الأحد، يوليو 05، 2020

رقصة العدالة

بقلم
الأستاذ/ على الفقى المحامى والروائى الكزداوى

ها هي قد ظهرت خلف المركز ، بوجهها المستدير تتوسطه ابتسامة مشرقة ، عكس هذا الصباح الخريفي القائظ دون سطوع شمسه ، ورغم ذلك بدا هذا الوجه مثل القرص الأحمر- مما ينبئ عن مجهود بذلته لكي تحضر – تعلوه تحجيبه خضراء فاقع لونها ، كلون البلوزة الخضراء المشجرة الطويلة ، فوق بنطلونها الزيتي الضيق الذي يهتز مع كل خطوة تدقها قدميها على الأرض ، فلا تطرف أعين الناظرين لها ، كأنها على رأس مظاهرة قد انفضت توا ، فتفرق الجمع مرهقا ، إلا أن رقابهم قد أبت الالتفات عنها ، وعنى .. انتظرتها كثيرا ، أخطو سلالم المحكمة طلوعا نزولا عند الباب العمومي ، كمن يتدرب على ماراثون الصعود والهبوط ، جذبتها من ذراعها
- تأخرت يا سميرة ؟
ضحكت .. فظهرت أسنانها الساطعة بتفلجها المبهج ، التفتت على الضحكة وجوه العساكر وأمناء الشرطة المكلفين بخدمة أمن المحكمة ، كأن أمامهم مسرح يضحكون على ممثليه خاصة عندما احتضنتني، آخذة بصدري داخل البهو الفسيح الذي يتوسط مبنى المحكمة ، غير عابئة بأني محام معروف بوقاره بين زملائه قبل الموظفين والعمال ، وغير مبالية باندهاشتى لعدم سؤالها – كعادة المتقاضين – عن قضيتها وما تم فيها ، وأنا لا أجد الفرصة للآن لكي أقص عليها مافعله القاضي معي وتصميمه على حضورها ومناقشتها في ما هو منسوب إليها .
سحبتني من يدي حتى الحائط المواجه للبوابة ، المصمم على هيئة نصف دائرة ويشبه قبلة الصلاة ، أشارت بسبابتها إلى الميزان المائل المعلق على هذا الحائط ، تتسرب ضحكاتها رفيعة متواصلة ، بينما تعلقت نظراتي لأعلى على المحامين والجمهور الذين وقفوا فى الأدوار العلوية يشاهدون هذا المشهد الغريب ، وهى تلفني بيديها حول خصري ترقص ، تضحك ،تميل يمينا ويسارا ، للأمام والخلف .
عيب .. تعالى نجلس.. نتكلم .. القضية .
انتظر قليلا .. لن تطير الدنيا .
اتركي يدي .. وكوني براحتك .. وغير مسؤل عن تصرفاتك .
لن أتركك .. ستظل معي .. انتظر قليلا حتى أخرج من هذه من الحالة.
تركت يدي وكأن شيئا ما تلبسها ، دارت حول نفسها كراقصة باليه ، ثم بسرعة تلقفت يدي مرة أخرى واسترسلت فى الضحك .
مالت برأسها تحت الميزان ثم أراحته على صدري قليلا .
القاضي أصدر حكما عليك بالسجن سبع سنوات مع الشغل .
دارت دورة أخرى حول نفسها ، وأخذتني معها لأدور دورة كاملة على كعبي ، تركت يدي وصفقت تصفيقا منغما ، ثم سحبت يدي حتى منتصف البهو ، صنع الناس الحضور حولنا دائرة ، وبدأوا فى التصفيق المنغم والابتسام الساخر الممزوج بالإعجاب .
هل تعرفي ماذا فعل القاضي مع أشرف سائق اللودر ؟
رفعت حقيبتها تديرها فى الهواء ثم خبطتها فى الميزان الذي أحدث دويا نحاسيا ، تلقفتها مرة أخرى فى صدرها ،
ربطتها فى وسطها وبدأت رقصة الفلامنكو .
أشرف اقسم بالله العظيم انه لم يكن فى المظاهرات ، وانه أثناء اتجاهه باللودر لمقر الشركة شاهد طلاب التظاهرة والعمال وكل من اشترك فى الجمهرة فى مواجهته ، خاف عليهم أن يدوسهم فحول اتجاه اللودر وعاد عكس الاتجاه ، فوجئ بالقبض عليه واتهامه بالسير فى المظاهرة وتسهيل التظاهر للطلبة واستخدام اللودر لتعطيل الأمن ومهمة الشرطة والتحريض على العنف ، اقسم اشرف للقاضي بأنه فى حياته لا صلى ولا صام إلا فى السجن طوال فترة الحبس الأحتياطى وان الطلبة هم الذين علموه العبادات ، وان عمره ما سار فى مظاهرة ولا يعرف أخوان ولا سلفيين ولا يعرف يعنى إيه سياسة من أصله ولا....ثم أجهش بالبكاء .. فارتفعت ضحكات سميرة متواصلة وسط تصفيق الحلقة التي حولنا تصفيقا منغما، راقصا أحيانا، هادئا أحيانا أخرى، كأنهم كورال الفرقة.
فتح باب قاعة الجلسات فجأة ، خرج الحاجب العملاق بأعلى صوته – سكوت .. محكمة..
خرج القاضي من قاعة الجلسة فصمت كل من فى البهو والأدوار العلوية ، ينتظرون رد الفعل من سميرة التي اعتدلت واقفة بعد أن كانت مائلة على صدري ، سارت نحوه بخطوات واثقة ، اخترقت الحلقة ، نظرت فى عينيه

الجامدتين ، امتدت يدها برفق على صدره فانكمش قليلا ، أحكمت قبضتها رباطة عنقه وسط وجوم من الحاضرين ، مالت عليه ، همست فى أذنه – ممكن تكمل الرقص معي ؟ لم تمنحه فرصة اختيار أو تفكير .
جرته داخل الحلقة التي دوت بالتصفيق والصفير.
اخترقت صفارة الأمن ، أسكتت جميع الأصوات والهرج الدائر ، أصبح الصمت هو المسيطر بعد التفاف الحرس حول القاضي ، شدوا الأجزاء يشهرون أسلحتهم فى وضع الاستعداد والضرب ، رشقت سميرة عينيها فى عيني القاضي الرماديتين كأنها تقوم بتنويمه مغناطيسيا ، وسط ترقب من الجماهير الحاشدة حتى أخفض عينيه ، وبإشارة منه تراجع الحرس إلى صفوف المتفرجين، وبحركة مفاجئة – بينما كنت أبتسم - خطفت حقيبتي بما بها من ملفات ،وضعتها فى يد القاضي اليسرى وأمسكت بيسارها يمناه ، وحقيبتها فى يدها اليمنى ، ثم أخذت تتمايل فيميل معها وسط مراقبة الأفواه المفتوحة والعيون المندهشة ، والجميع التزم الهدوء والترقب في جميع أركان المحكمة .
خرج سكرتير القاضي من غرفة المداولة إلى الدائرة التي اتسعت وزادت حتى الدور الرابع ، ما أن رآها حتى تدحرجت نظارته على أرنبة أنفه وأرسلت عينيه دهشتهما لعينيها التي اتسعت وابتسمت لوجهه الذي تفجر منه الدم ، عندما راودها عن نفسها وحكي لها عن غرفة حفظ الشرعي التي تصبح خالية بعد صلاة الظهر ، على وعد بحصولها على البراءة ، فتلقف وجهه المكتنز السمين لطمتين على الخدين الملتحمين وبصقة بين العينين .
واصلت ضحكها وغرزت لسانها في وجهه ودارت حول القاضي الذي رشق نظرة التأنيب في عيني أمين سره
اتجها لقلب القبلة ، صنعت معه ميزانا شبه معدول تحت الميزان المائل ، ارتجف ، ابتسمت ، حاول إفلات يده من قبضتها الجامدة ، قالت
– أبى مات في الحجز لأنه كان يدافع عنى وعن بيتنا عندما اقتحموه بلطجية .
واصلت الضحك بينما يواصل اهتزازه ، أكملت بصوت عال
-اتهموني بالجنون لأني حاولت الحصول على حقوق أبى وانفصلت من عملي ...
زرفت دموعا ، مسحت عينيها في كم البلوزة
وزوجي طلقني وتزوج بعدى اثنتين...
لم أستطع فعل شئ غير أنى سحبت حقيبتي بهدوء من يدها التي ارتخت وانسحبت صاعدا قاعة المدني ، وتركتها لمصيرها المجهول .
هبطت زغرودة استمرت وطالت وامتدت حتى وقعت على صدور الجميع من الدور الرابع إلى ساحة الطابق الأرضي ، ارتفعت جميع الرؤوس لأعلى ومالت مع القاضي للخلف وهى مازالت ممسكة بيده ، فبدا المشهد كأنه نهاية فقرة ، خبط الجميع أكفهم ، البعض مصفقا سعيدا ، والبعض مندهشا لا يصدق الخبر الذي سقط من أفواه النساء اللائي أطلقن الزغاريد .
الرجل الكبير براءة
أولاده براءة
أتباعه براءة ... وكل الناس براءة
والله الراجل غلبان ويحيا العدل .
يانهار أسود !! يعنى إحنا اللي قتلنا عيالنا
هبط الناس جميعا من الأدوار العلوية عبر السلالم يتراقصون ،يتمايلون ، إلى البهو الأرضي ،يتحلقون كأنهم في حلقات الذكر، فساد الهرج وأفلت القاضي يديه منها وحضنه سكرتيره ، التف حولهما الحرس يشهرون أسلحتهم وطبنجاتهم حول الدائرة ، بينما ارتكنت سميرة تحت الميزان الضخم، وبسرعة وضع العساكر الكلبشات في يديها فتبعثرت حقيبتها ، وأطلقت صواتا ملضوما ضخما ، التقم وابتلع جميع الزغاريد التي بدأت تقل وتخفت حتى انتهت . أسلحة الحرس فى وضع الاستعداد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق