السبت، يناير 14، 2023

شجرة وكرسي.. قصة قصيرة للأديب الكبيرالأستاذ/على الفقى المحامى ابن كفر الزيات

 

 الأديب الكبير  أ/ على الفقى ابن كفر الزيات

فى عيد ميلادها اشترى لها شجرة عيد الميلاد، حملها فرحا بها قائلا فى نفسه سأنيرها فى ركن حجرتك علها تدفئنا وأنا أقص عليك حكايات عن الناس الذين يتعاملون فى الشارع، وأشكالهم وهم يعلقون الكمامات فى آذانهم ويتبادلون الحوارات والقبل فى الأسواق.

استقبلته بابتسامتها المعتادة، أدار الكرسى المتحرك الذى تجلس عليه متجها للشرفة، مبتسما للشمس التى بدأت تفرش دفئها على الجسد الواهن كصوتها.

ــ البس الكمامة ياحبيبى

ــ لا تخافى ياحبيبتى فأنا وأنت حياة واحدة ومصير واحد.

ارتكن على سور الشرفة وقطف ثمرة من شجرة ميلادها، عندما جلسا لأول مرة تحت شجرة الياسمين فى حدائق المنتزه، وداعب خيالهما العطر وهو ممدد على العشب ساندا رأسه على ساقها، كانت تبتسم للشمس كما تشرق ابتسامتها الآن.

- ما رأيك ان أسند رأسى على ساقك وأنت على الكرسى.

ضحكت بخفة: يا راجل..

أدار الكرسى ونزل بركبتيه وسند رأسه على ساقها، امتدت ضحكتها فى مواجهة الفضاء من شرفة الدور العاشر.

- أنا خايفة عليك من الوباء، يقولون إن الفيروس خطير.

انتبها على معركة فى الشارع بين عمال اليومية وارتفاع كلاكسات السيارات التى تعطل سيرها بسبب الزحام.

دائما يحاذر الزحام والالتحام، فى ظل هذا الوباء المنتشر، الناس مختنقة، مهرولة، ولا هم للفقراء إلا لقمة العيش، ولا للتجار إلا نمو ثرواتهم.

إيقاع المعركة يتصاعد والجنون يتفشى بينهم، ترتفع صفارات سيارات الشرطة، وتتفرق الوجوه بين الدهشة والإنكار.

يترامى صوت محمد قنديل من إذاعة الأغانى انشا الله انشا الله ما اعدمك.

يبتسمان ويردد: ياجميل ياجميل انشا الله ما اعدمك

ضحكت وقلدت صوت فريد الأطرش: ما انحرمش العمر منك يا حبيبى.

ــبعد جلسة الغسيل غدا نستظل تحت شجرة محل العصير ونشرب كوبين القصب كالمعتاد.

كأنه تذكر شيئا فقال: والآن نستغل حلاوة الطقس ونستحمى.

أدار الكرسى، دخل بها الحمام وشرع فى خلع ملابسها بحذر على هشاشة العظام وتيبس العمود الفقرى،وضع الملابس فى الغسالة وبدأ يضبط الماء الدافئ.

خلع ملابسه وبقى بالشورت فقط، يستمتع هو الآخر ببخار الماء الساخن الذى غمر الحمام.

يميل عليها الدش بجسده النحيل ورأسه الموخوط بالشيب فوق وجهه الأسمر الموسوم بالعناء

يتأمل وجهها المبتسم بانتشاء وحسرة.

ــ انت خسيت قوى.

ــ الزمن ياحبيبتى.. كبرنا.

أراد أن يقول لها: وأيضا ليس فى النفس شهية للأكل، الأولاد هم الذين يأكلون.

إلى أنه لاحظ خيطا من الدم يسيل من أنفها، فوضع الاسفنجة التى يحممها بها، المبللة بالصابون والعطر والكحول يمسح أنفها قبل ان تلاحظه، وابتسم فى عينيها.

أنت أخدت قرص الضغط.

صعدت عيناه بالكرسى وهى عليه، اخترق السقف وصعد بها للسماء، ألقى الكرسى واقتلع شجرة من بين السحاب، وقفت، استظلا تحتها، واقتطف كوبين من العصير، ضحكا وهما يشاهدان زملاءها مرضى الكلى وهم يستريحون على كراسيهم تحت شجرة محل العصير.

استندت إلى الشجرة، احتضنها رفعها، اتخذ الوضع طائرا، أراد أن يصعد بها سدرة المنتهى يتأملان الجنة، ضغط على ذراعيها ليحملها فوقه ويجعل من ظهره بساطها السحرى.

ــ أااه.. حاسب دراعى.

ارتد إليها من رحلته القصيرة لاهثا، جففها، ألبسها الملابس النظيفة وخرج بها من الحمام.

ــ الأولاد تأخروا.

منذ خروجه إلى المعاش لا يرى الأولاد إلا ليلا عند النوم وقليل من نهار الجمعة.

لم يهرب أبدا من أبيه ورعايته، عشرون عاما بعد وفاة أمه وهو ينام بالقرب منه، وفى مرضه الأخير كان ينام تحت سريره على أوراق الصحف فى المستشفى، وفى الظهيرة يدفع به الكرسى المتحرك فى حديقة المستشفى، وكأن الحياة عند مرحلة من العمر تصبح عبارة عن كرسى نستريح عليه وشجرة نستظل تحتها.

وقبل أن تقع ثمرة أخرى من شجرة ذكرياته، جاء صبى الحارس فى الموعد الذى حدده له، حمل الكرسى الخشبى الذى يستريح عليه تحت الشجرة التى تظلل مقابر العائلة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق