الجمعة، نوفمبر 12، 2021

ثمرة المخيِّلة.. وحياة المبدع .. مقال للشاعر والكاتب الصحفى الأمير كمال فرج ابن كفرالزيات

الشاعر والكاتب الصحفى الأمير كمال فرج
عضو نقابه الصحفيين واتحاد كتاب مصر ابن كفرالزيات

 نظلم الشاعر كثيراً عندما نربط بين قصائده وحياته الشخصية، ونتتبّع مثل (شرلوك هولمز) في نصوصه الواقع بما يحمل من أسماء وأماكن، ونجمع الأدلة، ونظلم الروائي عندما نتعامل مع الرواية كسيرة ذاتية، ووثيقة تاريخية، وشهادة على العصر.

ومع تسليمنا بدور البيئة في العمل الأدبي، إلا أن الأدب في الأساس هو ثمرة المخيلة، الموهبة القادرة على التخيل والابتكار والخلق والتغيير، وصناعة عوالم جديدة قد تدنو من الواقع وقد تبتعد، وقد تكون عوالم ليس لها وجود.

وهناك من يؤمنون بالعلاقة السيكولوجية بين البيئة والعمل الأدبي، لذلك يتتبعون في النص الأدبي سمات شخصية، سواء كانت اجتماعية ونفسية، ولكن هذا برأيي مغامرة، فالواقع الذي قد يظهر حيناً ويغيب أحياناً أخرى في العمل الأدبي واقع معدل، خضع لسلطة الإبداع.. سلطة المخيلة.

قد يأخذ الشاعر مادته الأولية من الواقع، وقد يستلهم هذا الواقع الغني بالعديد من المواقف والشخصيات والحكايات والتناقضات، وقد يعتمد كلياً على الخيال، ولكن حتى هذا الواقع المستمد، خضع للتعديل، فأصبح هو الآخر خيالاً، أو قل (واقعاً متخيلاً أو خيالاً واقعياً) إن صح الاصطلاح.

حتى السيرة الذاتية، برغم الاعتراف الواضح بكونها سيرة وذاتية، مادامت مرت بمرحلة الإبداع فقد خرجت من نطاق الواقع المجرد، وأصبحت على يد المبدع سيرة ذاتية أو غيرية أو مزيجاً بين الاثنين. وكما هو معلوم فإن الشاعر يختلف عن المؤرخ، فبينما يحرص المؤرخون على تسجيل الوقائع والأحداث والأماكن، كما هي، دون زيادة أو نقصان، يعمد الشاعر بما يملك من أدوات، إلى تغيير هذا الواقع، قد يجمله ويزينه، فيرفعه إلى مرتبة الأساطير، في حالة الحب، وقد يشوهه ويظهر نواقصه ومثالبه، في حالة الكره، وهنا مكمن الإبداع. الإبداع يكمن في المسافة الفاصلة بين الواقع والخيال.

والخيال هو حجر الزاوية في العملية الإبداعية، وهو الذي يفرق بين القصيدة وتقرير الطقس، وبين الرواية والعمل الوثائقي، الخيال هو الفضاء الذي تنعقد من خلاله المقارنة، بين عالمين شديدي الاختلاف، هو اللون الأسود، الذي يكشف الألوان الأخرى.

والمبدع يتأثر بالبيئة، لا ننكر ذلك، ولكنه يتأثر أيضاً بالقراءة والتعليم والتجارب والمواقف والمشاهدات، قد يتأثر بتجارب الآخرين، ويتقمص الشخصيات والحيوانات والأماكن والظواهر والحالات، ويستشرف المستقبل، لذلك ليس من الصواب التعامل مع النص الإبداعي كنشرة اجتماعية، ولكن في بعض الحالات، يمكن أن يشي النص الإبداعي بملامح من الحياة الشخصية لصاحبه، ومن أمثلة ذلك المعلقات السبع أو العشر، والتي ذكر فيها كل شاعر اسم محبوبته وتغزل بها، ووقف على أطلالها، فكتب عنترة بن شداد في (عبلة)، وكتب طرفة بن العبد في (خولة)، وكتب زهير بن أبي سلمى في (أم أوفى)، وكتب الأعشى في (أم خليد)، وكتب النابغة الذبياني في (ميّه)، وكتب الحارث بن حلّزة في (أسماء).

وهناك شعراء عكست قصائدهم ملامح من الحياة التي عاشوها، مثل عبدالحميد الديب، الذي لقب بـ(شاعر البؤس)، وكان شعره يضج بالفقر، وتسيطر عليه النظرة السوداوية، وهو القائل (وهـام بـي الأسى والبؤس حتى.. كأني عـبلة والبؤس عـنتر).

وبرغم ذلك، لا يمكن التعامل مع هذه النصوص كشاهد اجتماعي، لأن هذا الواقع البائس، الذي تحول على يد الشعر، قد يكون أقل بؤساً، وقد يكون أكثر بؤساً، ومعرفة الحقيقة تستلزم بحثاً اجتماعياً.

من الصعب توثيق الإبداع، ومنحه ختم (طبق الأصل)، فذلك يشبه محاولة الإمساك بعصفور، فقد يصنع الشاعر واقعاً مختلفاً، قد يختلق الأسماء والمواقف والتجارب، قال الشاعر (خلقتُ في غزلي الأسماءَ كاذبة). لذلك كانت عملية البحث عن الواقع في النص الأدبي مضيعة للوقت.

وفي المجتمع يتعامل الناس مع القصيدة كحقيقة مسلم بها، فيحاسبون الشاعر على كل شاردة وواردة، ويرصدون المواقف والأسماء، ويعتبرون القصيدة تجسيداً للسلوك الشخصي للشاعر، وفي علم الاجتماع يعتبر الخبراء النص خير تعبير عن البيئة، وفي علم النفس بالغ البعض، وزعم أن العمل الإبداعي مثل اللوحة التشكيلية، يكشف الحالة النفسية، أما في النقد الأدبي فتعامل النقاد مع النص الإبداعي كمرآة نفسية، وأكدوا أن المعاناة شرط التجربة الإبداعية الصادقة، وهذا كله أشياء مجازية، لأن العملية الإبداعية في الأساس عملية تخيلية، ولو لم تكن كذلك لما وصفت بالإبداع.

إن العلاقة بين الإبداع والواقع علاقة ملتبسة، حيث يعتبر الكثيرون أن الابداع تعبير عن الواقع، حتى أولئك الذين يعترفون بالخيال في النص الأدبي، يتطرفون، ويدعون أن (أجمل الشعر أكذبه)، حتى على مستوى المبدعين، يجهل البعض الفرق بين الإبداع والواقع، القصيدة والتقرير الاقتصادي، اللغة الشاعرة واللغة الدارجة.

وفي ضوء ذلك، يجب إعادة التعريف بالقصيدة، والإبداع الفني، وطرق تناوله، ليس على مستوى البرج العاجي للنقد، ولكن على مستوى الأرض، من خلال ورش تعليمية على غرار ورش تعليم الرسم والفن التشكيلي، يتعرف فيها الناشئة والمحترفون إلى ماهية الإبداع.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق