الجمعة، يونيو 26، 2020

ما هو سرِّ الوجد العنيف الذي ينتاب جمهورَ "ليالي ياسين التهامي"؟

الأستاذ/ محمد حسين الشيخ 
كاتب مصري، عمل كصحافي تحقيقات، وكاتب مقالات لعدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية منذ عام 2004، وكان مساعدا لرئيس تحرير موقع دوت مصر، ومهتم بالتاريخ والفن. وابن قليب ابيار بكفرالزيات

حشودٌ بالآلاف، تحيط بمئاتٍ من الرجال الذين يتراقصون بعد أن انتظموا في صفوف، أمام رجلٍ يرتدي جلباباً فلاحياً مصرياً، وعلى رأسه عمامةٌ بيضاء، وفي يده مسبحةٌ، وعلى كتفه كوفية. الراقصون ليسوا كالراقصين، هم خليطٌ من كل أشكال الرجال في مصر، تتنوع مظاهرهم بين الفقر والثراء، وثقافاتهم بين قمة العلم وقاع الأمية، وإن طغى على أغلبهم الطابعُ الريفي المصري. إنهم "الذَّكِّيرة" الذين يمارسون "التَّفْقير"، ويغضبون لو قيل إنهم يرقصون، لأنهم يحركون أجسادهم وفقاً لما تمليه عليهم أرواحهم المحلقة في عنان السماء، بفعل القصائدِ الموغلةِ في الحب الإلهي، أو حبّ سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم أو آل بيته أو الأولياء، والتي ينشدها الشيخ ياسين التهامي الذي يقف على المنصة، ومن خلفه جوقتُه الموسيقية التي تتكون من آلاتٍ شرقيةٍ بسيطة: كولا (من أشكال الناي) وكمان، ومظهر أو "رِق"، وطبلة، وقد يضاف إليها العود والقانون في ظروف استثنائية. وأحيانا يكتفي بالإيقاعات والكمان فقط.



يتبدل على وجوههم خليطٌ من المشاعر، من ابتسامة إلى عبوسٍ إلى شرودٍ إلى بكاءٍ إلى هتافٍ وصريخ، ويصل بعضهم إلى الإغماء، بفعل الحالة التي وصل إليها، تأثرًا بالشيخ ياسين التهامي، أشهر وأهم المُنشدين في مصر على الإطلاق، والذي تجاوزت شهرتُه مصر، وغنى في بلدان أوروبية وآسيوية مختلفة، حتى وصل إلى الأوليمبيا، أعرقِ مسارح باريس.
ما الذي يصل بـ"الذَّكِّيرة"، وأغلبُهم ريفيون بسطاء لم ينالوا في الغالب حظاً كبيراً من التعليم، إلى هذا الهيامِ مع قصائدَ عربيةٍ فصيحة موغلةٍ في التعقيد اللغوي، والرمزية، لكبار الصوفية، كعمر ابن الفارض أو رابعة العدوية أو محيي الدين ابن عربي، أو غيرهم من الذين اعتاد الشيخ ياسين أن يغني أشعارَهم؟ أستاذ الموسيقى بجامعة ألبرتا الكندية مايكل فريشكوف Michael Frishkopf، أعدَّ دراسةً بعنوان "طرب في الإنشاد الصوفي المصري - Tarab in the Mystic Sufi Chant of Egypt"، وذلك بعد زيارةٍ لمصر ومعايشةٍ لحفلات الإنشاد، وبدعمٍ وتعاون مع عدد من المتخصصين ومشايخ الإنشاد الصوفي في مصر، وعلى رأسهم الشيخ ياسين التهامي. قدم فريشكوف وصفاً تحليلياً لحفلات الإنشاد الديني في مصر، والتي تقام إما بالساحات المجاورة لأضرحة آل البيت والأولياء، في أعياد ميلادهم، فيما يطلق عليها "الموالد"، أو في الليالي التي يحييها محبو التصوفِ في أعراس أو حفلات شخصية. كما حلل الباحثُ المهتمُ بموسيقى الشرق الأوسط أسبابَ الوجد الشديد والعاطفة الجياشة، التي تنتاب حضورَ حفلات الذكر الصوفي، أو التي تنتاب المُنشد، متخذاً من الشيخ ياسين التهامي نموذجاً شارحاً لتلك الحالة، باعتباره أشهر المنشدين، وقائداً لتيارٍ صوفيٍّ شعبي، يوازي التيارَ التقليدي الذي تمثله الطرق الصوفية.

كيف يُنشد ياسين؟

قبل معرفةِ سرِّ الوجد العنيف الذي ينتاب جمهورَ "ليالي ياسين التهامي"، لابد أن نعايشَ أولاً ليلة من تلك الليالي، ونتعرفَ على تفاصيلها. يقسمُ ياسين لياليه إلى 3 وصلاتٍ في الغالب، الوصلةُ الأولى تُبنى موسيقاها على إيقاعٍ واضح وقد يكون سريعاً، ويتوقف بعدها للاستراحة، أما الثانيةُ فهي بلا إيقاع، وقد يدخل في استراحة بعدها، أو بشكل مباشر يبدأ الوصلةَ الثالثة، والتي تشهد إيقاعاً يشبه الإيقاع الذي كان في الوصلة الأولى ولكن بتجويد، وعادة تكون الوصلة الأخيرة أقصر. ويستمر الحفلُ حوالي ساعتين ونصف، وقد يمتد إلى 4 ساعات. قد يسبق ياسين تلاوةُ ترتيلية للقرآن، من قارئ يعتلي المنصةَ قبله، تبدأ بسورة الفاتحة وتليها مجموعه أيات أخرىا يتجاوز القارئ في تلاوته 20 دقيقة.




ويبدأ النغم متصاعداً بشكل ارتجالي على الكمان في الغالب، وأحيانا على الكولا. خلال هذا الوقت، يبدأ منسقُ "الذّكّيرة" الذين يرغبون "التَّفْقير"، في ترتيبهم بالخطوط المواجهة لياسين، عمودياً، على الحافة الأمامية من المنصة. يبدأ الموسيقيون العزفَ بإيقاعٍ متدرجٍ متصاعد، وغالبا يردد الشيخ ياسين "الله ... الله"؛ ويلتقط مُنَظِّم الذكيرة ضربةَ الإيقاع الأولى فيضعُ نمطاً حركياً لجسده ويصفق بيديه، فيتبعه الآخرون. دقاتُ الإيقاع لا يتمّ تضخيمُها بنظام "الباس – Bass"، وتخرج رفيعةً حادة، بينما يتم تعليةُ صوت الكمان والكولا بشكل كبير. الصلاةُ على النبي ومناداتُه بأقوال من نوعية "يا أعظم المرسلين.. يا جليس الذاكرين"، هي البدايةُ المعتادة لياسين، والتي يتبعها بالمزيد من الثناء على النبي، ثم آل بيته خاصة المشاهير منهم (الإمام علي، السيدة فاطمة، الحسن، الحسين، السيدة زينب، السيدة نفيسة بنت الحسن). بعد ذلك ينادي على المشاهير من الأولياء وأكابرهم كالسيد البدوي والرفاعي والدسوقي وغيرهم، ثم ينادي على أولياء قد لا يكونون معروفين إلا على مستوى نطاقاتٍ محليةٍ مصريةٍ ضيقة، ومع النداء على كلّ وليٍّ يقول "مدد.. يا مدد"، وكأنه يستحضرُ قوى هؤلاء الأولياء ليعينوه على المديح والذكر والإنشاد. وغالباً يعود للمناداة على الأولياء وطلب المدد في منتصف الإنشاد، للتخفيف من صعوبة الشعر الذي يلقيه، فهي الصيغةُ (يا مدد) التي لا يحتار الجمهور أبدا في فهمها، وتكون دائماً على إيقاعٍ سريعٍ جداً.
"الذَّكِّيرة" راقصون يُحركون أجسادَهم وفقاً لما تمليه عليهم أرواحُهم المحلّقة في عنان السماء... ما الذي يصل بهم إلى هذا الهيامِ مع قصائدَ عربيةٍ فصيحة موغلةٍ في التعقيد اللغوي، والرمزية، لكبار الصوفية من الذين اعتاد الشيخ ياسين أن يغني أشعارَهم؟
يمتلك المنشد مواهباً روحيةً خاصة، بما في ذلك البصيرة والشفافية، التي تنجم عن تدريبِه وخبرته بجمهوره، فهو قادرٌ على إدراك الحالةِ العاطفية لمستمعيه، ويمكنه اختيار الشعر الذي يتعامل مع ظروفهم الروحية
يأتي بعد المدادت الأولى أولُ دفقةٍ من الشعر، يقولها بتلوناتٍ نغميةٍ مختلفة، وتتخللُها فواصلُ موسيقية. الفواصل تعمل على إعطاء الراحة للمنشد، وترسخ التغييرات في المقام الموسيقي، ما بين حزن (صبا) إلى فرح (سيكا)، إلى غيرها من مقاماتٍ تحمل دلالاتٍ مشاعرية متنوعة، تناسب سياقَ الشعر. أما الكلمات فيكوّنها الشيخ ياسين من مصادرَ عديدة في الليلة الواحدة، لكن هناك عادة قصيدةً أو قصيدتين رئيسيتين، مع مقتطفاتٍ شعرية قصيرة أخرى من هنا وهناك، فالشيخ ياسين حرُّ في اختيار الشعر ليتناسب مع مزاجه الخاص، ومزاج مستمعيه، ولا يتقيّد بقصيدةٍ كاملة. وقد يولف بعض أبياتٍ من قصيدةٍ على بعض أبيات من قصيدةٍ أخرى منسجمةً معها في المعنى، لينتج قصيدتَه الخاصة، ويعطيها اسمها تجارياً حين تطرح في الأسواق، كما في "معنى الحسن"، التي أخذ جزءها الأول من "القصيدة التائية" لأبي حامد الغزالي: https://soundcloud.com/ibrahim-soliman-12/1a-1 وأخذ الجزءَ الثاني لها من قصيدة "سقتني حميَّا الحبِّ راحة مُقلتي"، لعمر ابن الفارض: https://soundcloud.com/ibrahim-soliman-12/2a-1 خلال الحفل، يجب على "الذكيرة" متابعةُ التغيرات الإيقاعية، التي تغيّرُ استجاباتِهم العاطفية،  فتتغير بالتبعية حركاتُهم، وتعابير وجوههم، وعادة ما تعلوا هتافاتُهم وصرخاتُهم مع "القفلة الموسيقية"، أي مع ختام المقطع الغنائي بشكلٍ انفعالي، يصل فيه الشيخ إلى ذروة آدائه الطربي، وقمة المعنى الشِّعري. وهنا تزداد احتماليةُ أن يفقدَ بعض "الذكيرة" اتزانهم، ونلحظ هياجاً، وقد نسمع صريخاً وآهات ودموع، وقد يصاب أحدُهم أو أكثر بتشنجاتٍ، أو يسقط مغشياً عليه. بعد الوصلة الأولى يأخذ الشيخُ ياسين استراحة.. وهنا يتسابقُ الجميع للسلام عليه لتحيته، وفي الوصلة الثانية يختفي الإيقاع تماماً، ويجلس الذًّكّيرة على الأرض أو يظلوا واقفين، للاستماع لإنشاد الشيخ المصحوب بنغم خفيف من الكولا والكمان، في أداءٍ يشبه الموالَ الشعبي. بعد الوصلة الثانية، قد تكون هناك استراحةٌ أخرى، أو قد يدخل ياسين في الوصلة الثالثة مباشرة. والوصلة الثالثة هي نسخةٌ مختصرة من الأولى، لكنها أكثرُ تكثيفاً، وتكون على إيقاعٍ متصاعدٍ تدريجياً. وبعد أن يصل إلى الذروة، يختم الشيخ إنشادَه بصيغةٍ من صيغِ الصلاة على النبي أو تحية آل البيت أو صاحب "المولد"، ثم يدعو لقراءة سورة الفاتحة. وقد يحدث تغييرٌ في هذا النظام، إذا غنى ياسين على مسرح تقليدي داخلَ قاعةٍ مغلقة، أمام جمهورٍ مختلفٍ عن جمهور "الموالد":
والآن.. ما سرُّ هذا الوجد العنيف؟ أجملَ فريشكوف سرَّ هذا الوجد في مجموعةِ عواملَ متشابكةٍ، وهي الشعرُ الصوفي كتجربةٍ روحية بها اتصال مع الله، ودورُ المنشد والموسيقى الصوفية في وصل الجمهور بهذا الشعر، ثم تبادلُ الشعور وتوحدُ الحالة بين المنشد وجمهوره ولاسيما "الذّكّيرة"، في سياقٍ صوفيٍّ ديني تساهم فيه عواملُ المكان والزمان والحالة النفسية للمنشد والجمهور.

الشعر الصوفي.. وجدٌ إلهيٌّ غامض يتدفق

شعرُ الصوفية هو واحدٌ من المفاتيح الأساسية لقوتها. والشعر هو المعيار الرئيسي للتقييم الجمالي للمنشد، وأبرزُ سماتِ أدائه. ويختلف الشعرُ الصوفي نوعياً عن الشعر العادي، تماماً كما يختلف الشاعر الصوفي نوعياً عن الشاعر العادي، فالصوفي يمتلئ بمشاعرَ داخليةٍ قوية، تتطلب التعبيرَ عن طريق الكلمة أو الفعل الحركي. وعندما تكونُ وسيلة الصوفي التعبيرية شعريةً، يطلق عليه "الشاعر". لكنه أولاً وقبل كل شيء صوفيٌّ، تمثل كتابة الشعر بالنسبة له تنفيساً أو إظهاراً لتجربة باطنية، وليست جهداً فنياً مصطنعاً. وتعتبر محطاته الروحية حاسمةً للفعالية العاطفية لكلماته. ويعتقد المنشد والذكيرة وأغلب الجمهور، أن الشاعرَ الصوفي مرتبطٌ بشكل جيد بالنَّسَب الصوفي، وتتدفق عليه البَرَكة من خلاله، فالصوفيُّ قد أخذ العهدَ من شيخه، ويتصل به روحياً، وشيخُه يتصل بشيخه، وكلهم في رباطٍ مع آل البيت وجدِّهم النبي محمد، وبالتالي فإن الشعرَ الصوفيَّ هو الوجودُ الملموس لهذه البَرَكة المحمدية. من طريقٍ آخر، قد ينسب الشعرُ الصوفي لشيخٍ ميت لم يقله حقيقة، إنما أتى في المنام لأحد محبيه أو تلاميذه وأملاه عليه، فقرأه وكتبه التلميذُ أو المحبُّ على أنه من شعر شيخه، وهو أمرٌ يضفي هالة من التبجيل أو يجوز القداسة على الشعر، كونه من أقوال الرفاعي أو الجيلاني أو البدوي أو الدسوقي أو غيرهم. المنشد والجمهور يعلمان أيضاً أن هذا الشعر لم يُنتج بشكلٍ طبيعي، بل في ظروف روحانية خاصة جدا، فهو تعبيرٌ عن حال المتصوف مع الله، بعد تعرضه لوجدٍ عنيف أوصله إلى اتحاد مع الله، أو على الأقل مع النبي، فشاهد اللهَ أو النبيَّ، وفاضَ حبُّه وفاقت مشاهدته قدرتَه على الكتمان، فتكلم وظهر كلامه كشعر. وهناك من يصابُ بالجنون إذا لم ينفس تلك العاطفة الناتجة عن الحال، بحسب الشيخ ياسين، لذلك فإن الأغلبيةَ العظمى من أكابر المتصوفة إن لم يكن جميعُهم لديهم دواوينُ شعر. والحالُ عند الصوفية هو "نازلةٌ تنزل بالقلوب فلا تدوم"، كما يقول الجنيد البغدادي. ويوضح محمود بن علي القاشاني أن الحالَ هو "ما يردُ على القلب بمحض الموهبة من غير تعمّل، كحزن، أو خوف، أو بسط، أو قبض، أو شوق، أو ذوقٍ يزولُ بظهور صفات النفس". الشعرُ يتكون داخل الصوفي بسرعة كبيرة، فهو فيضٌ إلهي، وعادة لا يراجع شعرَه، أو يراجعَه بشكل بسيط جداً. وغالباً ما يخرج الشعر من الذاكرة الحية لحالة "الحال"، أو أثناء وجود الصوفي في الحال نفسِه، حيث ينطق القصيدة تلقائياً ويلتقط تلاميذُه إلهامه على الورق، إذا ما تصادف وجودهم معه في وقت الحال. وما يخرج من الحال قد يثيرُ الحالَ في المستمع الحساس روحياً، رغم أن عقله قد لا يستوعب المعنى المادي للشعر، وفي الغالب يكون الشعر غيرَ فكريّ، وموغلاً في الرمزية والتشفير، وبالتالي يحتاج فهمه إلى حالةٍ روحيةٍ أكثر ما يحتاج إلى عقلٍ تقليدي يفكر، وعن ذلك يقول ياسين التهامي: "كلام أسيادنا الكبار لا يُفَسّر". 

المنشد.. مفكك الشفرات، وسفينة "الذّكّيرة" إلى السماء

الشاعر الصوفي هو وليٌّ، وبالتالي فإن كلماتِه لها قدسيةٌ روحية، لكن المنشد هنا هو لسانُ الشاعر وبالتالي فإن أداءه هو من يعطي وضوحاً وعمومية لهذا الشعر، فهو يحاول سدَّ الفجوة الكبيرة بين الشعور الغامض للحال الذي كان عليه الشاعرُ الصوفيُّ أو الولي، وبين اللغة العقلية المفهومة، وفقا لشعوره ومعتقده هو كمنشد. فتنتج على الفور نشوةٌ روحيةٌ مشتركة، بين المنشد وبين مستمعيه، الذين يطربون حتى ولو لم يفهموا كلَّ ما قيل بعقولهم، لكنهم يذوبون مع المنشد ويحدث بينهما انسجامٌ وتبادلٌ للشعور الواحد، بل اتحادٌ في الحال الصوفي نفسه، فينتج عن ذلك رنينٌ عاطفيٌّ، يؤدي إلى الصورة التي نشاهدها. هذا الشعور التبادلي يجعل المنشدَ يسير وفقاً للمزاج العام الذي هو بالتبعية جزء منه، فقد يرتجل في اللحن أو الكلمات، بالحذف أو الإضافة، أو التكرار، ما يزيد من إلهابِ الحالةِ العاطفية العامة. ولكن هناك مرحلة إعدادٍ للمنشد، قبل تحمل هذه المسؤولية الروحية مع جمهوره، فهو كصوفيٍّ لابد أن يعايشَ الكلماتِ قبل أن يغنيها ويلتقي ترددها الروحي مع تردده، وهو رجلٌ محترف ذو خبرةٍ بالشعور والممارسة الروحانية، تعلّم أن يشعرَ بحبِّ الله والنبي وأهل البيت والأولياء. فهو يعيش مع الشعرِ، ويستوعبُه حتى يشعر بمغزاه، ويصبحَ بمثابة تعبيرٍ عن تجربته الخاصة، بحسب ما يقول الشيخ ياسين.

ويعيش المنشد روحياً مع الشاعر الصوفي وأحواله، ويتفهمها تماماً، ما يزيد اندماجَه معه وكأنه لسانه، وفي بعض الأحيان يصعد الشاعر – إذا كان حيّاً- مع المنشد على المنصة ليحمسه ويلهمه، كما كان يفعل الشاعر "الشيخ عبد العليم" مع الشيخ ياسين التهامي. وإذا كان ميتاً يستجدي المنشد روحه، ويحاول استحضارَها.. ويُقولون إن أروع حفلات الشيخ ياسين تكون في ذكرى مولد الصوفي عمر بن الفارض، لأنه ينشد في تلك الليلة من شعره، وهو أكثرُ شعراءِ الصوفية الذين يغني لهم ياسين، وأقربُهم إليه، بحسب فريشكوف. ويمتلك المنشد مواهباً روحيةً خاصة، بما في ذلك البصيرة والشفافية، التي تنجم عن تدريبِه وخبرته بجمهوره، فهو قادرٌ على إدراك الحالةِ العاطفية لمستمعيه، ويمكنه اختيار الشعر الذي يتعامل مع ظروفهم الروحية. هذه المواهب تسهِّل كثيراً دوره كوسيط بين الشاعر والمستمع. كذلك فالمنشدُ يُلقَّب بـ"الشيخ"، تعبيراً عن نظرة الناس إليه وتبجيله، كصوفي، وصل إلى مرحلة أنه يستطيع الأخذَ بأياديهم والسباحة في عالم الروح، ووقوفه أمامهم، وإنشاده يشبه بشكلٍ كبير الواعظَ الذي يقف على المنبر ليخطب في المصلين، أو يشبه شيخَ طريقةٍ صوفية يقف على رأس حلقة الذكر ويقودها. كذلك يؤدي المنشدُ، في سياقٍ ديني يعزز تعبيره – غالبا في ذكرى مولد وليّ- وإلى جمهور متصوفٍ يبحث عن شعور روحاني حقيقي، وكثيرٌ منهم يستطيع بشفافيته كشفَ التزوير العاطفي. فما يغنيه المنشد ليس حاله فقط، ولكنه أيضاً حال مستمعيه. وكلما كان المنشد متسقاً مع كل ما سبق، كان أكثر تأثيراً على جمهوره، ومما يميز ياسين التهامي عن منشدين كثر، ويجعله نموذجاً بين جمهور المتصوفة، أنه تربى تربيةً إسلامية، ودرس في الأزهر، والأهم أن والده "الشيخ تهامي حسنين" كان وليّاً تنسب إليه الكراماتُ، وله ضريحٌ مدفون به ومسجد باسمه بقرية الحواتكة التابعة لمحافظة أسيوط، وهناك يقام احتفالٌ سنويٌّ بذكرى مولده.

المنشد مطربٌ تعبيري ذو سلطة مطلقة

الغناءُ التقليديّ الحديث يشهد زوالَ سلطة المغني بشكلٍ كبير، مع تعزيز سلطةِ الشاعرِ والملحن والموزع الموسيقي، حيث يلتزم المغني بما كُتب له، ولكن في الإنشاد لا يحدث ذلك، بل المنشدُ "الشيخ" هو صاحبُ السلطة المطلقة على الموسيقى والشعر

إلى جانب ما سبق، يجب أن يمتلكَ المنشد بعضَ المهارات الموسيقية الأساسية، والأهم من ذلك القدرةُ على التعبير عن الشعور الصوتي، عن طريق التلاعب بالموارد الموسيقية، مثل الجرس، الديناميكيات، التوقيت، الإيقاع، المقام، ولون المقام. وهو مرتجلٌ محنّك، قادرٌ على تعديل الأبعاد الموسيقية والشعرية للأداء، في الوقت المناسب، من أجل زيادة التواصل العاطفي مع الجمهور. وهذا هو فن الطرب، الذي كان منتشرًا في الموسيقى المصرية التقليدية قديماً. وتذكرنا الموسيقى الصوفية الطربية القائمة الآن بما كان عليه الطرب في مصر قبل عام 1930، وأصبح هذا الطرب نادراً في الموسيقى والأغاني التقليدية العربية الحديثة، التي تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على الارتجال. وغالبا تُقتبس موسيقى الإنشاد من كلاسيكيات الأغاني العربية الشرقية، مع إجراء تعديلاتٍ عليها أحياناً. أخيرا فإن الغناءَ التقليديَّ الحديثَ يشهد زوالَ سلطة المغني بشكلٍ كبير، مع تعزيز سلطةِ الشاعرِ والملحن والموزع الموسيقي، حيث يلتزم المغني بما كُتب له، ولكن في الإنشاد لا يحدث ذلك، بل المنشدُ "الشيخ" هو صاحبُ السلطة المطلقة على الموسيقى والشعر، وهي مسؤوليةٌ كبيرة، ولكنها ضروريةٌ للمنشد الواعي، كي يستطيعَ تكييفَ ما يشدو به مع الحالةِ الروحانية له ولجمهوره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق