الجمعة، نوفمبر 26، 2021

منافي العرب القديمة أصبحت حلماً لهجرة أحفادهم .. مقال للكاتب الصحفى الأستاذ/ محمد حسين الشيخ ابن قليب ابيار بكفرالزيات

الأستاذ/ محمد حسين الشيخ 
كاتب مصري، عمل كصحافي تحقيقات، وكاتب مقالات لعدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية منذ عام 2004، وكان مساعدا لرئيس تحرير موقع دوت مصر، ومهتم بالتاريخ والفن. وابن قليب ابيار بكفرالزيات


النفي خارج البلاد كان من وسائل العقاب التي يُواجَه بها القادة والزعماء في العالم العربي قديماً، منهم سعد زغلول، وأحمد عرابي، والأمير عبدالقادر الجزائري، ومحمد عبدالكريم الخطابي. وذلك عبر إبعادهم عن وطنهم الأم إلى جزر نائية قاحلة. اللافت اليوم أن تلك الجزر شملتها يد التقدم وأصبحت حلماً للهجرة والسياحة لأحفاد من كانوا منفيين إليها يعانون العذابات.

مالطا

مالطا كانت مجرد مستعمرة بريطانية ملأى بالمعتقلات، تستخدمها المملكة المتحدة كمنفى لمن تغضب عليهم. وحين أسس سعد زغلول حزب الوفد المصري عام 1918، وطالب باستقلال مصر عن بريطانيا ولاقت الدعوة جماهيرية، قبضت سلطات الاحتلال عليه هو ورفاقه، ونفتهم إلى جزيرتها النائية في قلب البحر الأبيض المتوسط، شمال ليبيا،وهناك قابل أعضاء الوفد المصري منفيين من ألمانيا وتركيا، كانت بريطانيا قد اعتقلتهم أثناء الحرب العالمية الأولى، بحسب كتاب "سعد زغلول زعيم الثورة" لعباس محمود العقاد. مالطا هذه أصبحت اليوم قبلة للمهاجرين غير الشرعيين، وتعقد حكومتها المؤتمرات وتنظم الأنشطة والفاعليات لبحث سبل منع الهجرة غير الشرعية. وذُكر في تقارير إعلامية أن مالطا استقبلت أكثر من 17 ألف مهاجر غير شرعي من دول شمال إفريقيا عبروا إليها عبر البحر الأبيض المتوسط خلال السنوات الماضية، وهو عدد كبير إذا ما قورن بمساحة هذه الدولة "الجزيرة"، التي تبلغ 300 كيلومتر مربع، ويبلغ تعداد سكانها 400 ألف.

سيشل

بعد أن فشلت مفاوضات الوفد المصري مع بريطانيا عام 1921، اندلعت التظاهرات للمرة الثانية، عقب إخماد تظاهرات عام 1919، فاعتقل الانجليز سعد زغلول مرة أخرى ونفوه إلى جزيرة سيشل في المحيط الهندي. وينقل رشاد كامل في كتابه "الحب والثورة: مشوار حياة سعد زغلول وأم المصريين"، أن سعد زغلول خاطب زوجته صفية زغلول من سيشل، وأخبرها أنه مريض بسبب جو الجزيرة النائية التي نفي إليها، بسبب حرارتها ورطوبتها، وقال لها إنه أو أي من زملائه المنفيين لا يستطيعون البوح بأن الجو غير مناسب لأن الكلام بذلك ضد النظام العام". قلق صفية زغلول "أم المصريين" على صحة زوجها دفعها لمخاطبة المندوب السامي البريطاني في القاهرة، وطلبت منه  السفر إلى سيشل، أو نقل زوجها إلى مكان أفضل. سيشل اليوم مقصد سياحي هام بعد أن كانت منفى يجلب جوه المرض، وهي دولة مستقلة، وحصة الفرد من الناتج المحلي فيها خلال العام يبلغ متوسطه 27.640 ألف دولار، أي أكثر من أربعة أضعاف حصة الفرد المصري من الناتج المحلي البالغة 6.714 دولار، بحسب تقرير لصندوق النقد الدولي عام 2013.

الجزر الإيطالية

أوضحت دراسة صدرت عام 1991 عن "مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي"، بعنوان "المنفيون الليبيون الى سجون الجزر الايطالية: وثائق، أرقام، قوائم، صور" أن ما يقرب من 5 آلاف ليبي نفتهم السلطات الإيطالية إلى 26 جزيرة إيطالية نائية في البحر المتوسط، منها "باليرمو، تريميتي، أوستيكا، وسردينيا"، بدءاً من عام 1911 حتى جلاء الاحتلال الإيطالي عن ليبيا. الجزر كانت قاحلة خالية تماماً من السكان، وسيق المنفيون إلى معسكرات الاعتقال بها في شكل قطعان لتستخدمهم السلطات في أعمال شاقة، ويتعرضون إلى كل الأمراض والأوبئة المتوقعة، كالربو والسل والالتهاب الرئوي، ولا يُعلم حتى اليوم مصير هؤلاء المنفيين... هل اندمجوا في المجتمع الإيطالي؟ أم ماتوا؟
سيشل، مالطا، اسطنبول.. هذه المدن والجزر التي نقصدها للمتعة كانت منافي الزعماء في العالم العربي قديماً
وقال عضو مجلس الشيوخ ووزير الداخلية الإيطالي الأسبق، جوزيبي بيزانو، إن قضية المنفيين الليبيين تبين بوضوح أن الاستعمار الايطالي لليبيا لم يكن مجرد مرحلة امبريالية بل بمثابة غزو قاس جداً تمثل في عمليات القمع والتنكيل بالشعب الليبي، وترك ذكرى من الآلام ما زالت حية حتى الآن في ذاكرة الليبيين، بحسب ما ذكره في ندوة بعنوان: "المنفيون الليبيون في إيطاليا في السنوات 1911- 1912". تلك الجزر اليوم عامرة، والوصول إليها حلم للمهاجرين المتدفقين عليها بالآلاف، أملاً في حياة أفضل في أوروبا. وتشير إحصائية للأمم المتحدة إلى أن 23 ألف مهاجر غير شرعي عبروا البحر الأبيض المتوسط من شمال إفريقيا إلى إيطاليا خلال عام 2015. كما أنها تحولت إلى مقصد سياحي مهم اليوم.

رودس

نفت الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي حوالي خمسين شخصاً من اليمن إلى جزيرة رودس الواقعة في بحر إيجه، معظمهم من السادة الأشراف، بحسب دراسة للدكتور سهيل صابان، بكلية الآداب- جامعة الملك سعود، بعنوان: اليمنيون المنفيون إلى جزيرة رودس (عام 1309 هـ/ 1891 م). وذكرت الدراسة أن مُعدها عَثر في الأرشيف العثماني باسطنبول على الخطابات التي بعث بها هؤلاء المنفيون اليمنيون في جزيرة رودس إلى الصدر الأعظم "أكبر منصب في الدولة العثمانية بعد الخليفة"، والتي تشير إلى الحالة المزرية التي مرت عليهم أثناء مكوثهم في منفاهم، ليست فقط للبعد عن وطنهم وذويهم، بل بسبب الفقر الذي أصابهم، نتيجة لقلة المخصصات المالية من الدولة العثمانية وعدم دفعها في وقتها، ولا سيما أن المنفيين كانوا من المرموقين في المجتمع اليمني. رودس كانت تابعة للدولة العثمانية وقتها، وانتقلت السيادة عليها إلى إيطاليا، وهي الآن تابعة لليونان. جزيرة رودس اليوم هي ضمن أهم مقاصد المهاجرين الأفارقة الحالمين بأوروبا، وتشير إحصائية للأمم المتحدة إلى أن اليونان استقبلت 12 ألف مهاجر غير شرعي خلال 2015.

كاليدونيا الجديدة

فرنسا ثانية أكبر الدول الاستعمارية بعد بريطانيا في القرن التاسع عشر، خصصت جزيرة كاليدونيا الجديدة للمنفيين الذين يقاومون احتلالها لأراضيهم، بدءاً من عام 1870 الذي انطلقت فيه انتفاضة جزائرية عنيفة ضد الاحتلال، بقيادة الشيخ محمد المقراني. بدأت فرنسا بالزج بالمقاومين الجزائريين إلى جزيرتها النائية، بعد أن اعتقلت المئات منهم، على رأسهم المقراني، وأرسلت أغلبهم إلى معسكرات الاعتقال هناك. وبعد ذلك كانت ترسل دفعات أخرى، منهم تونسيون ومغاربة- بحسب كتاب "مأساة هوية منفية: نتائج وأبعاد ثورة المقراني والحداد" لصديق تاوتي. كاليدونيا الجديدة تقع في قارة أوقيانيا، جنوب المحيط الهادئ، شرق استراليا، وكانت خالية من البشر حتى بدأ البريطانيون والفرنسيون يرحلون إليها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وامتلكتها فرنسا منذ عام 1853، وجعلتها معسكر اعتقال كبيراً. المنفيون الجزائريون كانوا يعاملون معاملة قاسية، فهم محكوم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة، وكانت تستغلهم السلطات نهاراً في العمل بالمزارع والمناجم، ويبيتون ليلاً في سجونهم، بحسب تاوتي. لكنهم حصلوا على هامش من الحرية في نهاية القرن التاسع عشر، وتسلموا أراضي لزراعتها، ونَقلوا إلى هناك زراعة محاصيل عربية كثيرة، كالبلح والتين والحمضيات، وكل ما استطاعوا نقله من مقومات الحياة الجزائرية، وكذلك اختلطوا بالجنسيات الأخرى من المنفيين إلى هناك، وأصبحوا مكوناً رئيسياً لشعب كاليدونيا. كاليدونيا اليوم جزء لا يتجزأ من فرنسا، التي يحلم بالسفر أو الهجرة إليها الكثيرون، كما أنها مقصد سياحي رائع.

اسطنبول

اسطنبول لم تكن قاحلة أو نائية، فقد كانت عاصمة الخلافة العثمانية، ولكنها كانت أيضا منفى للبعض، منهم الأمير عبدالقادر الجزائري، الذي قاد المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأسس حكومة موازية لحكومة الاحتلال وجيشاً للمقاومة، حتى استسلامه عام 1847، ثم نفي إلى اسطنبول، لكن مكان المنفى تغير بعد ذلك إلى دمشق. كذلك كانت اسطنبول منفى للشيخ رضا العطار، والد القيادي الإخواني السوري، عصام العطار، عام 1911، لمعارضته الاتحاديين في تركيا، فاعتقله والي سوريا جمال باشا، ورُحّل إلى اسطبنول. اسطنبول التي تنشطر إلى قسمين، أحدهما في آسيا والآخر في أوروبا، هي من أكبر مدن العالم ومن أكثرها ازدحاماً بالسكان، إذ يسكنها اليوم ما يقرب من 14 مليوناً، كذلك فهي أهم مركز تجاري وصناعي في تركيا، وهي بوابة عبور للمهاجرين من آسيا إلى أوروبا، كذلك فإن العيش في تركيا أفضل كثيراً من دول عربية كبيرة، إذ تمتلك الاقتصاد الرقم 18 على مستوى العالم، بحسب تقرير للبنك الدولي عام 2015.

سرنديب (سريلانكا)

بعد أن فشلت ثورة عرابي، وألقي القبض عليه هو ورفاقه، عقب احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، حُكم عليهم بالنفي إلى جزيرة سرنديب. حملت الباخرة عرابي ومحمود سامي البارودي وعلي فهمي وباقي قيادات المقاومة ضد الانجليز والخديوي، وأسرهم (إجماليهم 57 فرداً)، إلى المستعمرة البريطانية التي تقع جنوب الهند، في المحيط الهندي. ويحكي أنيس منصور في كتابه "حول العالم في 200 يوم"، أن صحة الزعماء المنفيين كانت جيدة هناك، باستثناء عبدالعال حلمي، الذي كان يشكو من ضيق في التنفس، وكان يستيقظ من النوم وهو يصرخ، حتى توفي ودفن هناك، وقبره لا يزال موجوداً ويحمل اسمه. وينقل منصور في كتابه عن صحيفة الأوبزرفر السيلانية، أن الجماهير اصطفت في استقبال عرابي عند ميناء كولومبو، وانهالوا عليه يقبلون يديه وقدميه وكأنها جماهير مصرية تستقبله في القاهرة أو الإسكندرية وليست في عاصمة منفاه. حينما وصل زعماء الثورة العرابية نزلوا في بيوت ليس بها أثاث، ولكن الأمر تحسن بعد ذلك، وسكنوا في بيوت جيدة. يقول أنيس في كتابه، إنه زار منزل عرابي الذي كان لا يزال قائماً حتى تأليف كتابه، موضحاً أن به 4 غرف نوم واسعة سميكة الجدران، وأنه يطل على حديقة واسعة لا تقل عن 20 فداناً. كان لعرابي ورفاقه حرية التنقل في منفاهم، ويصرف لهم معاش من الخديوي "حاكم مصر"، ولكن السلطات الانجليزية منعتهم من الالتحاق بأي عمل هناك، كذلك فقد كان لهم نشاط اجتماعي كبير، وكان عرابي يستقبل الضيوف يومياً في منزله، ودعاهم إلى تعلم اللغة الإنجليزية، الأمر الذي قوبل بغضب ضيوفه، بحسب أنيس منصور. سرنديب التي أطلق العرب عليها سيلان، هي سريلانكا حالياً. دولة ليست غنية، ولا يقصدها المهاجرون، ولكنها ساحرة للسياح.

لا ريونيون

لا ريونيون كانت منفى لمحمد عبدالكريم الخطابي، الذي قاد ثورة الريف المغربي ضد الاستعمار الإسباني، في بداية القرن العشرين، وأسس ما عرف بجمهورية الريف عام 1921، ولكنها حُلّت بعد الهزيمة أمام 500 ألف جندي، هم قوام القوات "الإسبانية الفرنسية" التي داهمت الريف عام 1926، بحسب كتاب "محمد عبد الكريم الخطابي: آراء ومواقف (1926-1963)" لمحمد أمزيان. قضت السلطات بنفي الخطابي وأسرته إلى جزيرة لا ريونيون، وقضى بها 20 عاماً. لا ريونيون تقع في المحيط الهندي، شرق مدغشقر، اكتشفها البرتغاليون في القرن السادس عشر، ثم احتلتها فرنسا عام 1642، واستعمرتها وبدأت في إرسال المستعمرين إلى هناك، وكذلك جعلتها منفى للمتمردين ضدها. لا ريونيون الآن مدينة تابعة لفرنسا بشكل مباشر، وجزء لا يتجزأ من أراضيها، أي أن المهاجر إليها هو مهاجر إلى فرنسا، التي تمتلك سادس أقوى اقتصاد في العالم عام 2015، بحسب تقرير البنك الدولي. والهجرة إليها قد تكون حلماً للكثيرين من العرب. كذلك فإن لا ريونيون تتميز بطبيعة خلابة، تجعلها من المقاصد الرائعة للسياح.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق