ضفافنا ملتقى لمبدعى ومثقفى وعلماء ونجوم كفرالزيات, ولا يدخلها إلا المثقفين

الخميس، يونيو 04، 2020

هل حقاً يقتلنا الحزن؟ وصفات للصبر من الشعر والقصص العربية


الأستاذ/ محمد حسين الشيخ 
كاتب مصري، عمل كصحافي تحقيقات، وكاتب مقالات لعدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية منذ عام 2004، وكان مساعدا لرئيس تحرير موقع دوت مصر، ومهتم بالتاريخ والفن. وابن قليب ابيار بكفرالزيات

من القصص العربية القديمة والشائعة، أن عفراء، فتاة قبيلة بني عذرة، فرّقها أهلها عن حبيبها وابن عمها عروة بن حزام، وزوّجوها من رجلٍ شامي، وحين أعلموها بوفاة عروة ظلت تنتحب وتردد:

ألا أَيُّها الرَّكْب المُخِبُّونَ وَيْحكم/ بحق نَعَيْتُم عروة بن حزام

فلا يَهنأ الفتيان بعدَك لذةً/ ولا رجعوا من غَيْبة بسلام

وقل لِلحُبالى لا تُرَجِّينَ غائباً/ ولا فرحاتٍ بعده بغلام

وقيل إنها ظلّت تردّد هذه الأبيات وأبيات أخرى تَنْدُب بها حبيبها حتى ماتت بعده بأيام قلائل، حسبما جاء في مصادر متعددة منها تاريخ بن عساكر.

هذه القصة التي تفيد أن الحزن قد يقتل صاحبه ليست فريدة من نوعها، ونستطيع أن نرصد في كتب التاريخ والتراجم العربية، أن ضمن أسباب الموت عند العرب هو "الموت كمداً"، ومن هؤلاء الذين ماتوا كمداً على سبيل المثال الإمام البخاري راوي الحديث، الذي مات كمداً بسبب حسد منافسيه له وتضييقهم عليه في نيسابور، حسبما يذكر الحافظ ابن عديّ الجرجاني في كتابه "ترجمة من روى عنهم البخاري". ومنهم أيضا الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، الذي مات حزناً على موت ابنه أيوب، حيث توفي بعده بـ42 يوماً، حسبما يوضح ابن أيبك الصفدي في كتابه "الوافي بالوفيات".

وهناك حشود هائلة من الأشعار والأمثال عن الموت كمداً، منها ما ننقله عن "مصارع العشاق" لجعفر بن أحمد السراج، حيث يقول المؤمل بن جميل، من شعراء القرن الثاني الهجري، الثامن الميلادي:

إني إذا لم أطق زيارتكم/ وخفت موتاً لفقدكم كمدا

أخلو بذكراكم فتؤنسني/ فلا أبالي لا أرى أحدا

ومنها قول الصوفي الأشهر أبو منصور الحلاج:

يا طالب النصرَ من أعداك مُتْ كمداً/ كطالب الشُهْـدَ من أنياب ثعبان

ضمن أسباب الموت عند العرب هو "الموت كمداً"، ومن هؤلاء الذين ماتوا كمداً على سبيل المثال الإمام البخاري راوي الحديث، الذي مات كمداً بسبب حسد منافسيه له وتضييقهم عليه في نيسابور

وفي سفر الأمثال بالعهد القديم نقرأ: "الْغَمُّ في قلب الرَجل يحْنِيه، والكلمة الطيبة تُفرِحُه". وفي مسرحية "الحسين شهيداً"، يقول مؤلفها عبد الرحمن الشرقاوي، على لسان الحسين بن علي: "الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور"، وهذه الأقوال ما هي إلا دليل على تجذر فكرة أن الحزن يقتل داخل ثقافتنا.

في المقابل نجد أن الثقافة العربية على قدر اعتقادها في قوة الحزن وتأثيره المميت، نجد أنها أيضاً تدعو للصبر عليه والسلوان، وتحتفي بالأمل، من منطلقات متعددة، منها دنيوي فلسفي، ومنها ديني عقائدي، وهو ما نوضحه فيما يلي:

الديانات والأمل في حياة أخرى أفضل

الديانات السماوية المنتشرة في منطقتنا حلت لأتباعها المشكلة، فإذا كانت الدنيا صعبة، فهناك أمل في حياة أخرى بعد الموت، يُبعث إليها الإنسان، ويُكافأ على إيمانه وصبره؛ فالدنيا "ما هي إلا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها"، كما يُنسَب إلى السيد المسيحعليه السلام. ويُنسَب إلى بولس في رسالته لأهل رومية قوله: "أما الذين بصبر في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء، فبالحياة الأبدية"، وإنما "الآخرة هي دار القرار"، و"يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" كما جاء في القرآن، ويقول النبي //سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام// عن الدنيا إنها "كظل شجرة، والمرء مسافر فيها إلى الله، فاستظل في ظل تلك الشجرة في يوم صائف ثم راح وتركها"، بحسب ما ننقل عن "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" لابن قيم الجوزية.

أن ملكاً بنى قصراً لم يرى الراؤون ولم يسمع السامعون بمثله، ودعا الناس في مدينته أن يأتوا إليه في هذا القصر، ولكنه أجلس امرأة جميلة في الطريق إلى القصر، متزينة بأبهى زينة، ومعها الكثير من الأعوان والمساعدين الذين يقدمون الزاد والهدايا لمن يمرون عليها في طريقهم إلى القصر.وبسبب هذا الاتجاه، نجد استهانة بشأن الدنيا في السرديات العربية الأدبية، وتعظيما لمعنى أنها مجرد مرحلة انتقالية، واختبار، من يصبر عليه ويجتازه يفوز بنعيم الآخرة. ويسوق ابن قيم مجموعة من القصص المحبوكة أدبياً عن ذلك، ومنها:

وأمر الملك المرأة بأن من يغض طرفه عنها ويتجه إلى قصره مباشرة، بأن تسهل له الطريق وتساعده على الوصول بسرعة، أما من يقف مع المرأة ويحاول أن يتقرب منها ويفضلها على زيارة قصر الملك، فأمرها أن تسلط عليه أعوانها لتعذيبه.

ويوضح الجوزي أن المرأة الجميلة هنا هي الدنيا، وأن الملك هو الله، وأن القصر الجميل هو الجنة، فمن فضل الدنيا على الآخرة ابتلي بالعذاب وحرم من الجنة، ومن انصرف عنها وانشغل بطريقه إلى الله وصل إليه وتنعم بنعيمه في الآخرة.

الحكماء يصبرون فيكسبون والحمقى يتسرعون فيخسرون

الثقافة العربية تمجّد الصبر على الحزن كقيمة مقترنة بالحكمة التي تجلب السعادة، وفي هذا يقول ابن القيم: إن الله جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً غالباً لا يُهزم، وحصناً حصيناً لا يُهدم ولا يثلم، فهو والنصر أخوان شقيقان.

ونسب إلى الخليفة علي بن أبي طالب، حسبما جاء في "المستطرف في كل فن مستظرف" لشهاب الدين الأبشيهي، قوله:

لا تَضجَرَنَّ وَلا يَحزُنكَ مَطلَبُها/ فَالنَجحُ يَتلَفُ بَينَ العَجزِ والضَجَرِ

إِنّي رَأَيتُ وَفي الأَيّامِ تَجرِبَةٌ/ لِلصَبرِ عاقِبَةٌ مَحمودَةُ الأَثَرِ

وَقَلَّ مَن جَدَّ في أَمرٍ يُطالِبُهُ/ وَاستَصحَبَ الصَبرَ إِلّا فازَ بِالظَفَرِ

هناك بعض المصادر تنسب نفس الأبيات إلى الشاعر العباسي ابن يسير الرياشي، وبصرف النظر عن صحة نسبها لهذا أو ذاك، فشيوعها يدل على احتفاء بها لدى مدوني ومؤلفي كتب التراث عبر التاريخ العربي.

ومن القصص التي يسوقونها كدليل على أن الحكماء هم من يصبرون فيكسبون، ما ذكره الجوزي عن قوم سلكوا طريقاً في الصحراء فأصابهم العطش، فانتهوا إلى البحر وماؤه أمرّ شيء وأملحه، فلشدة عطشهم لم يشعروا بمرارته وملوحته فشربوا، ولكنهم بالطبع لم يرتووا، وجعلوا كلما ازدادوا شرباً ازدادوا ظمأً، حتى هلكوا. وعلم عقلاؤهم أنه مر مالح، فتباعدوا مسافة وصبروا حتى وجدوا أرضاً حلوة، فحفروا فيها بئراً فنبع لهم ماء عذب، فشربوا وعجنوا وطبخوا ونادوا إخوانهم الذين على حافة البحر: هلموا إلى الماء الفرات. فمن تبقى منهم انقسم بين مستهزئ ورافض، وبعضهم صدق وذهب إليهم.

توضح القصة كيف أن الذين صبروا على العطش فازوا، وأن من تسرعوا تعذبوا وهلكوا. وفي هذا يقول الخليفة عمر بن الخطاب: "أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً"، حسبما ينقل ابن أبي الدنيا في كتاب "الصبر". وينقل ابن أبي الدنيا أيضاً أن امرأة قرشية قالت:

لئن كان بدءُ الصبر مرّاً مذاقه/ لقد يُجتَنَى من غِبه الثمر الحلو.

لابد للقيد أن ينكسر

من الأسباب الدافعة والمشجعة على الصبر، أن من طبيعة الدنيا التقلب والتغيير، ولذلك فإن اليوم لو بدا صعباً فإن غداً بالتأكيد سيختلف، ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر، كما يقول الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، مؤكداً أن الإنسان إذا أراد الحياة بصدق فلابد أن يستجيب القدر.

هذا الاتجاه شائع جداً في الثقافة العربية، فهناك كتب كاملة صنفت في ذلك، بجانب أبواب كاملة لنقل أشعار وأمثال وحكايات عربية تدعم هذه الرؤية، ونجد ذلك في "قصص العرب" لإبراهيم شمس الدين، الذي خصص باباً في الجزء الأول من موسوعته بعنوان "في الصبر على المكاره"، وضمنه فصل بعنوان "في التأسي في الشدة والتسلي عن نوائب الدهر".

ومن هذه القصص والأقوال، ما ورد عن شاعر العصر العباسي الشهير، البُحتري، الذي أراد أن يشد من عزيمة صديقه السجين محمد بن يوسف، ويسليه، فقال:

وما هذه الأيام إلا منازل/ فمن منزل رحب إلى منزل ضنك

وقد دهمتك الحادثات وإنما/ صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبك

أما في نبي الله يوسف أسوةً/ لمثلك محبوس عن الظلم والإفك

أقام جميل الصبر في السجن برهةً/ فآل به الصبر الجميل إلى الملك

وهنا يستخدم البحتري صورتين شعريتين ليبشر صديقه، الأولى أن الذهب كي يصير ذهباً لابد أن يمر بعملية السبك التي يتعرض خلالها لنيران شديدة، أما الصورة الثانية فهي النبي يوسف الذي تحمل السجن وصبر، فمكنه صبره من مُلك مصر بعد ذلك، بحسب القصة القرآنية.

"كم يسر أتى من بعد عسر".

وفي تقلبات الدنيا والمحن فائدة، فهي تعلم الإنسان أن دوام الحال من المحال، ولن تظل المحن قائمة للأبد، "وكم يسر أتى من بعد عسر وفرج لوعة القلب الشجي، وكم هم تساء به صباحاً فتعقبه المسرة بالعشي"، بحسب الأبيات الشعرية المنسوبة لعدد من الشخصيات الإسلامية، وأشهرها الإمام علي بن أبي طالب، وابنته السيدة زينب.

ومن ذلك ما قاله الفنان العباسي الشهير أبو إسحاق الموصلي في زميله إبراهيم بن المهدي العباسي، حين سُجِن:

هي المقادير تجري في أعنتها/ فاصبر فليس لها صبر على حال

يوما تريك خسيس الأصل ترفعه/ إلى العلاء، ويوما تخفض العالي

ومن هذا أيضا قول الشاعر:

إذا تضايق أمر فانتظر فرجاً/ فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج

وقال آخر:

فلا تجزعن إن أظْلَم الدهر مرةً/ فإن اعتكار الليل يؤذن بالفجر.

رب ضارة نافعة

لا يصحّ أن يجزع الإنسان الجريح من جرحه لأن هذا الجرح هو الثقب الذي يؤدي إلى تسلل النور إلى داخله، هكذا يعظ جلال الدين الرومي مريديه في سفره "مثنوي"، فمن الأمور التي تجعل الإنسان يصبر على الشدائد، أنها قد تكون سبباً في خير له.

ومما سجله العرب، ونقله صاحب "قصص العرب" في ذلك، أن ناصر الدولة الحمداني، أول ملوك الدولة الحمدانية، كان يشكو من ألم في القولون، وعجز الأطباء عن علاجه، فخافوا أن يعاقبوا على فشلهم، فحرضوا رجلاً على قتله، وهجم الرجل على الحمداني ليقتله بخنجر، فطعنه، ولم تكن الطعنة قاتلة بل كانت شافية له، حيث طالت القولون فقط، فأفرغت ما كان فيه من مواد كانت هي السبب في إعيائه.

لا يصحّ أن يجزع الإنسان الجريح من جرحه لأن هذا الجرح هو الثقب الذي يؤدي إلى تسلل النور إلى داخله، هكذا يعظ جلال الدين الرومي مريديه في سفره "مثنوي"، فمن الأمور التي تجعل الإنسان يصبر على الشدائد، أنها قد تكون سبباً في خير له

ومن هذه القصص أيضاً نذكر، قصة "المعتمد ومنصور الجمال"، ومفادها أن الخليفة المعتمد العباسي نام، فاستيقظ جزعاً مذعوراً، وقال آتوني بمنصور الجمال، وكان منصور سجيناً ولا يعرفه المعتمد قبل ذلك.

فلما أتوا به إلى المعتمد سأله عن مدة مكوثه في السجن، وعن سبب سجنه، فأخبره بأنه مسجون منذ عام ونصف، وأنه سجن ظلماً بدلاً من سجين آخر، نتيجة رشوة تلقاها الحارس ليترك أحد قطاعي الطرق يهرب، وأخذ منصور بدلاً منه حتى يبدو الأمر أمام قائده طبيعياً، ولا يلاحظ أن هناك خللاً في عدد المساجين.

وأوضح منصور أنه بالأساس جاء من الموصل بعد أن ضاق الحال عليه، سعياً للرزق، ولم يستطع أن يكسب شيئاً، لأنه بمجرد وصوله سُجِن.

وبعد أن حكى ذلك قرر المعتمد أن يكافئ منصور، فأعطاه 500 دينار، وقرر له 30 ديناراً كراتب شهري، وجعله مسؤولاً عن جماله، وأخبره بأن سبب ذلك أنه رأى في منامه النبي محمد يقول له: "أطلق منصور الجمال من السجن وأحسن إليه".

مجمل القصة يوضح أن منصور الجمال لو لم يحبس ظلماً، ما تعرف على الخليفة العباسي، أهم قائد في العالم الإسلامي، ولم يكن يحظى بهذه الأموال وهذه الوظيفة، فرب ضرة نافعة والصبر على البلاء ربما يؤدي إلى حال أفضل مما كان، بشرط أن يتجرع الإنسان المرارة من غير تعبُّس، حسبما يقول الجنيد البغدادي، فالصبر لا يكون صبراً مع لعن الواقع والظروف وجلد الذات وإنما هو "السكون عند تجرع غُصَص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة"، حسبما ينقل أبو القاسم القشيري في "الرسالة القشيرية" عن الصوفي الشهير ذي النون المصري.


ليست هناك تعليقات: