعرَنا يردُّ ردًّا عمليًّا داخلَ البناءِ الموسيقيّ للقصيدةِ، فيأتي بالأبياتِ الموزونة المقفَّاةِ مع تغيير القافيةِ وثباتِ البحرِ، ثمَّ ينعطفُ على أعسَرِ قوافي الشِّعر تقريبًا منطلقًا، وقد أجابَ على السُّؤال عملِيًّا وفكّ شفرة اللُّغز الموسيقيِّ.
أمَّا اللُّغزُ المعنويُّ فهو أعمَقُ لطبيعةِ المعانِي التي يتناولها الحُسَينِيّ عَبْد العَاطِي، وهو ما يمكن تسميتهُ "السَّهلَ الممتنعَ"، أو "القريبَ المُمعنَ في البُعدِ"؛ فالسُّؤال المَعنويُّ المُلحُّ من أوَّلِ القصيدَةِ، ومن العتبةِ الأولى لها؛ أقصد العنوان: "ما هيَ الباقياتُ"؟ التي ورد ذكرها على رأسِ القصيدةِ، ونظلُّ في شوقٍ وترقُّبٍ حتَّى تأتِيَنا إجابتهُ شافيةً لنفوسِنا، ومحبطةً لثقتِنَا المُتعاظمَةِ في أنفسنا عندما يأتي الختامُ بتكرار المطلعِ نفسهِ في قولِهِ:
فعيشٌ بعزةِ نفسٍ تكُونُ
وإلاَّ فَضَبْحٌ منَ العادِياتِ.
ثمَّ ينتقلُ إلى استفهاماتٍ متتابعةٍ، ونتساءلُ: ما قيمةُ الجُملةِ الخبريَّةِ المقطوعةِ عن سياقِها هُنا؟
فتأتينا الإجابةُ في النِّهاية على طريقة التدوير الذي يبرع في استخدامه؛ ويأتي عادةً عندهُ على طريقةٍ تشبهُ أقفالَ الموشَّحات التي تكون ختامًا ومطلعًا للدَّور التَّالِي في الوقتِ نفسِه:
فعيشٌ بعزةِ نفسٍ تكُونُ
وإلاَّ فَضَبْحٌ منَ العادِياتِ.
هِيَ الباقيات (
ولعلَّ الإجابَةَ تحتَ أعيُنِنا منذُ البدايةِ، ولكنَّنا غفَلنا عنْها، اعتِقدْناها جُملةً ضالَّةً، أو تائهَةً، كما تتوهُ منَّا الحقائقُ دومًا، في الوقتِ الذي قد تكونُ فيه أمامَنا، ونُمعنُ في التَّسَاؤلِ عنها، ونغرقُ في اتِّهام الآخرينَ تعاظُمًا وكبرياءً وغُرورًا؛ فتأتينا الإجابة لتزلزلَ هذه الثقةَ، وتعيدُ ترتيبَ الذَّاتِ وفقَ أفُقِ من التَّوقع جديدٍ، يرضخ فيه المُتَلَقِّي أمام الشَّاعِر متقبلًا رُؤياهُ.
وعادةً ما يكسبُ ثقتَنا الشَّاعِرُ الذي يكسرُ أفقَ التَّوقُّعِ فينا؛ لأنَّهُ يحطِّمُ غرُورَنا، ولكنْ بشاعريَّةٍ أخاذةٍ، وحبٍّ حنونٍ دون تعالٍ وإيلامٍ، ويأْتِي التَّدويرُ في التَّفعيلَةِ لربطِ الأسطُرِ الشِّعريَّةِ والدفقات الشعورية، ويعتمدُ عليه أيًضا على مستوى البيتِ الكاملِ؛ فيُحدث تماسكًا نصيًّا ودلاليًّا.
يقودُنا هذا الإحساسُ الموسيقيُّ إلى تفعيلِ هذه النَّتائجِ في البناءِ اللُّغوِيِّ والخيالِيِّ للنَّصِّ؛ فنجدُ الدَّهشةَ تغمرنا أكثر وأكثر عن طريق لعبةِ التَّناصِّ التي يلعبُها مَعَنَا النَّصُّ في تَمازُجٍ وانسِجَامٍ يُضْمِرانِ حَميميَّةً وأُلفةً وراءَ النَّصِّ؛ وهي شَخْصيَّةُ النَّاصِّ نفسهِ؛ فالتَّعبيراتُ الجاهزةُ تُسيطِرُ على بنيةِ النَّصِّ كُلِّهِ، ولنتمثَّلْ ببعضٍ منها ونتركْ الباقي لفطنةِ القارئ؛ مثل: (عِزَّة نفسٍ، ضَبحٌ منَ العادِياتِ، نرقبُ الفَجرَ، نحيَا نفكِّرُ، المَوْتُ يطغَى، أشجارُنا الباسقاتُ، أيُّها النَّائمون الكُسالَى، نور الصَّباحِ، ثخين الجِراحِ، الأرضُ تبكِي، أرضُ العرُوبةِ، ديارٌ تئنُّ، فجرِّدْ حُسَامَكَ، أنَّى تشَاءُ، وفكّ الوثاقَ، فهُمْ قد أرادُوا، حمًى مُستباحًا، نصُّ الوصيَّةِ، رأسُ الضَّحيّةِ، تموتُ القضيَّةُ، أَيُّها الماردُ، فُكَّ الإسارَ، واركضْ برجلكَ، إذا الفجرُ لاحَ، لتنفضّ عنَّا غُبارَ المواتِ، تجرى دماؤُكَ، تُحيي القلوبُ، إلخ).
- ثانيًا: البواعثُ الخارجيَّةُ والثَّقافةُ المُكتسبةُ:
الثّقافةُ اللّغوِيَّةُ والنَّقديَّةُ:
من المؤثراتِ الواضحةِ -في شعريّة الحسينيّ عبد العاطي- ثقافتُهُ اللُّغويَّةُ والنّقديَّةُ المعقّدةُ مع بساطتِها الظّاهِريّةِ؛ مِمَّا يعني أنَّها وصلتْ لمَرحلةِ الامتصاصِ والتّشرّب في شرايين ثقافتهِ التي يصعبُ تتبُّعها واستخراجها وتدقيق النّظر فيها، وفصلها إجرائيًّا لبحثها وفحصها وتحليلها يشبهُ جهدَ من يفصل مكوّنات بلازما الدّم لفحصها.
تُمثِّلُ التَّعابيرُ والصُّورُ أكثرَ من ثُلثَي مبنَى القصيدةِ المدرُوسةِ هنا؛ فكلُّها مألوفةٌ لنا جميعًا، ولها في تراثنا الشِّعريِّ ما يمثِّلُ إطارًا شِعريًّا موروثًا؛ فأبو حيان التَّوحيديّ (310-414هـ) يُحدِّثنا في "الهَوامِل والشَّوامِل" عَن عِزَّةِ النَّفسِ التي تمنعُ الإنسانَ من التَّذلل، ويتوَقَّفُ عبد القاهرِ أَمامَ هذا التّركيب في كتابيهِ: "الأسرار"، و"الدَّلائل"، ويقولُ عنها ناصحُ الدِّينِ الأرجانيُّ (460-544هـ): [من الرَّجز]:
عِزّةُ نَفْسٍ لا يُصادُ وَحْشُها
إلَّا بإكرامٍ وإلا بِقُرَب
ويظلُّ التَّركيب مُتداولًا عندَ الشُّعراءِ حتَّى يَصوغَهُ مطران خليل مطران (1871-1949م) [من المُنسَرِح]:
عِزَّةُ نَفْسٍ يُرَى لَهَا أَثَرٌ
فِي كُلِّ أَمْرٍ يَأْتِيهِ مُرْتَطَمُ
وأعظم معاني عزَّة النَّفس هو َما توقَّف عندهُ القاضي عليّ بن عبد العزيزِ الجُرْجانِيّ: (ت392هـ): (9) [الطويل]
أَرَى النَّاسَ مَن واناهُمُ هَانَ عندَهُم..
ومَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزّةُ النَّفْسِ أُكرِمَا
وإنِّي إذَا ما فاتَني الأمرُ لمْ أكنْ..
أقلِّب كفِّي إثرهُ مُتنَدِّمَا
ولمْ أَقضِ حَقَّ العِلْمَ إنْ كانَ كُلَّمَا..
بَدَا مَطْمَعٌ صيَّرتُهُ لِيَ سُلَّما
وما كُلُّ بَرقٍ لاحَ لِي يَسْتفزُّنِي..
ولَا كُلُّ مَن في الأرضِ أَرْضاهُ مُنعَّمَا
إذَا قيلَ هذَا مَنهلٌ قُلتُ قَد أرَى..
ولَكِنَّ نفسَ الحُرِّ تَحتَمِلُ الظَّمَا
فَأنْهيْتُها عَن بَعضِ ما لا يَشينُها..
مَخَافَةَ أَقوالِ العِدَا فِيمَ؟ أَو لِمَا؟
ولمْ أبتذلْ في خِدمةِ العِلمِ مُهجَتِي..
لأَخْدِمَ مَن لاقِيتُ لَكِنْ لأَخْدُمَا
أأَشْقَى بِهِ غَرسًا وأَجنيهِ ذِلّةً..
إذًا فاتِّباعُ الجَهلِ قَد كانَ أَحزَمَا
ولَو أنّ أهْلَ العِلمِ صَانوهُ صَانهُم..
ولَو عظّموهُ في النُّفوسِ لَعُظِّمَا
ويقولُ عنها "المرزوقيُّ" (-421هـ) في شرحِ ديوانِ الحمَاسةِ: "إنَّها تقدّم الإنسانَ إقدامًا يخرقُ به الصُّفوفَ وتدلُّ على الأصالةِ وكرمِ العِرقٍ. وأثر ما تستخدمُ فيه عند نزول الشَّدائد". ويرى فيها ابنُ الشَّجرِيِّ (450-542هـ) فِي "مختاراتِ شُعراءِ العربِ"، أنَّها من شِيمِ النُّوقِ النَّبيلةِ، فِي ضَوءِ هذا التُّراثِ الحاضرِ فِي وعْي المُتَلَقِّي المثقَّف نقرأُ قَولَ شَاعِرِنا ثانيةً: (فعيشٌ بِعِزَّةِ نَفْسٍ تكُونُ).
لم تقتصرِ الشِّعريَّةُ هنا فِي التَّناصِّ الثَّقافيِّ الذِي عرَضنا لِشَيءٍ منهُ، بل في توظيفهِ عن وعيٍ واقتدارٍ وتمكُّنٍ، وكأنَّهُ شرحَ لنَا كلَّ هذه الدَّلالاتِ فبدأَ في مطلعِهِ بعد كلِّ هذا المخزونِ بفاءِ الجَزاءِ على جملةِ شرطٍ محذوفةٍ، وكأنَّه جوابٌ على شرطٍ مقدَّرٍ يمثِّلُ عقدًا شِعريًّا بين الشَّاعِر والمُتَلَقِّي؛ أي إذا كنتَ تدري معنى "عزَّة النَّفسِ": (فعيشٌ بعزَّةِ نفسٍ)، ثمَّ تصيرُ النَّتيجة مقدمةً في البناءِ المعنويِّ:
فعيشٌ بعزَّة نفسٍ ---------> تكونُ
وهى جملة وليم شكسبير (1564-1616م) المحفوظة: "أكونُ أو لا أكونُ"، التِي وضعَها على لِسَانِ"هاملت"؛ فحَمَلتْ ملخِّصًا لفلسفَةِ الإنسانِ وفلسفَةِ شِكسبير ذاتهِ، إلَّا أنَّها أقصرُ جملةٍ قالَها هذا المبدعُ؛ فامتلكتِ القُدرةَ على تلخيصِ حياةِ الإنسانِ بين الوجودِ والعَدمِ، وصارتْ ملخّصًا لقيمِ الإنسانِ في الحياةِ؛ إنَّه طريقُ البحثِ عن الوجودِ ومواجهةِ العدَمِ، كما صارتْ إطارًا شِعريًّا، ينهلُ منه الشُّعراءُ حتَّى وضَعَها بعضُ الشُّعراءِ عنوانًا لبعضِ قصائدِهِم.
هذا المزجُ بين الموروثِ العَرَبِيّ الأصيلِ والغَرْبِيّ المتفلسفِ جعلَ بيت "الحُسَينِيّ" من أبياتِ براعةِ الاستهلالِ، وبخاصَّةٍ عندما يكثِّفُ هذه الرُّؤيةَ في الشَّطرِ الثَّاني، ويضيفُ ذاتَهُ من خلالِ الموروثِ الدِّينيّ، و:"إلَّا فضبحٌ مِن العادِياتِ"، من قولهِ تعالى: (والعَادِيَاتِ ضَبْحًا) [سورة العاديات/ 1]. و"الضَّبْحُ"، كَمَا هُو مَعْرُوفٌ، صَوتُ أَنْفاسِ الخَيلِ إذَا عَدونَ، والعَادِيَاتُ: الخيْلُ الرَّاكضةُ.
هذا التَّضفِيرُ بين المألوفاتِ، بل ما نتوقَّعُ امتِلاكَنا لهُ، يضعُ أيدينا على قِيمةِ شاعرنا الحقيقيةِ؛ وهى أنَّهُ لا يتحذلقُ ولا يتَشَاعرَ، ولا يحاولُ الخُروجَ عَنِ المألوفِ والتهويم فى تراكيب غامضة ومعانٍ غير مُنسَجِمةٍ؛ ليقالَ عنهُ: شاعر عبقرِيّ، إنَّ بيتَهُ هذا صارَ قولاً مأثورًا يَحْمِلُ بَصمَتهُ الأسلوبيَّةِ معَ تآلفهِ ممَّا نألفُهُ:
فَعَيشٌ بِعِزَّةِ نَفْسٍ تكُونُ
وإلَّا فَضَبحٌ مِنَ العَاديَاتِ
فالبيتُ يحملُ رسالاتٍ شِعريَّةً من أَمْرٍ ونَهْيٍ، ونُصحٍ وسُمُوٍ، ورقىٍّ وتسَامٍ، في تواضُعٍ، وجِدَّةٍ في موروثٍ، ويحمل معنى جديدًا من نسيجٍ موروثٍ، والحذف في العروضِ والضَّربِ ابتعد بنا عن الخطابيَّةِ والثَّرثرَةِ؛ فخَبرُ تكونُ مَحذوفٌ إذا كانتْ ناقصةً، وفاعلها أنت بما يَحملهُ وجودك كلّه إذا كانتْ تامَّةً، في حين يأتِي التَّحذيرُ من "العادياتِ العوَادي"، وليس "العادياتِ المُمتطاةَ"، وهو يحملُ مفارقةً بين ما كُنْتَهُ؛ أيها العَرَبِيُّ، وما صِرْتَ إليه؛ لقد تركتَ جوادَكَ يمتطيه غيرُكَ، ويعدُو عليكَ. وموسيقى "المتقارب" جاءت متناغمة مع هذا العدو السريع الذي يشبه نفير المعركة؛ فترتفع معها دقات القلب منتظرة الوعيد بعد أن كانت خيلنا بشارةً ووعدًا.
هذا البيت يذكِّرنا بشعرِ بشَّارِ بن بُرد (96-168هـ)، رأسِ المحدثينَ وآخرِ شُعراءِ الاستشهادِ، من أنَّهُ استغرَقَ في فهمِ تراكيبِ سلَفهِ منَ الشُّعراءِ، وسبكها ثانيةً؛ فتحوَّلَتْ من لغةٍ خاصَّةٍ بهم إلى لغةٍ خاصَّةٍ بهِ؛ فوَضَعَ بذلكَ حدودًا فارقة بين الموروث العام واللغة الخاصَّة، ومع ذلك لم يعثرِ النُّقادُ على بَيتٍ سرقهُ "بشَّارٌ"، وأرجعوا شُمولَ مُعجمهِ لترَاكيبِ الأقدمينَ كثرةَ محفُوظِهِ من أشعارِهم، وتَردُّده علَى دواوينِهم. وهو ما نجدهُ عند شاعرِنا، وإن كان كلاهُما لم يَتوقَّفْ عن متابعةِ سَلفهِ، بل أودعَ مَعانيَهُ ما يمثِّلُ رُوحَهُ، ويدلُّ على عَبقريَّتهِ.
هنا يأتِي شِعرُ الحُسَينِيّ، ليدلَّ على صِدقِ ما نقولُ؛ فيُعيدُ هذا المعنَى بَعيدًا عن الإطارِ الشِّعريِّ المألوفِ: [المتقارب]
وهَلْ نرقُبُ الفَجْرَ حتَّى يجِيءَ
ونَحْيَا نُفَكِّرُ بِالمُعجِزَاتِ
وما المُعْجِزاتُ، إذا المَوتُ يَطْغَى
فيقطَعُ أَشجارَنا البَاسِقَاتِ (10)
ولعلَّ في ذلكَ ما يفسِّرُ انتقالَهُ بعد هذينِ المَقطعينِ إلى مَقْطعٍ آخر ليكرِّرَ لعبَةَ التَّناصِّ هذه، ممهدًا لها بالتركيب الختاميِّ: "أشجارنا الباسقات"، الذي أصلُهُ قولُهُ تعالى: (والنَخْلَ بَاسِقَاتٍ)، الذي أخذهُ الشُّعراءُ؛ فجعلُوا منهُ معنًى غزيرَ الدَّلالاتِ بتقليبها على كل الأوجه؛ فبعد أن كان يحمل معنى الحياة الرغدة في ظل السياق القرآنيّ: (والنَخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) [سورة ق/ 10]، وقول جميل صدقِي الزَّهاوِيّ (1863-1936م): [ الخفيف]
بَينَ أَحنَاءِ دِجلَةَ والفُراتِ
حيِىَ البُؤسُ فَوقَ أَرضٍ مَواتِ
بعْدَ أنْ كانَتْ فِي القَديمِ جنانًا
بَاسِقَاتِ الأشجارِ مُشْتَبكَاتِ
فالحياةُ هُنا في امتدَادِها حاضِرةٌ في المَوتِ وجلالهِ، إنَّها القطيعةُ في حضورِ الوجودِ، والفراق للشُّموخ والأَصالةِ، وهو ما اتَّكأ عليهِ معنى الحُسَينِيّ عبد العاطي: "فيقطعُ أشْجَارنَا الباسِقاتِ"؛ فتأتِي المفارقةُ المُفجعةُ بينَ: "يقطعُ" و"الباسقاتِ"، فإذا ما أتينا إلى المقطعِ الثَّاني: (11)
فَيَا أيُّهَا النَّائِمُونَ الكُسَالَى
هِيَ الشَّمْسُ تُعلنُ نُوْرَ الصَّباحِ
وَأَنْتُمْ هَشِيمٌ وَمَا عَادَ يَقْوَى
تُبَعثِرهُ واهِنَاتُ الرِّيَاحِ
جاءتْ لعْبةُ "التَّنَاصّ" ثانيةً لتفعَلَ بنا ما فعلتهُ فِي المقطعِ السَّابِقِ؛ فالمألوفُ من المعاني هنا هو ما اختزلهُ ولى الدين يكن (1873-1921م): [المنسرح]
هَيهَاتَ نُورُ الصَّباحِ انظُرهُ
هَذَا ظَلَامٌ يَظَلُّ يطَّرِدُ (12)
وهو المعنى الذِي نسجهُ الحُسَينِيّ عَبْد العَاطِي في ثوبٍ قشيبٍ. أمَّا غير المألوفُ هُنا، وهو ما يُحَدِّدُ بصمتهً الأسلوبيَّةَ؛ فهو ارتباطُ "نور الصَّباحِ" بنورِ الأقاحِ؛ كقَول الرَّشيدِ (الخليفة العبَّاسيّ- ت193هـ) للحُسينِ الضَّحَّاك (الملقَّب بالخليع، 162-250هـ) يُعلِنُ لهُ انبلاجَ الصَّباحِ: (ما لكَ –ويْحَكَ- أَلَستَ ترَى نُورَ الصَّباحِ ونُورَ الأَقَاحِ؟!).
يربطُ شاعرُنا هذا الصباحَ الغريبَ بالهشيم؛ لتأتي المفارقة صادمةً، كما حدثت في المقطع السَّابقِ، ويأتِي البيتُ التَّالِي حاملًا تجديده ورؤيتهُ: (13)
فَهَلْ يُصلِحُ النِّفْطُ رِيًّا لعَطْشَى
وَهَلْ سَوفَ يَبرَى ثَخِينُ الجِرَاحِ
فالشَّطرُ الأوَّلُ حَملَ تَركيبًا خاصًّا به فيه استفهامٌ إنكاريٌّ، يَحمِلُ مَرارةَ الشَّاعِر المصريّ الصَّميمِ والعَرَبِيّ القحّ عندَما يستنكرُ أن يكونَ النِّفطُ حلاًّ لمشاكلنا وعلاجًا لجروحنا، التي لا يندمل منها جُرحٌ إلا جدَّ بالإفسادِ جرحٌ.
وإن كان التَّركيبُ الذِي يَختمُ بهِ البيتَ: "ثخِين الجِرَاحِ" يُذكرنا ببيت مُطران خليل مطران (1872-1949م) الذَّائع:
ففي مصرَ جرحٌ من مفاجأة النوى
ثخينٌ ، وفى لبنانَ برحٌ من الثَّكْلِ
ثمَّ تأتِي تراكيبُ البيتِ وصورهُ فِي مراوحَةٍ بينَ الإطارِ والتَّجديدِ؛ فـ "الأرضُ تبكِي" تَناصَّتْ مَعَ قولهِ تعالَى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ والأَرْضُ) [سورة الدخان/ 29]، وما تَحْملهُ من كثافةٍ تعْبيريَّةٍ، استَغلَّها الحُسَينِيُّ بدلالاتِها الموروثةِ، وقد كان شُعراءُ العربيَّةِ يحاولونَ إسنادَ البكاءِ دُومًا للسَّمواتِ والحَسرةِ للأرضِ، كما قالَ ابنُ المعتَزِّ (247-296هـ):
تَبْكِي السَّمَواتُ إذَا مَا دَعَاهُ
وَتَسْتَعِيذ الأرضَ مِن سَجدَتهِ
والحَديثُ يطولُ بنا إذا ما تناولنَا قوله:
ديارٌ تئنُّ،
وتبكي البطاحُ،
فجرِّدْ حُسامَكَ،
أنَّى تشاءُ،
من الغَمدِ، وانهضْ،
وفُكَّ الوثاق.
فكلُّ تركيبٍ أو تصويرٍ يحملُ شُحناتٍ تعبيريَّةً وكثافةً دلاليَّةً، بحكم تراكمِ المخزونِ الشِّعريِّ عندَ شَاعرِنا، مما يُكسب قصيدَتَه ثراءً ورسوخًا ويضعه بين الشُّعراءِ المعدودينَ الذِين يَستحقُّون منَّا الإجلال على مستوى المُتَلَقِّي الممتاز والمُتَلَقِّي السَّطحِيِّ الذِي تُبهرهُ المَعانِي بِوصفِها مَعانيَ بكرًا تفجؤُهُ بثرائها الدَّلالِيِّ، وهذه أسمَى آياتُ الشَّاعِريَّةِ.
وقد ذكرتُ في دراسَةٍ سَابقةٍ: إنَّ الحُسيني عبد العاطي شاعرٌ قضيّتُهُ الحُبُّ؛ وهو رجلٌ دينهُ الحبُّ، والقصيدةُ كُلُّها دعوةٌ لعودةِ الحبِّ المفقود، وهو ما لا نجد بُدًّا من عودته؛ فهو السَّبيلُ الوحيدُ لإنقاذنا من التِّيهِ، ويعتمد في ذلكَ على أسلوب الشَّرط الطَّويل الذي يباعد فيه بينَ الشَّرطِ وجوابهِ، وتكرار الفعلِ والأداة للتَّشويق؛ في قصيدته عن الحُبِّ:
افترقنا
لَمَّا تاهَت كلمةُ الحُبِّ افترقنا
لَمَّا دورنا عليها ما لقيناها
لَمَّا تاه الشوق مَعاها
تاهت الضّحكة في عيُونا
.....................
لَمَّا قالَت
الفِرَاق صعب
ومحال
لَمَّا هانت كلمة الحب في عيونا
لَمَّا هانت إحنا برضه عليها
هونا
لَمَّا نسيت إحنا إيه بالامس
لَمَّا تاهت هيه تاه الشوق
معاها
هكذا تأتي الشُّروطُ المتتاليةُ والمُتكاملةُ المسلوكةُ في خيطٍ سرديٍّ متينٍ ومنطقيٍّ رغم شاعريَّتهِ؛ إنَّه يأخذُنا في تيار قضيَّةٍ نبيلةٍ؛ ثُمَّ يأتي الجوابُ بعد توالي أفعال الشَّرطِ:
تاهَتِ الضّحكة في عيونا
واحترقنا
إفترقنا
يأتي جوابُ الشَّرط على طريقة البدل أو عطف البيان على طريق النحاة وعلماء المعاني: (تاهت الضحكة... افترقنا).
وليس معنى ذلك أن مراد الشِّعر الإنسانيِّ هو شعرُ الوعظ والحكم والدَّعوة إلى مَكارمِ الأخلاقِ فحسْب، بل يتجلَّى في كلِّ موضوعاتِ الشِّعر، ويشملُها؛ ففي قصيدتهِ "اتنَكَّرِي": وهي قصيدةٌ ظاهرُها في الحُبِّ، يتحدَّثُ عنْ غَدرِ المحْبُوبةِ، ولكنَّ إحساسَهُ بالإباءِ وكرامَةِ المُحبِّ وبكبريائِهِ يَمنعهُ من أَنْ يعلنَ انهزامَهُ، بل يختمُ بقولِه: "لو تقدري":
اِتْنكَّرِي للذّكريات
اِتْنكَّرِي للذّكرياتِ... وَاِتْنكَّرِي
ولا ترجعيش يوم للي فات
لو تقدري
الحب في قلوب العباد
مش راح يموت أو ينهزم
الحب مش حيره ودموع
أو لوعه أو ذكرى وندم
وَاِتْنكَّرِي للذكريات.. اِتْنكَّرِي
ولا ترجعيش يوم للي فات
لو تقدري
طول ما الزَّمان عايز كده
إنه يكون صوت القدر
أصل الزَّمان ده ما لوش أمان
ياما وياما بناس غدر
والحبُّ قَضيَّةُ الحُسيني العُظمَى الَّتي يدورُ حولها شِعرُهُ؛ وأيُّ معنىً أعظمُ من الحُبِّ وأطهرُ لنفُوسِ البشَرِ؟!
المَلَاحِمُ الشَّعْبيَّةُ والنَّقدُ السِّياسيُّ والاجتماعِيُّ:
يَستلْهِمُ في قصِيدتهِ "أحوال يَسِين" القصَّةَ الشَّعبيَّةَ: "بهيَّة ويسين"، ويشكُو آلامَ المواطن العادي الذي يواجِهُ القَهْرَ السِّياسيَّ والاجتماعِيَّ والاقتصادِيَّ، ويبحثُ عن العدالةِ الاجتماعيَّةِ المُهدَرَةِ، والمساواة المفقودة بين المصريين من حيث كونُهم مصريِّين بصرفِ النَّظرِ عن انتمائِهم وتصنيفاتِهم الجَاهليّة الظَّالمة التي ابتلينا بها من جُهَّال العَصرِ:
لفيت
والأوراق على يدِّي
وأنا راجل قُوتى على قدّي
يعنى مش بيه
ولا ابويا مأمور
راجل عرقان.. وبتوب مستور
جلبية العمر من الدَّمُّور
شاوروا لي هناك
على واحد بيه
مدّيت الإيد
سَلّمت عليه
ونظر لي وكشّر
ح تكون مين
أنا واحد ضِمْن المنسيين
مملِكش قيراط
ولا ليش فدادين
انا إبن بهيه وصلب ياسين
وشاور لي وقال لي..
هات المقسوم
ولا شافشى الهِدمه وقال دي هدوم
ونزل في كلام وزعيق مع لوم
وعرفت بإن ده كله روتين
وده راخر يطلع من ناس مين
فهمني سيادته إنه قانون
وان ما دفعتش إيه ح يكون
رح يقف الحال
وح ابات الليل
.... ....
ويختمها بنزعة الوطن، متغزِّلًا بحُبِّ مِصرَ التي يجبُ أن تظَلَّ وتبقى، وأن نحميها من السَّرقةِ التي صوَّرَها بالعصافيرِ التي تسرقُ حبَّاتِ القمحِ زورًا وبهتانًا في صورةٍ رمزيَّةٍ، وتشبيهٍ تمثيليٍّ رائعٍ:
ودي مصر الخير
مصر الإنسان
مصر اللي تملي تجيب جدعان
مش مصر السف أو التهريب
أو مصر الرشوه أو التهليب
أو مصر العصافير جوه الشونه
والله دي فكرة يا واد مجنونه
نسرق إحنا كيلات القمح
ونقول عصافير
واهو إحنا يا واد بنحب الخير
والنفع كمان لينا وللغير
وبتيجي اللجنه يكون الجرد
طب حتة صوف علشان البرد
ودي حتة فخده من الجزار
ده أمين الشونه ادّاه قنطار
من كُسب الرِّيف
كَما يَخْتمُها بنزعةٍ ساخرةٍ حين يصفُ أمينَ الشَّونةِ الخَسيس اللِّصَّ مَعدُومَ الإنسانيَّة بأنَّهُ مسكينٌ إذ لم يَسرقْ كثيرًا كما سَرقَ غيرهُ فيصير في رأْيهم ضَحيَّةً وشريفًا:
لكن والله البيه إنسان
وتمللي شريف
ما سرقشي كتير
وامّا سألوه ..
قال العصافير ..
ومشيت في الدنيا وأنا فرحان
أحلم بالبيت
رحت الإسكان قدمت وجيت
تحديد القرعة ف بحر أسبوع
وهو فات سنتين
وكمان اتنين
يا ننام في الشارع إما نجوع
يا بهيّه يا فتيّه
احكي حال ابنك ياسين.
والصُّورة بما تحملهُ من اكتنازٍ تبقى من أفضلِ الصُّورِ الشِّعريَّةِ السَّرديَّةِ الرَّمزِيَّةِ في الشِّعرِ الشَّعبيّ المعاصرِ، وظنِّي أنها ستكونُ من أبقى الصُّورِ في الموروثِ الشِّعريّ المصريّ بعد سنواتٍ ندعُو اللهَ أن ينقذَ فيها بهيَّةَ من هؤلاء اللُّصوصِ الذين يسرقونَ كلَّ مالِ يسين وإخوانهِ المصريّينَ.
الثَّقافةُ السّرديّةُ والرّمزُ الشِّعْرِيّ:
من الآليّات التي تُسهم في طول نفس "الحُسيني عبد العاطي" عبقريَّة الرَّمز والإطار السّرديّ، ويمكن أن نلمح ذلك في قصيدته هذه؛ إذ انتقل مع رمزِ العُصفور الذي سار معه في إطاره السَّرديّ بشكلٍ موازٍ، وكان الرَّاوي هو نفسه الشَّخصيَّة، مِمَّا يعني أنَّ السَّرد سِيَرِيٌّ، وهو أقربُ لرُوح التَّعاطُفِ مع النَّصِّ، كما أنَّ انتقاله إلى رمز "يسين" في حين ينتقلُ رمز "بهيّة" إلى مصرَ، فيبدو الاندماجُ بينهما عشقًا أبديًّا.
ثمَّ ينتقلُ "يسين" إلى رمزٍ لكلِّ مصريٍّ شَريفٍ واجهَ الجُوعَ والعريَ والقَهرَ بالأمل والشَّرفِ والإصرار الذي يشدُّ من عضُد "يسين"، ويرتكز بهذه الرؤية على سمةٍ مصريَّة تميِّزنا؛ وهي التوحد في مواجهة العدو الذي يأتي مرموزا إليه بالذِّئب (الدّيب):
ياسين من يومه راجل
وبطول عُمر السنين
ولا مره لقيته لعبه
في إيدين الملعونين
يا بهيّه يا فتيّه
إيه حال الدنيا فيه
الدنيا دي ديابه
والديب مين ح يعاديه
لو مدّ الايد حينهش
ولا حدش ح يقاضيه
ياسين طول عمره راجل
وحقوقه عارفها فين
ما يخاف ابن الهفيّه
ولا كل الطماعين
ياسين كان في الليالي
معروف انه الأمين
ع الأرض وع البراري
وبيعطي المحتاجين
لا مره كان بيسرق
ولا مره كان بيخون
أهله وناسه وحياته
وازّاى دا ف يوم يكون
واحد زيه بيسرق
قوته ويقول روتين
وانتم عارفين يا عالم
انه أخوكم ياسين
الثَّقافةُ الدّينيَّةُ والتَّناص معَ القُرآن الكريم والأمثال الشَّعبيَّة:
ومن القصائد السِّياسيَّة التي نجد فيها نقدًا سياسيًّا للمسلمين الذين تركوا العمل وتفرَّغوا للنزاع السِّياسيّ، ودعوتهم إلى إعداد القوَّة التي أمرنا بها الله: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ) [سورة الأنفال/ 29]، ثمَّ التمسُّك بالكلام، حتى الكلام الحقيقي لا يسمعونه، ويستلهم المثل الشَّعبيَّ: (ودن من طين، وودن من عجين). فيقول الشاعر في قصيدة: "أصول اللعبة":
يا مزلزلين الدنيا لكن بالكلام
ومسلِّمين غِيركُو وبإديكُو الزمام
قولوا على الأرض السلام
قولوا على العرض السلام
دا الحق مقلوب الهويه
والقوه داست ع القضيه
والكلام ملهوش لزوم
والظلم مرمغ أنفنا
خلانا بنشق الهدوم
واحنا وطنا مستباح
وعدونا في قلبي بيتنا يزلنا
وهو مطلوق السراح
واحنا اللي لينا الودن..
من طين أو عجين
يا حسرة القلب الحزين
ويحدد العدو هنا ترميزًا أو تصريحًا، وهو الأمريكان واليهود، ويجعل الأمريكان أفاعي سامة ذوات أنياب تسبب الخراب وتزعم أنه إصلاح، مستلهمًا صفات الأفعى ورمزيتها في التراث العربي القديم، ولا سيما التُّراث الشَّعبي؛ إذ من المعروف في التُّراث الشعبيِّ أن الأفعى ناعمة الملمس ولكنها سامة قاتلة في حقيقتها، وينبِّه لحلم العدو الصهيوني من النِّيل إلى الفرات:
يا خلق هوه
العدل مقلوب في الميزان
زى الزمان
مقلوب بأمر الأمريكان
والغادره يدوها النيشان
تأمر بأمر الاغتراب
والاغتصاب
والغادره أفعى ليها ناب
جايبه الخراب
جيباه باسم الإصلاحات
والإجراءات
والنية من النيل للفرات
الثَّقافةُ اللُّغويَّةُ وتداعي المشتقَّاتِ:
وهي سمةٌ تُميِّزُ عاميَّةَ الحُسيني عبد العاطي، وتعودُ في أساسِها لإتقانهِ الفُصحَى ومعرفة خصائصِها الاشتقاقيَّةِ وما مَيَّزَها الله به عن غيرِها من اللُّغاتِ. فـ "الأَمْرَكَةُ" تستدعِي "الصَّهْيَنَةَ"، والجديد "الأَسْرَكَةُ"، وكذا "أَمْرَكُوهُ" تستدعِي "أَسْرَكُوهُ"، التي يَكْمُنُ جمالُها في المفارقةِ حين تستدعِي: (يصلبوهُ، وكرّموهُ، وغيّروهُ)؛ ممَّا ييسِّر عليهِ الاستدعاءَ الموسيقيَّ للنِّداءِ الشَّعبيِّ الصَّارخِ المستغيثِ: "يا خلق هوه":
والصهينة.. والهيمنة.. والأمركةْ
فارضين نفوذهم ع الوجود
ويقودوا همه المعركةْ
ما هي أسركةْ
فنُّ الحُزنِ بينَ النّشأةِ الفطريَّةِ والثّقافةِ اللُّغوِيَّةِ:
وفيها عبقُ الحُزنِ القديمِ الذي ينتمي لفنّ الحُزنِ, يبْدُو مِنَ النِّداءِ الشَّعبِيِّ: يا عينُ. ثمَّ ينجحُ الحُسيني عبد العاطي في صناعةِ خطَّينِ متوازيينِ؛ هما خطُّ الظَّالم الذي يندرجُ فيه الظَّالمُ السِّياسيُّ والظَّالمُ الاجتماعيُّ، ويُراوحُ في لغتِهِ؛ ليتَّسعَ مفهومُ الظُّلمِ فيشملُ كلَّ ظالمٍ، ويسلك نفسه في الخطِّ الآخرِ المظلوم منَ المظلومينَ.
ولذا يلتزمُ الضَّمير الجمعيّ الذي كان يلتزمه الشَّاعِر العربيّ القديم بوصفه لسان حال الجماعة ووزير إعلامها وسفيرها عند غيرها؛ ولذا يسيطر ضمير"نحنُ"، "إحنا". وعلى طريقة الشَّاعِر القديم الذي يعبِّرُ عن قبيلته وقت يسرها وعُسرها؛ كما يعتمدُ على الجُملِ المفصليَّة التي تحافظُ لنَصِّه على وحدتهِ مهما طال؛ فتصير جملة محوريَّة، أو مفصليَّة تربط أجزاء العمل وتشدّ مفاصله؛ فتجعله وحدةً واحدةً؛ مثل: "وأظلم من الظالم".
استثمارُ الثَّقافَةِ اللُّغويَّةِ بالتَّكرارِ للتَّماسُكِ النَّصّيّ:
بقدرِ ما يكثِّفُ تكرارَ النِّداءِ شُحنة الحُزنِ المسيطرة على القصيدةِ: "يا عيني ما تحبيشي"، يُسهِمُ –أيضًا- في التَّماسُك النَّصيّ، ممَّا يُرَكِّزُ الإحساسَ ويُعمِّقه:
أظلم من الظالم ما فيش
يا عيني ما تخبيش
وإحنا الهفـأ
إحنا اللي نافشين الحشا بالريش
واحنا اللي كلمتنا شرف
عن خطوه ما تعديش
واحنا اللي نِدى عمرنا
والاسم ما بنديش
إحنا بنرقص ..
.............
نصبح شحاتين
واظلم من الظالم ما فيش
يا عيني ما تخبيش
ملعونه كل الدني
..................
وأظلم من الظالم ما فيش
يا عيني ما تخبيش
ولا ترفضيش الحزن..
.....................
واظلم من الظالم ما فيش
يا عيني ما تخبيش
الثَّقافةُ النَّقديَّةُ وتقنيةُ القناعِ/ الشاطر حسن:
عندما نتحدث عن عفيفي مطر، وعن محمد الشهاوي، فلابدَّ أن نتحدَّثَ عن الحُسيني عبد العاطي، شاعر الصَّفاء والوضُوح الذي يقوله الشِّعرُ، ولا يقول الشِّعرَ. يحاول الحسينيّ عبد العاطي أن يتَّخذَ -رغمَ وضوحِهِ، وصفائهِ- تقنيةَ القِناعِ؛ فهوَ إنسانٌ يُشِعُّ إنسانيَّةً وصفاءً، ولكنَّ القناعَ هنا يأتي قناعًا شعبيًّا؛ فمرَّةً يكون القِنَاعُ: "يسين"، وأخرى يكون القِناعُ": الشَّاطر حسن"؛ وهو قناع شعبيٌّ؛ فهو البطل الشعبي الذي يعطي حياتهُ لأهلهِ وناسِهِ الطيِّبين البُسَطَاءِ، وليس قناعَ "رامبو"، أو "اسبرتاكوس"، أو "نرسيس"؛ فيأتي عتابُهُ للحبيبةِ مثاليًّا على طريقته في الاستفهام المتتالي الذي لا يبحثُ به عن إجابةٍ بقدرِ ما يُثيرُ فينا من إحساسات ومشاعر الاتِّحاد به ومعه.
وهذا القِناعُ يفتحُ أمامنا أبواب التَّأويل على مصراعيهِ؛ فالحَبيبةُ -هُنا- ربَّما تكُونُ الحَبيبةُ المعروفةُ، والمعنى يحتمل ذلك، ويحتمل –أيضًا- الرَّمزيَّة لمِصرَ وعشقها الوطنيّ، وربَّما تتعَّددُ الدَّلالاتُ بالرُّجُوعِ إلى هذه التِّقنية. كما أنَّ هذا القناعَ جعلَهُ يخرجُ عن حيِّز الجمع الذي يستخدمه في معظم شعره، ويلزم حيِّز الإفراد –هنا- إذ يأتي الضَّميرُ" أنا" خمس عشرة مرة، غير الضمير المتَّصل والمستتر الذي يبلغ نصفها تقريبا، أي حوالي سبع مرات:
مش هوه أنا الشَّاطر حسَن ..
مش هوّه أنا الواد الشّقِي
مش هوه أنا اللي بعت عمري ..
لما كنتي بتغرقِي
مش هوه أنا الواد الصَّريح ..
اللي الصَّراحة مبدئِي
والا خلاص ما بقتش أنا ..
يعني خلَاص بتفرقي
أيوه.. أنا الشَّاطر حسَن ..
راكب حِصانِي الابيضانِي
وف دنيتك كنت البطَل..
عاشق وكنت أنا النبيل
أيوه أنا الشَّاطر حَسَن..
يعني أنا.. فارس زمانِي
عارف طريقي وسكّتي ..
وفى حبِّي كنت المِعجبانِي
وف دنيتك كنت البَطَل ..
وكمان أنا حافظ مكانِي
باخلَص تملّلي لكلمتي ..
لو أمشِي درب المستحيل
أصلِي أنا الشّاطر حَسَن ..
ماشي عشانك ألف ميل
وتأتي جملة "أنا الشاطر حسن" جملة محورية، ولكنه الفارس النبيل الذي يؤمنُ بالصَّراحة مبدأً، والفروسيَّة والبُطولة الحقيقيَّة قيمةً، والجرأة في أخذِ القرارِ طبعًا.
ومن هذه التِّقنيَّة قناع "ياسين وبهية"؛ الذي يتراوحُ رمز "بهية بين مصر المكان ومصر الوطن ومصر المواطنين، وحين تكون هي الوطن يكون المواطن "يسين"، وحين تكون هي المواطن يكون "يسين" هو الوطن الحقيقيّ:
فِي ميادينِ الوَطن ...
غِنوة حَنين
من بين حرُوفِ الحُبِّ ...
والشَّمْس النَّهار
مِصرُ العمَار ...
فكراك وقايمه تودعك
ما أروَعَكْ ...
ما أَبدَعَكْ
سلمّيه كانت ندهِتك
والكون بحاله بيسمعك
حبك في رقابنا ..
ح يبقى دِين
راح نمشي دربك يا ياسين
زى ما مشيته بينا
من أوِّله
ح نكمله.. ونجمله
مستنيينك كلّنا
ومسلمينك قلبنا
انطق بصَوتك قول لنا
إِن كان بعامي أَو فصيح
انتم على الدرب الصَّحيح
هذا وتُحسم قضية العامية أو الفصحى بالعودة إلى كلام الشاعر نجيب سرور:
الشعر مش كلام مقفى
ولا حتى كلام فصيح
الشعر لو مسّ قلبك
هو ده الشِّعر بصحيح.
وبالمناسبة، لا ينبغي أن نغفل –هنا- نصَّهُ المسرحيَّ الرَّائع "ياسين وبهيَّة"، ولولا خوف الإطالة لأطلتُ، وإن كنتُ قد أطلتُ بالفِعلِ، ولولا أن المقام لا يتَّسع لقلت الكثير والكثير، ولكن كما يقولُ النّفَّرِيُّ: "كُلَّمَا اتّسعَتِ الرُّؤيَا ضاقتِ العِبارةُ".
وأخيرًا أعلن عجزي عن الموضوعيَّة التي يجبُ أن يتحلَّى بها النَّاقِدُ النَّزيهُ، وأعلِنُ أنني مُعجبٌ بالحسيني عبد العاطي الشَّاعِر والإنسان، بل أقول بلا مواربة: إني أحبُّهُ كما تُحبُّونهُ جميعًا؛ فمَا أحْوجَنَا إلَى مِثلهِ في ظَلامٍ دَامسٍ حَالكٍ مُدلهِم تُسَيطرُ على أجوائهِ الخفافيشُ.
.........................
الهوامش والمراجع:
1- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيرواني، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، بيروت، دار الجيل، الطبعة الخامسة، 1981م، 1/ 196.
2- النقد الثقافي، عبدالله الغذامي، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة،2010م، 11.
3- السّابق، 13.
4- منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب بن خوجة، أبوالحسن حازم القرطاجنيّ، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1981م، 143-144.
5- كتاب الأضداد، محمد بن القاسم الأنباريّ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، المكتبة العصرية، 1407هـ/ 1987م، 344-345، سليمان بن بنين الدَّقيقيّ (ت614هـ)، 1405هـ/ 1985م، 143-144.
6- ديوان كلام النَّاس (أشعار عاميَّة)، الحسيني عبد العاطي، المنصورة، سلسلة إبداع الحريَّة، 2013م، 61-62.
7- سُنبلات الحلم (شعر)، الحسيني عبد العاطي، المنصورة، سلسلة إبداع الحريَّة، 2006م، 5.
8- سُنبلات الحلم (شعر)، 15.
9 - ديوانه، 91.
10- ديوانه، 15.
11 - ديوانه، 16.
12 - ديوانه، تقديم: السَّماح عبد الله، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013م، 16.
13 - السّابقُ نفسهُ، والصّفحةُ نفسُها.
................................................
لتوثيق المقال:
أ.د. محمَّد سيِّد عليّ عبد العال (محمَّد عُمَر): محفّزاتُ الشّعرِ بينَ البراءَةِ والثّقافةِ- قراءةٌ في شِعر "الحُسينيّ عبد العاطي"، في: مسارات الأدب في وسط الدلتا: أعمال المؤتمر العلمي لقسم اللغة العربية والنقابة الفرعية لاتحاد كتاب الغربية (8 مايو 2022م)، ط1، دار النابغة (2022م)، المجلد الأول،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق