منذ مدة ليست بالقليلة طلب مني الأستاذ جلال الجرباني "مؤسس ومحرر ضفاف كفرالزيات الثقافيه" أن أكتب مقالا عن قريتي قليب إبيار وتأثيرها عليّ وفى تكوينى، ولكني لم أكتب، لا لعدم اكتراث أو اهتمام بطلبه فهو عزيز وغال،
ولكن لأن الشحنة العاطفية التي تقودني للكتابة لم تكن قد احتقنت بداخلي، فالكتابة فعل احتقان، تلهبه العاطفة فينغمر الجسد بالرغبة، والروح بالنشوة، ولا ينقذهما إلا العقل الذي يمكنهما من تفريغ هذا الاحتقان.
واليوم احتقنت بداخلي هذه الشحنة بالصدفة، وهي دائما كذلك تحتاج إلى صدفة، حين شاهدت صورة لي وعمري 7 سنوات تقريبا، برفقة إخوتي من صلب أبي، ومن أبناء خالتي، وبالصدفة كنت أسمع أيضا موسيقى مسلسل "الزيني بركات" لعمار الشريعي، ليكتمل مشهد القرية في عقلي، صورة وصوتا. صوت من صباي، وصورة من طفولتي، أعادا إليّ المشهد كله، ففارت مهجتي، واستجابت أدمعي، واقشعر جلدي واجهش صوتي، وحضرت براءتي.
لا أدري إن كنت قد احتقنت بالحنين، شوقا لأخي الذي مات، أم لأخي المسافر، أم لابن خالتي (أخي) الذي صرنا نتلاقى بالصدفة، حين شاهدتهم في الصورة؟ أم حزنا على نفسي التي تتوه كثيرًا؟ أم على افتقادي لتلقائيتي التي كثيرا ما أدرب نفسي مضطرا على نسيانها؟ أم هي الحياة التي صارت ثقيلة الوزن، الجاثمة على صدري، وأرغب في إزاحتها لأحضن الماضي بكل ما فيه من خفة ونقاء وفطرة؟ أم هو الحنين الطبيعي الذي يزداد في قلوبنا كلما ازدادت أعمارنا؟
في الغالب، هو كل ذلك وأكثر. كان ذلك مثيرا لذاكرتي لاستحضار المكان الذي احتضن كل ذلك وأكثر، وطني الأول، قريتي قليب إبيار بكفرالزيات، التي كانت وعاءً لهذا الحب، فتشكل بشكلها، وتلون بلونها، في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. زمن كانت التغييرات فيه بطيئة، كبار السن كانوا كثيرين أمام عيني، يتراصون على المصاطب يتسامرون
باستمرار، تشعر بأزليتهم وكأن شيئا لم يكن قبلهم، وتشعر أيضا بأبديتهم وكأنهم لن يموتوا، فهم كالأوتاد والأبدال، موجودون دائما وإن تبدلوا، هكذا كان إحساسي بهم وبالحياة عموما. فكما كان الكبار أزليون، كان كل شيء أزلي، حتى البيوت كنت أشعر بأزليتها، كانت قديمة قدم الطين الذي بنيت به، أو الخشب الذي سقفت به، والحطب الذي يعلوا سقفها باستمرار، يحترق في الفرن، وتعيده الأرض فوق السقف من جديد. كانت البيوت قديمة قدم مصر، قدم طمي النيل الذي شكل الوادي والدلتا، وأبوابها من الخشب،
هي عموما كانت ابنة بيئتها، هي ابنة الغيط والطين والزرع، وسكانها كانوا كذلك، كائنات من الغيط، سواء فلاحين أو مواشى. بيتنا لم يكن ريفيا وإن لم يبنى بالخرسانة، كان مبنيا بالطوب الأحمر، وجدرانه كانت مدعومة بلياسة من الأسمنت، ولكنه كان مسقوفا بالخشب، ولكن كل محيطنا كانوا فلاحين وبيوتهم طينية وملحق بها زرائب للمواشي،
وكانت تلك البيوت مباحة لي بل مستباحة، فألفتها كما ألفت أهلها، وكثيرا ما لجأت لها طلبا لطعام أو شراب ترفض أمي إعداده لي، أو للاحتماء بها إن فعلت ما يستفز أبي لعقابي، وفي كل الأحوال كانت بها مجالس مع الأصدقاء والإخوة.
وإن بحثت عن أمي أو ستي (جدتي) ولم أجدهما أو إحداهما في المنزل فقد أجدهما في بيت أي خالة من خالاتي في الشارع، فقد كان فرنا واحدا بأي من بيوت الشارع يكفي باقي سكانه للخَبِيز، ولا داع لأن تَحمي أمي الفرن لأجل "بَكّومة" أو "رُقاقة" أو "عيش خاص" أو "عيش رح"، أو لأجل بِرَام أرز معمر، طالما أن فلانة قد أوقدت فرنها، وقد ينقلب الحال في المرّة المقبلة ويأتين لمنزلنا.
أذكر مرة أنني كنت في البيت وحدي، وكان أبي وجدتي في العمرة، -وياله من حدث جلل في بدايات التسعينيات- وكانت أمي في مدينة كفرالزيات تتسوق ومعها أخي وأختي الصغيرين، وكان هذا اليوم موسما، (أظن كنا في رمضان والموسم وقتها هو موسم ليلة القدر)، وعادت أمي لتجدني قد ملأت لها حلة غلي الغسيل الضخمة باللبن الحليب، الذي جاء كوبا، وراء كوز، وراء طاجن من جاراتنا، اللائي اعتدن أن يفعلن ذلك مع أمي في المواسم التي كانت دائما عامرة بما لذ وطاب من الطعام الفلاحي الأصيل، باعتبار أننا لا نملك بهيمة تحلب.
وكانت أمي باعتبارها "الأبلة" التي تعرف "الأكل بتاع البندر"، ترد لهن ذلك على صورة كيكة أو بسبوسة أو أي وصفات حلوى كانت تسمعها في الراديو أو التلفزيون من أبلة نظيرة أو غيرها. وكانت هذه الأكلات كثيرا ما تروق لـ"أبويا فلان" الذي كان يرسل إلى أمي خصيصا، يطلب منها "البتاعة الطرية الحلوة دي"، والذي كان يأكلها مستمتعا، وكأنه يأكل داخل سراية البيه، رغم بساطة ما يأكله، وكانت أمي تعدها بمنتهى السعادة، وتفخر جدتي الفلاحة أن زوجة ابنها قد شرَّفتها أمام أهل الشارع.
هكذا كان شارعنا بسيطا وطيبًا، وكانت أقصى طموحات كباره هدم البيت القديم، وبناء بيت مكانه بالمسلح، ليحصل كل ابن من الأبناء على شقة يتزوج بها وحده، لا على مقعد (غرفة على سطح المنزل) أو "قاعة" في الدور السفلي (تُنطق "جَاعة" بالجيم القاهرية). وكان فلان حين يبني بيته فالواجب أن يجتمع عنده أهل الشارع، بالإضافة للأقارب ممن يسكنون في مناطق أخرى من القرية، فالجميع يجب أن يساعد، إن لم يكن بحمل الأسمنت والرمل والطوب فبإعداد غداء أو بصندوق حاجة ساقعة أو حتى بدور شاي أو شفشق لموناتة لأنفار الصبة المسلحة... وكان طبيعيا أن تسمع زغاريد خالتك فلانة وهي تحمل السَّبَت الذي يضم سكرا وزيتا وسمنا وشايا وشربات، لتبارك وتهنئ أصحاب البناية الجديدة.
وبمناسبة الزغاريد، كانت الأم – أي أم- لا تستطيع أن تطلق زغاريدها احتفالا بابنها أو ابنتها الناجحة في المدرسة، إلا بعد أن تطمئن أن زميله/ا في الشارع قد نجح/ت أيضا، وإلا فلتخرس وتكتم فرحها حرصا على مشاعر جارتها، ولا تزغرد أو توزع "الكراملة".
هنا نشأتُ فى قليب ابيار يا أستاذ جلال وسط كل هذا الحب، وسط كل هذا الدفء، نشأت مع إخواني وأصحابي، نلعب "الاستغماية" و"اللمسة" و"سبِّت" و"الملك" و"السبع شقافات" و"فرتك العقال" و"البيوتة – المنديل في العب" و"السكة حديد" و"التعلب فات"، و"السيجة" و "القال" و"المال"، وكرة القدم بالطبع.
وإذا جاء مولد سيدي عبدالسلام أو سيدي موسى، كانت ألعابنا تنتقل كلها إلى جوار الضريحين الشريفين، نركب المراجيح أو نلعب بالبنادق لاصطياد البمب أو علامات البروازم لنكسب صورة نزين بها حوائط المنزل. تلك الصور التي كنا نحلم بتقليد أصحابها، سواء كانت صور أصحاب العضلات وكمال الأجسام، أو صور طاهر أبوزيد أو حسام حسن وإبراهيم حسن، أو غيرهم من نجوم الكرة، أو ربما نجوم التمثيل ممن يجيدون أدوار الأكشن، كعادل إمام أو أميتاب بتشان أو جاكي شان.
أيضا كنا نحب صور ميرفت أمين، ومعالي زايد، ومديحة كامل، وليلى علوي، ويسرا، وغيرهن، ولكننا لم نكن نختارها، إذا ما رشقت الإبرة بوسط الدائرة على البرواز، لأننا كرجال لابد أن نعلق بالمنزل صور أبطال نتشبه بهم، لا بطلات، رغم أن شواربنا لم تكن قد نبتت بعد، ولكننا كنا ننظر إلى البطولة كفعل ذكوري وقتها، هكذا كنا.
لا أدري كيف أكمل أو أنهي مقالي يا أستاذ جلال، فأنا الآن غارق وسط محيط من الذكريات، تتزاحم فيه طُرح من الحرير الطبيعي على رؤوس السيدات، وجلاليب من الصوف على أجساد الرجال، حولهم روائح وأصوات وشوارع وجدران وقيم وأفكار تهاجمني بضراوة، وتشوش على بعضها، وأنا بينهم جميعا مطمئن سعيد، أشرب الحب وآكله لأقوَى على مواجهة حياتي الآن.
حياتي التي امتلأت بما لم أكن أحلم به، ورغم ذلك هي دائما محاطة بالقلق والحسابات، محاصرة بالكثير من الوجوه البلاستيكية والكلام البلاستيكي، جميلة المظهر، لكنها بلاستيكية، تجبرني أن أبحث بينها دائما على الوجوه التي تجري فيها الدماء الدافئة ولطخها طين الأرض المختلط بماء النيل، تلك الوجوه التي تشبه وجوها ابتسمت لي في الزمان الأول، فعشت بها ولازالت تعيش معي.
أقرأ أيضاً
مقالات أخرى للكاتب الصحفى أ / محمد حسين الشيخ
هناك 3 تعليقات:
احسنت وصفا حتي انني تخيلته فيلم مجسد بأشخاصه واجواءه من روعة شرحك للمعاني قبل المعاني. وختاما افضل جمله هي اخر جملة في المقال. احسنت يااصيل يافنان يااصيل
أحسنت قولا وأخرجت كل ما يتعلق بنا من زكريات بداخلنا
أحسنت ما شاء الله حضرتك ذكرت ذكريات جميله عشناها فعلا
إرسال تعليق