الأحد، مايو 08، 2022

متلازمة الحرب والإبداع .. مقال للأديب الكبير/ محمود عرفات ابن كفرالزيات الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عام 2005م

الأديب الروائى/ محمود عرفات ابن كفرالزيات
روائى وقاص مصرى حاصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عام 2005م عن المجموعة القصصية "على شاطئ الجبل". شارك فى انتصارات أكتوبر المجيدة عام 1973م، كضابط احتياط فى أحد التشكيلات القتالية المدرعة بالجيش الثانى الميدانى.عضو اتحاد كتاب مصر.عصو نادى القصة.عضو الجمعية المصرية للسرديات.

  نشرت بمجلة أدب ونقد بالعدد الصادر في فبراير 2022

أنا أنتمي إلى جيل الانتصارات الوطنية والهزائم الساحقة، الذي نشأ في ظل ثورة يوليو 52، ورفع شعاراتها، وانبهر بما حققته من تغييرات اجتماعية واقتصادية، وما خاضته من معارك للتحرر الوطنى. لكن هزيمة سبعة وستين المروعة أذهلت هذا الجيل، وأصابته بالانكسار والتمزق.

تم تجنيدي عام تسعة وستين، وقضيت أكثر من خمس سنوات تحت السلاح، موقنًا أن الحرب حتمية، وكان لي شرف المشاركة في تحقيق انتصار أكتوبر العظيم في ثلاثة وسبعين.

بعد انتهاء الحرب، استلمت عملي المدني في القطاع العام. كنت مزهوًا بانتصارنا الذى شاركت فيه، واندمجت في العمل بحماس أدهش الكثيرين، لكني أفقت بعد سنوات طويلة من العمل الشاق على حقيقة مؤلمة، أنني كنت أحرث في البحر، وأدركت في لحظة فاصلة أنني كنت أحلم، فكتبت روايتي الأولى "مقام الصبا". اخترت زمن الرواية في الفترة التى أعقبت نصر أكتوبر 73 وحتى أواخر الثمانينيات. تحدثت عن "تنابلة" القطاع العام، وحكيت ألم وخيبة أمل بطل الرواية، في أن يصنع إنجازا حضاريًا موازيًا للإنجاز العسكرى، الذى حققه في أكتوبر 73. في "مقام الصبا" كتبتُ جزءًا من نفسى، وفضحت فساد القطاع العام.
الحرب هي التجربة الكبرى في حياتي، وأصداء تجربتي في الحرب تتناثر في رواياتي، وفي مجموعاتي القصصية بلا استثناء. في "مقام الصبا" تحدثت عن التحاقي قبل تجنيدي بمعسكرات خدمة الجبهة، ووصفت بدقة اشتراكي في عملية استطلاع على الشاطئ الغربي لقناة السويس، قبل اندلاع حرب أكتوبر بخمسة أيام فقط.
أصبح الفساد فى القطاع العام بطلًا لروايتي الثانية "مشمش الرابع عشر"، فرصدت الفساد المترابط في سلاسل متينة تتبادل التأثير، منبهًا أن الفساد هو السوس الذى ينخر عظام وقوائم المجتمع، ليقوضه.
وجدت القلم، كأنما رغما عني، يصنع حكايات لم تخطر لي على بال، ويضيف تفاصيل تزخرف الصورة ولا تغير معالمها. إنها روح الكتابة المستبِدَّة التى تُقلِّبْ فى جُبِّ الذاكرة، لتستدعي من عمق طياتها ما لا يمكن أن يدرك كنهه الكاتب وهو يخط الحروف.
ومثلما حدث أثناء كتابتى للرواية الأولى، تسربت تجربة الحرب في صفحات الرواية التالية. فاستشهد أيمن ابن بطل الرواية يوم 16 أكتوبر73 ودفن بمقابر الشهداء بالاسماعيلية، بينما كان أبوه يهذي من بشاعة التنكيل الذي ناله من المفسدين السفلة. ولا أنسى أنني بكيت، بعد أن قرأت الرسالة التي كتبها أيمن لوالده ووالدته وشقيقته الوحيدة، وسلمها صديقه، لوالده، بعد استشهاده، وكأن أيمن هو الذي كتب الخطاب وليس أنا.
ظللت أحلم بكتابة رواية عن نصر أكتوبر العظيم لأكثر من ثلاثين عامًا، ومنعني من الكتابة أنني كنت أعيش داخل تجربة الحرب كأنها لم تنته. بعد أن تعافيت، قمت بزيارة "سرابيوم"، مسقط قلبي، التي عشت فيها أسبوعين كاملين وأنا طالب بالجامعة، نشارك الجنود حياتهم الميدانية، ونستمع إلى موسيقي قذائف المدفعية. رأيت سرابيوم كثيرًا في المناورات المختلفة، وفي يوم 30 سبتمبر 73، وعلى مصطبتها، استطلعت المنطقة التي سنحتلها بعد العبور. ومن معبرها المجاور عبرنا إلى الشرق. في اللحظة التي رأيت فيها المصطبة، بعد ثلاثين عامًا، كتبتُ الفصل الأول من روايتي "سرابيوم".
تجسدت في "سرابيوم" مأساة دسوقي، الذي تزوج رئيفة ابنة أسرة من سرابيوم، وقبل الحرب مباشرة نقلت وحدته إلي القنطرة، ليشارك في تحرير القنطرة شرق، وأصيب بطلقة أطاحت بشحمة أذنه. ولما عاد بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من الثغرة، اكتشف الفظائع التي ارتكبها العدو، حيث قتل الرجال وقام بطرد باقي الأهالي، ولم يجد رئيفة زوجته الحامل، فقد اختطفها الإسرائيليون، واختطفوا حلمه بإنجاب ابراهيم الدسوقي. تدور أحداث الرواية على مدار خمسين سنة هي عمر البطل دسوقي الذي تطوع في الجيش هربا من نظرات زوج أمه، وذاق مرارة المعاملة السيئة قبل هزيمة سبعة وستين، ثم شهد إعادة بناء الجيش، على أساس احترام آدمية الجندي، وتدريبه على القتال بأحدث الأسلحة وأفضل برامج التعليم. تمثلت أزمة دسوقي أنه شارك في تحقيق انتصار أكتوبر العظيم، فلما عاد إلي سرابيوم شعر بهزيمة شخصية تمثلت في ضياع زوجته وولده.
رغم كل ذلك، فإن ذكريات الحرب ومشاهدها وأهوالها، مازالت تناوشني وتدفعني للتأمل، لأستحضر شخصيات ومواقف جديرة بأن أصوغها في رواية جديدة.
السادس من أكتوبر 2021م




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق