الثلاثاء، نوفمبر 16، 2021

زمن البعاد .. قصه قصيره للأديب الكبير/ محمود عرفات ابن كفرالزيات الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عام 2005م


الأديب الروائى/ محمود عرفات ابن كفرالزيات
روائى وقاص مصرى حاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عام 2005م عن المجموعة القصصية "على شاطئ الجبل". شارك فى انتصارات أكتوبر المجيدة عام 1973م، كضابط احتياط فى أحد التشكيلات القتالية المدرعة بالجيش الثانى الميدانى.عضو اتحاد كتاب مصر.عصو نادى القصة.عضو الجمعية المصرية للسرديات.


اللقاء دافيء.. يليق بشيوخ جاوزوا السبعين.. أخذنا وقتا طويلًا في التحضير له. التقينا على باب النادي في الموعد المحدد بالضبط. أشعة شمس الشتاء الواهنة تفرش عباءة من الدفء المراوغ على المكان. مروان.. الرئيس السابق لمؤسسة النشر الشهيرة.. وطاهر.. صاحب مصنع الكابلات.. وأنا المحاسب.. الذى طوَّح به النصيب ليعمل في القطاع العام. أردنا أن نستعيد ذكريات إقامتنا معًا في خيمة واحدة.. أيام كنا نستعد للحرب.

تزاملنا في مدرسة المدرعات.. ثم تم ترحيلنا إلى التل الكبير.. قضينا معا أيامًا عانينا فيها من قسوة التدريبات. صدرت التعليمات بأن ننام في العراء بعيدًا عن المباني المعرضة لغارات الطيران.. فقرصنا البرد حتى تشققت أيدينا. أخيرًا سُمح لنا باستخدام خيام صغيرة تسع الواحدة منها ثلاثة جنود فقط. في واحدة من هذه الخيام عشنا شهورًا نتقاسم اللقمة والشوق للأهل.. ونمضغ المخاوف والوساوس.. ونحلم بالانتصار.

كان لا بد أن نفترق.. تم توزيعنا على الجبهة.. مروان في الجفرة وطاهر في القنطرة وأنا في سرابيوم. التقينا بعد الحرب مباشرة.. كان لقاء فرح ولهفة وعدم تصديق. قضينا نهارًا كاملا ومعظم الليل نحكي عن انتصارنا.. ونتبادل الحكايات والنوادر والأخبار.. ونحلم ببزوغ أفق جديد.
عقب تسريحنا بعد الحرب تباعدت لقاءاتنا بحكم انصراف كل منا لعمله الجديد.. والانشغال بتكوين أسرة.. والانغماس في تفاصيل الحياة اليومية.

أطلُّ من فوق جبل السنين العالي وأعدُّ الأعوام الفائتة. أصبحنا نحصي الزمن الذى مر علينا بعشرات السنين. أشعر بالهلع.. وأفكر.. هل مرت علينا هذه السنوات؟ وهل عشناها حقًا؟ وكيف تركناها تتسرب من بين أيدينا؟ حتى تبدو وكأنها وهم.. أين الوهم وأين الحقيقة؟ آه من الزمن.. ذلك المنضبط الرهيب.. لا ننتبه لعمله فينا.. لكننا نرى بصماته على وجوه الآخرين.

تصافحنا في بشر ومودة.. وأخذ كل منا يتأمل الآخريْن بتمعن. نظراتنا لبعضنا سجلت إحساسنا بالتغير.. قلت لهما: المهم أن نواصل اللقاء. همس طاهر وكأنه يكلم نفسه: وهل سيكون لقاء آخر؟ قال مروان: ظننت أننا لن نلتقي.. الحمد لله على كل حال. ارتفع صوته كأنه اكتشف قارة جديدة: لكنك يا حمدي لم تتغير كثيرًا. قلتُ هامسًا كأني أذيع سرًا: لأنني أمسك بالزمن من خناقه راجيًا أن يكون رحيمًا بي. فهمس: وهل تظن أنه التفت إليك؟

اقترح مروان أن نجلس في الشمس لنأخذ مشروبًا. اخترنا جانبًا يمنحنا أشعة الشمس ويقينا لفحة الهواء البارد.. انسال حديث الذكريات ونحن نرتشف القهوة. حدثنا طاهر عن المتاعب التي لقيها قبل أن ينتزع وكالة تصنيع كابلات الكهربا.. وذاق المرار ليقيم مصنعه. هز رأسه في أسى.. ثم التفت نحوي بنظرة متسائلة.. فشعرت أن الوقت حان لأتحدث.. قلت ضاحكًا: أنا من ضيع في الأوهام عمره.. اخترت العمل في القطاع العام وفي ظني أنني سأسهم في تحقيق انتصار حضاري موازٍ للانتصار العسكري الذى حققناه في أكتوبر.. لكني اكتشفت بعد ثلاثين عامًا أنني كنت أحرث في البحر وأطارد طواحين الهواء باندفاع دونكيشوتي. قاطعني مروان: كف عن لوم نفسك يا صديقي.. يكفيك شرف المحاولة. وقال طاهر: إحمد ربنا أن طوفان الفساد لم يجرفك في طريقه.
دعانا مروان للانتقال إلى المطعم لتناول الغداء. اخترنا طاولة بجوار الجدار الزجاجى لننعم بدفء الشمس. طلب طاهر أن أختار له الطعام. نظرت له مبتسمًا وهمستُ: لم تتغير.. لا تلتفت للأكل كثيرًا.. الكباب يتساوى عندك وسندوتش الفول. قال ببطء: لم يسبب لي الأكل مشكلة.. لكن الأولاد أفسدوا ذوقي. تناولنا الطعام بشهية وفي مرح يليق بشيخوختنا. طلبنا الحلو.. اخترت طبق كريم الكراميل.. وطلب طاهر طبق أم علي.. أما مروان فأحجم عن الحلو قائلا: يكفيني ما أكلت.. ترعبني السكريات. استرخينا على مقاعدنا في خمول فهتف بنا مروان: إلى الحديقة يا رفاق حتى لا ننام على مقاعدنا. عدنا إلى الحديقة واخترنا ركنا هادئا تغمره شمس العصر الحانية.

نظرت إلى مروان بعمق ثم سألته أن يحكي لنا تفاصيل معركته مع الحوت الهارب. أشاح بيده قائلًا: يوووه.. الحكاية صارت قديمة.. ونصف شهودها ماتوا. مال قليلًا إلى الأمام وأخذ يقرأ من صفحات ذاكرته. أخذت أتأمل ملامح وجهه التي اصطبغت بالجدية وهو يحكي. هدأ وهو ينهي حديثه: في النهاية حافظت على مطبعة عملاقة لا أملكها.. ولكن تملكها الدولة. تدخل طاهر موضحا: أنت محارب عنيد.. حاربت العدو المحتل في ثلاثة وسبعين.. وحاربت الفساد بعدها.. وخصمك راح في داهية. تنهد مروان في حسرة وتمتم: آلاف مثله كمنوا في الجحور.. ينتظرون الفرصة.

مالت الشمس نحو المغيب.. وأحسست بلسعة برد خفيفة. قلت لهما: مشوار العودة طويل.. ويجب أن أغادر. قمت واقفًا ففهم مروان ما أريده فأشار إلى المكان الذي يعلو قليلًا عن صالة الطعام. صعدت درجات السلم إلى الحمام. عدت بعد لحظات. في أعلى السلم.. نظرت فلم أجد صاحبيّ. لكني رأيت على الطاولة رجلين آخرين.. على رأسيهما تاج من شعر أبيض قطني.. ظننت أن صاحبيّ انتقلا إلى طاولة أخرى.. فتجاوزتهما. سمعت طاهر يهتف: هيه.. على فين. انتبهت من غفلتي وعدت إلى حيث يجلسان في المكان الذى تركتهما فيه. انتبهت إلى الشيب الكامل يكسو رأسيهما.. وكأني أراهما للمرة الأولى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق