الأربعاء، فبراير 02، 2022

ذراع أخرى .. قصه قصيره للأديب الكبير/ محمود عرفات ابن كفرالزيات الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عام 2005م

الأديب الروائى/ محمود عرفات ابن كفرالزيات
روائى وقاص مصرى حاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عام 2005م عن المجموعة القصصية "على شاطئ الجبل". شارك فى انتصارات أكتوبر المجيدة عام 1973م، كضابط احتياط فى أحد التشكيلات القتالية المدرعة بالجيش الثانى الميدانى.عضو اتحاد كتاب مصر.عصو نادى القصة.عضو الجمعية المصرية للسرديات

 صحا شحته وحلمه اليومي المعتاد يكاد يكتمل. أربعون عامًا والحلم يصاحبه  في المنام والصحو، يحتويه ليلًا فترف على وجهه ابتسامة مترددة. قبل زواجه كانت أمه تقوم من عز النوم فتغطيه وتراقب ابتسامته فيهتز فرحًا. بعد زواجه أوصت فايقة أن تأخذ بالها منه وتتركه لحلمه اليومي حتى تفرش وجهه ابتسامة الأمل. سألتها فايقة عن الحلم فابتسمت وانصرفت. سألته فسرح بعيدًا ورأت مغصة ألم عاتية تعتصر وجهه فلم تكرر السؤال. في صحوه يسعى إلى عمله ويعود. يخرج إلى المقهى ويدخل في مناقشات لا تنتهي، بنصف عقل يفعل ذلك. النصف الآخر ينتظر تحقق الحلم.أحيانًا كان يتذكر بعض المشاهد، وأحيانًا أخرى كان الشريط يكر في خياله. هذا الصباح فتح عينيه فغشيتها حزمة من الضوء اللامع المذهب بأشعة الشمس. نسي ابتسامته على وجهه، وعندما اقترب من المرآة التي تتوسط الصوان العريض وجدها تكبر وتتسع، ولم لا، فاليوم كاد الحلم أن يكتمل، إنه غير متأكد، لم ير كل التفاصيل المعتادة، لكنه رأى شيئًا أذهله، لا يتذكره، يجهد ذهنه، لكنه لا يستطيع. أراح نفسه وهو يسأل بغير حروف، هل هو بداية التحقق، و... الشريط يكر.

يجري شحته بأعوامه الخمسة، يكنس طرقات الحي بطرف جلبابه. يمد يده ليلمس كل الأشياء ويلعب، كلما تصرخ أمه من الخوف يرد عليها: أنا لا أخاف. تتوسل إليه: انت حيلتي من الدنيا. يرد عليها: هاتي ولد تاني. فتقلب كفيها كاسفة وهي تتمتم: "يا ريت". يراه أبوه في طرف البيت فيصرخ فيه: يا ولد اهمد. فيزداد شحتة عفرتة. يخرج في الظلام ليشتري جازًا أو كف حلاوة أو قرطاس ملح أو علبة كبريت، ويعود متظاهرًا بالشجاعة. كبر قليلا فأدخله أبوه الكتاب. عندما لسوعته العصا الرفيعة الرخوة للشيخ، حلف على الكتاب، قال لأمه: لن أروح الكتاب.. أريد المدرسة. أبوه سلم أمره لله وأدخله المدرسة. لم يعد من المدرسة يومًا في موعده. اللعب حياته. أذهل المدرسين بشقاوته وتفوقه، جن مصور، أول ما شطح نطح، فوجيء به أبوه يلعب في حوش السكة الحديد بجوار الورشة التي يعمل بها في المصلحة. طارت الأبراج كلها من رأسه وصمم أن يقتله من الضرب، لكن الولد لا يخاف ولا يهرب. عرف الرجل أن الولد سيموت بين يديه، فأحاطه بذراعيه وضمه إلى صدره وهمس بعتاب كأنه البكاء: إلا القطارات يا شحتة، حرام عليك تحرق قلبي وقلب أمك عليك. يرد شحتة: أنا صغير ولا أخاف، كيف تخاف وأنت كبير؟ لا يجد الرجل ردًا، فيمسح رأس ولده بيد حانية، ويأخذه من يده ويعود به إلى أمه التي تخبط صدرها، وتشد شعرها، وتصرخ صرخات مكتومة لا يسمعها أحد.   

    في عطلة الصيف، أصبح حوش السكة الحديد ملعبه، والشعبطة في القطارات لعبته، وقبل الوالد أن يلعب الولد بالقرب منه.

    يوم السوق صحا مبكرًا وقاد فريق العيال لمعاكسة البائعات، وشراء الطعمية والعيش الطري والتحلية بالعنب. قرب الظهر قرر الذهاب إلى الحوش، شيء ما جعله يذهب إلى أمه ويقول لها: اعملي لنا سمكًا مشويًأ. ابتسمت أمه وقالت وهي تهم بالقيام: حاضر يا نن عين أمك.

    مضى إلى الحوش، وجاء القطار يعمل مناورة للانتقال من شريط إلى آخر، تعلق به الأطفال، هشهم عامل الدريسة فخافوا إلا شحتة، ظل متعلقًا بآخر العربة. وقف أصحابه ينظرون إليه بإعجاب وهو يعلو ويهبط، ويدور بجسده النحيل على الجنزير الغليظ الذي يربط العربات. وقع شحته على القضبان فأسرعوا ناحية الورشة وأبلغوا أباه.

    شحتة كان مخدرًا لكنه يصرخ. حملوه إلى المستشفى. نظر المدير إلى ذراعه المدلاة بجواره فأمر بحمله إلى حجرة بها حوض كبير، خلعوا ملابسة الملوثة ونظفوا جسده من الدماء وهو يواصل الصراخ. لمَّا أفاق حاول أن ينقلب على وجهه فلم يقدر. صرخ بعزم ما به. جاء الممرض وتأكد أنه مثبت جيدًا على السرير. شعر شحتة بألم شديد في كتفه الأيمن، ظل يطلق آهات أليمة أتبعها بشتائم قبيحة، أم شحتة بجواره لا ينقطع بكاؤها، وأبوه يجلس على حافة السرير شابكًا ذراعيه على صدره ووجهه صامت حزين، كانوا يهدئونه بالحلوى، لكن الألم الذي يفري كتفه الأيمن وصلبته على السرير كانت تعصف به فيعاود الصراخ والسباب لكل من يعمل في المستشفى من صغيرها لكبيرها، ولم يسلم المرضى الآخرون وزوارهم من شتائمه التي قبلها الجميع مقدرين ما فيه من غم، لكنه لم يعرف إلا في اليوم الرابع  عندما حلوا وثاقه. تنفس براحة لأول مرة وبدأ يجرب الحركة عندما اكتشف الغياب، انتابه الهياج وهو يهذي:

= فين ذراعي يا أولاد الكلب؟

ازداد بكاء أم شحتة وهي لا تقدر على النظر في وجهه، وهو لا يكف عن الصراخ المجنون. تحول العنبر في لحظات إلى مأتم كبير، اقترب الممرض المتجهم من السرير فلانت ملامح وجهه، وملأت الدموع عينيه. حاول تهدئة شحتة فانهال الولد بالسباب الفاحش عليه. أدرك الرجل أن الموقف أكبر من قدرته على التصرف فانسحب مسرعًا، عاد بعد لحظات يتقدم مدير المستشفى ذا الوجه الأبيض المستدير يكاد الدم يبك مه. اقترب المدير بطوله الفارع ومشية الباشوات تميزه وسط موظفيه. تطلعت العيون المتوترة إلى الرجل الذي اقترب من شحتة باش الوجه، مال عليه ورشق نظراته في عينيه، فجفل شحتة، وتذكر أن هذا الرجل استقبله وأمر أن يوضع في حوض الماء، سكت لحظة فساد صمت قصير، استثمره المدير قبل أن يتبدد. قال في حنو وهو يجلس على حافة السرير: أنت في الكتاب؟ رد شحتة: لا.. في المدرسة. في سنة رابعة؟ بانت الدهشة في عين شحتة، وكأنه يريد أن يقول: هذا الرجل أهبل. لكن وقار الرجل وصوته الخفيض أسكتاه، لكنه قال بعد ثانية: سنة أولى. تعرف الفاتحة؟ طبعًا. قل الحمد لله. قرأ شحتة الفاتحة من أولها لآخرها في نفس واحد، فهز الرجل رأسه استحسانًا وقال منغمًا الكلمات: الله عليك يا شحتة. ابتسم شحتة للمرة الأولى، لكنه تذكر مصيبته فأخذ يبكي، تركه الرجل لحظة ثم فاجأه بسؤال: أين أبوك؟ فرد الولد في سرعة وعدوانية: فين ذراعي؟ قال المدير بابتسامة واثقة وببطء محسوب:

= دلوقت تطلع.. زي شعرك وأسنانك وضوافرك.

سرح شحتة وهو يفكر: معقول تطلع ثاني، لا يصدق، لكن هذا الرجل الباشا الذي يجلس بجواره ويحدثه كصاحبه لا يمكن أن يكذب، عرف المدير ما يدور في رأسه فعاجله قائلًا:

= المهم أن تهدأ وتواظب على الدواء وتسمع كلام أمك لغاية ما تطلع ذراعك ثاني.

نظر شحتة إلى أمه لأول مرة باسمًا، وجدها تمسح دموعها بطرف طرحتها، فتأكد أن الرجل يقول الحق. هذأ شحتة فسرت موجة من الارتياح في العنبر. عبرت امرأة من الزوار عن فرحتها بزغرودة طويلة أتبعتها بدعاء أن يحمي الله المدير لشبابه ويجعل له في كل خطوة سلامة, قام المدير ففرشت ملاءة السكينة أطرافها على السرير، استسلم شحتة لنوم عميق رأى فيه حلمه للمرة الأولى، وعاينت أمه تلك الابتسامة المترددة تضيء وجهه، فغطت وجهها بكفيها، تحمد الله وتدعو له، وتكفكف الدموع.

    توقف الشريط، وشحتة لايزال واقفًا أمام المرآة التي تتوسط الصوان العريض، يتأمل الابتسامة المنسية على وجهه في ذهول كأنها على وجه آخر، لاحظ أنها تكبر وتتسع  حتى انبعجت وجنتاه. لا يستطيع أن يقف هكذا طوال النهار، فتتبدل ملامحه، أسرع شحتة هاربًا من أمام الصوان، وأخذ يلملم نفسه ويرتدي ملابسه، وعندما كان يضع الكم الفارغ في جيب السترة عاد إلى المرآة، وألقى نظرة ثم توجه إلى الباب وهو يتهيأ، ككل يوم، لمراقبة ذراعه وهى تنبت من جديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق