الأربعاء، أغسطس 03، 2022

نقد النقد والإبداع الموازي في "التَّغرِيبَةُ المصريَّةُ للشاعر والكاتب الأمير كمال فرج - مُقارَبَةٌ نقدِيَّة" بقلم الشاعر والناقد الدكتور أحمد علي منصور*


صدر عن دائرة الثقافة بالشارقة بنهاية عام 2021م. وفي هذا الكتابِ البديعِ المَتِيعِ يَعرِضُ المؤلفُ موضوعَهُ ورؤيتَهُ الثقافيَّةَ مِن خلال المُقارَبةِ النقديةِ لِثلاثةٍ من الأعمالِ الإبداعيَّةِ الشِّعرِيَّةِ المَلحَمِيَّةِ، لِثلاثةٍ من كبارِ شُعراءِ العامِّيَّةِ المصريةِ الراحلينَ؛ وهي: "جَوابات حَراجِي القُطّ"، لعبد الرحمن الأبنودي، و"يوميات عبد العال" لفؤاد حجَّاج، و"تغريبة عبرازق الهلالي" للدكتور يسري العزب.

بقلم الناقد د/ أحمد منصور
ابن كفرالزيات
ويبدو لي أنَّ المُرادَ من هذا الكتابِ لم يَكُنْ عَرْضَ هذه المُقارَباتِ النقديَّةِ لتلك الأعمالِ، على النَّحْوِ الذي يقتَصِرُ فَحَسْبُ على القِراءةِ الأدبيةِ الفنيَّةِ التي تَتَوَسَّلُ بِأدواتِ النّقدِ التقليديَّةِ أو المُحدَثَةِ، لِمُجَّردِ الوُقُوفِ على القِيمَةِ الإبداعِيَّةِ لهذه الأَعمالِ، أو مُعاوَدَةِ الكَشْفِ عن مَخِابِئِها الدَّلالِيَّةِ سَعْيًا لإضافةِ الجَديدِ من مَفاتِحِ تَأويلِها، وانتِهاءً بالوُقُوفِ على آفاقٍ مُتجَدِّدَةٍ مِن مَجالِيها الفنِّيةِ أَو الجَمالِيّ

 ولكنَّ المؤلِّفَ –فِيما أَرَى- لابُدَّ وأنَّه أرادَ غيرَ ذلك، على النَّحْوِ الذي يُمكِنُ أَن نَتَبَيَّنَهُ بِوضُوحٍ مِن القراءةِ المُتأنِّيَةِ لِلكِتابِ، وفُصُولِهِ، ومَوضُوعاتِ مَباحِثِهِ، وفي نِطَاقِ تلك القضايا والإشكالِيَّاتِ المُتعدِّدةِ المُتداخِلَةِ التي تَعَرَّضَ لها الكتابُ، والتي تَتَجَاوَزُ مَجالَ الأَدبِيَّةِ، إِبداعًا ونقدًا، لِتَشتَبِكَ بِما هو سِياسِيٌّ، واجتماعِيٌّ، واقتصادِيٌّ، وقانُونِي، ولِيَصُبَّ كُلُّ ذلك -في النهاية- في بَوْتَقَةٍ فِكْرِيَّةٍ نابِضَةٍ بِالإنسانِيَّةِ بكل معانيها.


المؤلف الأمير كمال فرج
ابن كفرالزيات
وعلى ذلك يكونُ الإِنسانُ هو موضوعَ هذا الكتابِ، وغايتَهُ، لاستِعَادَةِ النَّظَرِ في مَفهُوماتِ وقضايا الإِنسانِ والإنسانِيَّةِ، في كلِّ زمانٍ، وفي كلِّ مكانٍ، فيما يَتَجَاوَزُ الإِطارَيْنِ التاريخِيِّ (الزَّمانِيِّ) والجُغرافِيِّ (المَكَانِيِّ) لِلنَّماذِجِ المَوضُوعِيَّةِ التي اتَّخَذَ مِنها المُؤلِّفُ نَماذِجَ لِتَطبِيقِ رُؤيتِهِ الفِكريَّةِ الشامِلة.

 فَصحِيحٌ أنَّ المؤلِّفَ قد اختار نماذِجَ أَدبِيَّةً تَنتَمِي لِلأَدَبِ الشَّعْبِيِّ العَربِيِّ، والمِصرِيِّ مِنْهُ بِخَاصَّةٍ، كَما تَنتَمِي لِشَرائِحَ اجتِماعِيَّةٍ مُعيَّنةٍ، وهي شَرائِحُ المُهَمَّشِينَ والمَسحُوقِينَ مِنَ الفُقَراءِ والكَادِحِينَ في البِيئَةِ الاجتِماعِيَّةِ المُعَيَّنَةِ المُخْتَارَةِ لِلبَحْثِ؛ وهي بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ بِيئَةٌ ريفِيَّةٌ، أَبطالُها مِن بُسَطاءِ الناسِ الذين تَطْحَنُهُمْ عَجَلاتُ التَّحَوُّلاتِ التاريخِيَّةِ القَاسِيَةِ على كافَّةِ الأَصْعِدَةِ، وبِخَاصَّةٍ الظُّرُوفُ السياسيةُ والاقتِصاديةُ وغيرُها، إلاَّ أنَّ المُؤلفَ وقد اتَّخَذَ التجارِبَ الإِبداعِيَّةَ المُختارَةَ، والتي دَارَتْ حول هذه الطَّبقَاتِ، إِنَّمَا هُوَ –من خِلالِ مَسارَاتِ بَحْثِهِ، ومِن خِلالِ ما تعرَّضَ له من نَماذِجَ أُخرى إبداعيَّةٍ قَديمَةٍ وحَديثة، فَضْلاً عن دراستِهِ المُوسَّعَةِ لِقضايا الغُربَةِ والسفرِ والرحيلِ والهجرةِ بِأشكالِها، الطَّوْعِيَّةِ والقَسْرِيَّة، قد استطاعَ –أَيِ المُؤَلِّفُ- أن يَتوسَّعَ بِبَحْثِهِ وغاياتِه خارِجَ هذا النِّطاقِ، لِيجعَلَ الموضوعِ خَارِجَ الأُطُرِ الزَّمانِيَّةِ والمَكَانِيَّةِ، لِتَمَسَّ العملِيَّةُ البَحْثِيَّةُ العَدِيدَ مِنْ قَضايا الإِنسانِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.

حتَّى أنَّ الكاتبَ يجعَلُنا –ونحن نقرأُ الكتابَ، ونُفكِّرُ مع المُؤلِّفِ، ونتأمَّلُ، ونَتفاعَلُ- نَقِفُ دَاهِشِينَ ونحن نَكتَشِفُ معه -مِن جديدٍ- هذا الفاعِلَ الوُجُودِيَّ الخَطِيرَ؛ وهو "الغُربَةُ"، ولِنعرِفَ أنَّ هذا الفاعِلَ لم يَكُن مُجرَّدَ ظاهِرةً على هامِشِ الحَوادِثِ الدَّهْرِيَّةِ التي يَتعَرَّضُ لها الإنسانُ، إِنَّما "الغُربَةُ" هي عُنوانٌ رئيسٌ مِن عُنوانَاتِ مَسِيرَةِ الإِنسانِ الكَونِيَّةِ، وقَدَرٌ أَصيلٌ من أَقدارِهِ الحَيَاتِيَّةِ، ورِحلَةٌ يَتَحَتَّمُ أَن يَخُوضَ البَشَرُ في أَنفَاقِهَا المُعْتِمَةِ المُخِيفَةِ، رِدْحًا مِن أَعمارِهِمْ، أو رُبَّما مِنهم مَن يَقضُونَ كُلَّ أعمارِهم رَاحلِينَ أَو مُسافِرِينَ، في غُربَةٍ لابُدَّ مِنها، وإن تَعدَّدتْ أَشكالُها؛ سواءً الغُربَةُ عن الأَوطانِ، أو الغُربَةُ في الأَوطانِ، وسواءً الغُربَةُ في المَكانِ، أو الغُربَةُ في الزَّمان.

 وأنا أتحدثُ –الآنَ- عن تلك المَجَالِي التي دَفَعَنِي إليها الكِتابُ الذي قرأْتُه بِرُمُوشِ العَينِ أَكْثَر من ثلاثِ مرَّاتٍ حتى الآن، بِرغم ضَخامَةِ الكتاب (439 صفحة)؛ إِذ أنَّني مَعَ وُقُوفِي الطَّويلِ أمامَ المُقارَباتِ النَّقدِيَّةِ الفَنِّيَّةِ البَدِيعَةِ لِلمُؤَلِّفِ، ورَوعَةِ تلك اللحظاتِ التي أَعَدتُّ فيها القراءةَ المُتَعَمِّقَةَ والكاشِفَةَ لِلنَّماذِجِ الإِبداعِيَةِ المُختَارَةِ، فَضْلاً عن وُقُوفِي أمامَ مُقارَباتِهِ البَحْثِيَّةِ الوَاعِيَةِ لِقضَايا السفرِ والهجرةِ الشرعيةِ وغيرِ الشرعيةِ (وِفْقًا للاصْطِلاحاتِ المَوضُوعَةِ المُحدَثَةِ)، وكُلِّ ما يتعلَّقُ بِقضايا الغُربَةِ الزَّمكانِيَّةِ، مَدعُومَةً بِاستِشهَادَاتِ المُؤلِّفِ بِالدِّراساتِ والتَّقارِيرِ والِإحصاءاتِ، فإنَّنِي وجدتُّنِي أَندَفِعُ إِلى تَأمُّلاتٍ وقِراءاتٍ وَاسِعَةٍ تَتَجاوَزُ تِلك الأُطُرِ؛ لأَقِفَ على ضَرُورةِ استِعادَةِ قِراءةِ المَشْهَدِ الإِنسانِّي كُلِّهِ، في ضوءِ التَّجارِبِ الدَّهرِيَّةِ القَدِيمَةِ والأَبدِيَّةِ القَاسِيَةِ للإِنسانِ، بِوَصْفِهِ كائِنًا مُغْتَربًا، وغَرِيبًا أيضًا.

 وليس مِنَ المُبالَغَةِ، حين نَستَعِيدُ هذه التجرِبَةَ الدَّهرِيَّةَ، أَنْ نَصِفَ الإِنسانَ بِأنَّهُ "كائِنٌ مُغتَرِبٌ"، و"غَرِيبٌ"؛ ولِمَ لا، والإِنسانُ، كَجِنْسٍ مَخلُوقٍ، إِنَّما حَلَّ على كوكَبِ الأَرضِ ضَيْفًا، وما هِي عَالَمَهُ الكَونِيَّ الأَوَّلَ، كما أنَّها ليست هي عالَمَهُ الأَخِيرَ. ذا لأَنَّ وُجُودَ الإِنسانِ نفسَهُ على الأَرضِ إنَّما كان بِوَصْفِهِ مَطرُودًا مِن الجَنَّة، خَرَجَ منها وحَوَاءَ لِيَشْقَى؛ حين أَمَرَهُ المَوْلَى (عَزَّ وجَلَّ) وزوجَه بِأَنِ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا؛ أَي من الجَنَّةِ مَوْطِنِهِ الأَوَّلِ، إلى الأَرض.

 وكأنَّ الغُربَةَ –إِذَنْ- هي أولُّ أَقدارِ الإنسانِ، بَلِ الغُربَةُ، ولا أَقُولُ الرَّحِيلَ، ولا السَّفَرَ، كانت هِي عَيْنَ أَقدارِ الإِنسانِ؛ لأنَّ الخَالِقَ حين أَسْكَنَ آدمَ الجَنَّةَ لَمْ يَكُنْ لِيُفاجَأَ بِخَطِيئَةِ الإِنسانِ حتَّى يُقَدِّرَ له الأَرضَ مَنْفًى أَبَدِيًّا إلى أَن تَقُومَ السَّاعَةُ، بَلْ نَفْهَمُ –إِذَنْ- أَنَّ خُطَّةَ أَقْدارِ الإِنسانِ كَانَتْ عِندَ الخَالِقِ مَعْلُومَةً، لِتَتَوَاصَلَ أَقدَارُ الإِنسانِ مُنذُ خَلْقِهِ إلى أن تَقُومَ السَّاعَةُ، على وِفْقِ المَسِيرَةِ الكَونِيَّةِ المَرْسُومَةِ لِلإنسانِ، والتي سَبَقَ عِلْمُ الخَالِقِ بِها قَبْلَ أَنْ تَكُونَ.

 وكما كانت الغُربَةُ، والهِجرَةُ، والرَّحِيلُ، أَقْدَارَ الأَنبِياءِ، فقد كانتْ أَقدارَ بَنِي الإِنسانِ مُنذُ القِدَمِ، وإِلى الآنَ، وإِن كان ذلك القَدَرُ يُصِيبُ الإِنسانَ بِأَشكَالٍ مُتنوِّعَةٍ شَتَّى؛ القليلُ منها مَرْغُوبٌ (كَالسِّياحَةِ، أَوِ السَّفَرِ المُؤَقَّتِ لِقَضاءِ الحَاجَاتِ)، والكَثيرُ مِنها غَيْرُ مَرْغُوبٍ، كَالنَّفْيِ، والطَّرْدِ، والمُطَارَدَةِ، والرَّحِيلِ مِن بَلَدٍ إِلى بَلَدٍ، أو عِدَّةِ بِلادٍ، بحثًا عن الرِّزق تَارَةً، وعَنِ المَلاذِ الآمِنِ تَارَةً.

 وقَديمًا كانت الطبيعةُ تُطارِدُ الإِنسانَ بِالمَخاطِرِ البِيئِيَّةِ، أَوِ الجَفَافِ، لِلتَّنَقُّلِ والتَّرحَالِ، بحثًا عن المَلاذِ الآمِنِ، أَو الرِّزقِ المُتَيَسِّرِ، وهو ما يُمكِنُ للباحثِينَ تَتَبُّعَهُ مِن خلالِ الآثارِ التي تركَها الإِنسانُ ودَوَّنَ عَلَيها حِكاياتِ أَسفارِهِ ومَنافِيهِ عَبْرَ العُصُور، حتَّى أنَّ فُصُولاً مُطَوَّلَةً من تاريخ الإنسانِ تَنْدَرِجُ تحت عُنوانِ: "الهِجرةِ والرَّحيلِ"، ولِتَكُونَ أَوجَاعُ الغُربَةِ عُنوانًا رَئِيسًا لآلامِ الإنسانِ في مَسيرَتِهِ التاريخِيَّةِ الطويلة.

 ثُمَّ لا نَنْسَى أَنَّ الهِجراتِ القَديمَةِ في الأَزمَانِ الغابِرَةِ، هي التي شَكَّلَتْ مَجامِيعَ الشُّعُوبِ القَديمَةِ، ومَواقِعِ الاستِيطانِ، والمُدُنِ والقُرَى، والأَقالِيمِ، وخَرائِطَ الأُمَمِ والدُّوَلِ والدُّوَيْلاتِ القَديمَةِ، ومعها تَشكَّلَتِ الخَرائِطُ السِّياسيةُ في العالَمِ القَديم، والتي انتهت –في خاتِمَةِ المَطافِ في عصرِنا الحَدِيثِ- إلى تِلك الجُغرافِيَّاتِ السياسيَّةِ الصَّارِمَةِ التي اسْتَغْلَقَتْ فيها الحُدُودُ المَضْرُوبَةُ بين الدُّوَلِ، بِمَا في ذلك مِن تَأثِيراتٍ سَلبِيَّةٍ أو إيجابِيَّةٍ على الهِجْراتِ البشرِيَّةِ، على النِّحْوِ الذي نَتَبَيَّنُ الكَثِيرَ مِن فُصُولِهِ المأساوِيَّةِ من خِلالِ فُصُولِ ومَباحِثِ كتاب "التغريبة المِصرِيَّةِ"، للمؤلِّفِ المُبْدِعِ الشاعِرِ والناقِدِ والبَاحِثِ؛ الأَمير كمال فرج.

 وفي كلِّ الأَحوالِ، فرُبَّما لا يُهِمُّ الكَثيرينَ قِراءَةَ المَشْهَدِ الكَبِيرِ الذي أتاحَهُ لنا المُؤلِّفُ، وخاصَّةً هؤلاء المَشغُولِينَ بِقَضايا السَّاعَةِ، مِمَّا يَهُمُّ إِنسانَ العَصْرِ الحديثِ مِن تَنظِيمِ شُئونِهِ الاقتِصاديةِ والاجتماعِيةِ المُباشرةِ والمُلِحَّةِ في المَقامِ الأوَّلِ، دون الانشغال بمثل هذه القضايا التي يَرَوْنَها كَبيرَةً، أو يَرَوْنَها صَغِيرةً. فإنَّ البَعْضَ –أو الأَكْثَرِيَّةَ في الواقِعِ- يَغُضُّونَ الطَّرْفَ عَنِ القَضايا الكَبيرَةِ لِلطَّبقَاتِ الاجتِماعِيَّةِ الدُّنْيَا مِنَ الفُقراءِ والمُهمَّشِينَ، ولا سِيَّما في البيئاتِ الرِّيفِيَّةِ الفَقِيرَةِ، مُقْتَصِرِينَ في شُغُلِهِمْ ومَشرُوعَاتِهم على المُضِيِّ قُدُمًا في تَمْكِينِ آلِيَّاتِ التَّحَوُّلِ إلى لُغَةِ ومَلامِحِ وسُلوكِيَّاتِ العَصْرِ الجَدِيدِ النافِذِ، المَحْكُومِ بِقَوانِينِ العَوْلَمَةِ الضَّارِيَةِ المَاضِيَةِ، والتي تُحَقِّقُ مَصَالِحَ ومُكتَسَباتِ الأَقوِيَاءِ، على حِسَابِ المُستَضْعَفِينَ والفُقَراء.

 لكنَّ مُؤلِّفَ كِتابِنا إِذْ يَكشِفُ عن خُطورةِ المِرْجَلِ الذي يَغْلِي في أَدْنَى طَبقَاتِ المُجتَمَعاتِ الإِنسانِيَّةِ، وبِخاصَّةٍ على مُستوى كافَّةِ القضايا التي تَدُورُ من حولِ "الغُربَةِ" و"الاغتِرابِ"، والتي تُعانِيها مِثْلُ هذِه المُجتَمعاتِ، الغَنِيَّةِ والفَقِيرَةِ على السَّوَاءِ؛ حيث يعيشُ إِنسانُ العَصْرِ في دَوائِرَ مُتنوِّعَةٍ مِن الحِصَارِ، أَو دَوائِرَ مُتنوِّعَةٍ مِن الرَّحِيلِ القَسْرِيِّ هَربًا من خَطَرٍ أو مِن الفَقْرِ، لِتُصِيبَ الإِنسانَ في كلِّ مكانٍ بِأمراضٍ نَفسِيَّةٍ تَفْتِكُ بِهِ (يُنظَرُ الكتابُ: ص 383-394). وهذا فَضْلاً عمَّا تُحدِثُهُ تلك الأمراضُ من نتائِجَ سياسيةٍ واجتماعِيَّةٍ خطيرةٍ، لابُدَّ وأن يَعْكُفَ على دِراسَتِها العُلماءُ، لِلحَدِّ مِنَ التَّداعِياتِ والتَّأثيراتِ الكَارِثِيَّةِ التي تُؤدِّي لِتفَكُّكِ أو تَفكِيكِ المُجتَمعَاتِ، وتَعَثُّرِ التَّنمِيَةِ، والمَزيدِ مِن الصِّراعاتِ حَولَ المُتَطلَّباتِ المَعِيشِيَّةِ الأَساسِيَّةِ لِلإِنسان،ِ وعلى رَأْسِها ضَمَانُ الأَمْنِ والمَأْوَى والقُوتِ.

 وإِذا تأمَّلنا مَلِيًّا في الإِشكالِيَّاتِ التي يُثِيرُها كِتابُ "التَّغرِيبَةِ المِصرِيَّةِ"، والقضايا والمَحاوِرِ التي يَتعَرَّضُ لها، تَفصِيلاً أَو بِالإشَارَةِ، لَوَجَدْنا أنَّ كثيرًا مِن التَّحوُّلاتِ التاريخِيَّةِ الكُبرَى في حياةِ الإِنسانِ، وبِخاصَّةٍ التَّداعِيَاتِ السَّلبِيَّةِ لها، بَيْنَ الأَسبابِ المُؤدِّيَةِ إِليها والنتائِجِ النَّاجِمَةِ عنها، إنَّمَا هي ترتَبِطُ -بِشكلٍ مُباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ- بِقَضِيَّةِ الغُربَةِ والاغتِرَابِ، وهُوَ ما يستَدعِي اسْتِنهَاضَ هِمَمِ الأُمَمِ والدُّوَلِ لِلحَدِّ مِن مَخاطِرِها التي تُطارِدُ الإِنسانَ أو تُحاصِرُه، لِلحَدِّ مِن آثارِها النَّفسِيَّةِ والاجتماعِيةِ والسياسية، تَحقِيقًا للسَّلامِ الإنسانِيِّ المَنشُودِ في مَآوٍ مَأمُونَةٍ، وأَرزَاقٍ مَضمُونَةٍ، وحُقُوقٍ أَساسِيَّةٍ مَصُونَةٍ، وإِعادَةِ تَرْسِيمِ أُطُرِ العَدالَةِ الاجتِماعِيَّةِ الشامِلَةِ التي تُهَيِّءُ أسبابَ إِمكَانِ تَحقِيقِ التَّعاوُنِ والتَّعايُشِ والسَّلامِ المأْمُولِ بين بَنِي الإِنسانِ. وهُوَ ما يُمكِنُ أن نَستَخْلِصَهُ مِن مُعالَجَاتِ بَعضِ فُصُولِ الكِتابِ؛ وكما في المبحثِ السابع: (التحولات الاجتماعية)، والمبحث الثامن: (أدب الاغتراب)، والمبحث التاسع: (التغريبة المصرية).

وعلى أيَّةِ حالٍ، فبالرَّغمِ من اتِّسَاعِ مَادَّةِ هذا الكتاب، وعُمْقِ مَجالِيهِ ومَرَامِيهِ، بين الاتِّجَاهاتِ والمَقَاصِدِ المُباشِرَةِ وغير المُباشِرَةِ للمؤلِّفِ، وقَابِلِيَّةِ الكِتابِ لأَنْ يَكُونَ مَرجِعًا لا غِنَى عنه لِكُلِّ بَاحِثٍ في كَافَّةِ المَوضوعاتِ التي يَتصَدَّى لها الكِتابُ، أَدبِيَّةً وفَنِّيَّةً وسِياسيَّةً واجتماعِيَّةً واقتِصادِيَّةً، فإنَّ هذا الكِتابَ يِظلُّ -في المَقامِ الأوَّلِ كِتابًا نَقدِيًّا في مَجَالِ الأَدَبِ. بَيْدَ أَنَّ المؤلِّفَ جَعَلَ منه إبداعًا نَقْدِيًّا مُوَازِيًا لِلأَعمَالِ الإبداعِيَّةِ الشِّعرِيَّةِ النَّمُوذَجِيَّةِ الثلاثَةِ المَعرُوضَةِ.

 لقد استطاعَ المُؤلِّفُ أَن يَطْرَحَ بِرُؤيَتِهِ التَّحلِيلِيَّةِ النَّقدِيَّةِ الوَاعِيَةِ مِنَ القِراءَةِ والكَشْفِ والتَّأوِيلِ ما يَنْضَافُ إلى هذه الإبداعاتِ بِوَصْفِهِ امْتِدَادًا لها، وعلى النَّحْوِ الذي ننتَهِي فيه إلى القَوْلِ بِأَنَّ مُتْعَتَنا بِهذِهِ الإِبداعَاتِ لا تَكْفِي وحدَها –مِن دُونِ مِثْلِ هذِه الدِّراسَةِ الثَّرِيَّةِ- لإِرهَافِ الحِسِّ والبَصِيرَةِ بِالجَمَالِيَّاتِ الكَثِيفَةِ الكَامِنَةِ في هذه الأَعمالِ، أَبْنِيَةً وتَشكِيلاتٍ وإيقاعاتٍ.

وهذا فَضْلاً عَمَّا تَنْزِفُ بِه من آلامِ البُسُطَاءِ في جُغرافِيَّاتٍ وأَزمِنَةٍ نازِفَةٍ بِأوجَاعِ التارِيخِ العربِيِّ بِعامَّةٍ، والمِصرِيِّ مِنْهُ بِخَاصَّةٍ، في فَتَرَاتِ أَخْطَرِ التَّحوُّلاتِ التي مَرَّتْ بِها المُجتَمعاتُ في العصرِ الحَديثِ، والتي لا تَزَالُ تَداعِيَاتُها سَيَّالَةً بين مَواجِعِ الذَّاكِرَةِ والقَلَقِ اليَّوْمِيِّ المُتَوَجِّسِ دومًا في واقِعٍ عَالَمِيٍّ جَدِيدٍ، ما هو إِلاَّ ارتِدادَاتِ الأَمْسِ التي لا تَزَالُ تَتَصَوَّبُ بِنتائِجِها الوَخِيمَةِ في المُستَقْبَلَيْنِ القَريبِ والبعيد.

وفي كلِّ الأَحوالِ، فإنَّ القِراءاتِ الفَنِّيَّةَ لِلمُؤَلِّفِ، بين جَمَالِيَّاتِ الشِّعْرِ والصُّورَةِ والإِيقَاعِ، فَضْلاً عن المُلاحَظاتِ الطَّرِيفَةِ، واستِدْعَاءِ مَشاعِرِ العاطِفَةِ، ومَواقِفِ المُحِبِّينَ، ولحظاتِ التَّوْقِ والشوقِ، والحُبِّ والحَنينِ، وتَدَثُّرِ الكاتِبِ بِمَا تَبُثُّهُ تلك الإبداعاتُ مِنَ المُثُلِ الإِنسانِيَّةِ العُلْيا، والقِيَمِ النَّبِيلَةِ الفِطْرِيَّةِ والأَصِيلَةِ، كُلُّه مِمَّا يُشِعُّ في الكِتابِ بِالدِّفْءِ والإِشرَاقِ والأَمَلِ، وهو ما يَضْمَنُ لِلقارِئِ مُتْعَةً والْتِذَاذًا بِالكِتابِ، وشَغَفًا لِمُوَاصَلَةِ القِراءَةِ دُونَ سَأَمٍ أَو مَلَلٍ أو نُفُورٍ من ظِلالٍ دَكِينَةٍ هُنَا أَو هُناكَ، لا سِيَّما وأَنَّ المِدَادَ الرَّهِيفَ لِقَلَمِ المُؤلِّفِ الشاعِرِ، قَد أَمَّنَ لِلمُتَلَقِّي أَلاَّ يَمَسَّهُ سُوءٌ مِمَّا يَغْلِي في أَعمَاقِ مَوضُوعِهِ السَّخِينِ الحَارِق.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق