الأحد، مارس 27، 2022

عرفوا الدجاج والأرز والسكّر من العرب: طعام القاهريين "فقرائهم وأثريائهم" في العصر الوسيط .. مقال للكاتب الصحفى الأستاذ/ محمد حسين الشيخ ابن قليب ابيار بكفرالزيات

الأستاذ/ محمد حسين الشيخ 
كاتب مصري، عمل كصحافي تحقيقات، وكاتب مقالات لعدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية منذ عام 2004، وكان مساعدا لرئيس تحرير موقع دوت مصر، ومهتم بالتاريخ والفن. وابن قليب ابيار بكفرالزيات


لو كتبنا على محرّك البحث العملاق جوجل "انتفاضة الخبز" ستظهر لنا نتائج عدّة، ضمنها: "انتفاضة الخبز في مصر، انتفاضة الخبز في تونس، انتفاضة الخبز في المغرب"، ولو كتبنا "ثورة الجياع" سنجد أن الكلمة شائعة جداً على ألسنة مثقفينا في العالم العربي عموماً، حين يتحدّثون عن الأوضاع الاقتصاديّة المتدهورة للمواطنين. الطعامُ محرّك أساسي لحياة الشعوب؛ فهو شاهدٌ على ثرائهم وفقرهم، سعادتهم وحزنهم، رضاهم عن حكامهم أو سخطهم، حتى شاعت لدى علماء الأنثروبولوجيا مقولة: "نحن ما نأكله"،

وربما يمثّل استعراضنا لتاريخ مجتمعاتنا من خلال الطعام باباً مهمّاً لتقييم هذا التاريخ. القاهرة هي نتاج الحقبة العربيّة الإسلاميّة، وليست نتاج الحضارات المصريّة السابقة، ولذلك فالحديث عن طعام أهلها، يتقاطع مع ما كان يأكله العرب، وبالطبع مع ما يأكله عموم المصريين. فقد بدأ بناءُ القاهرة في عهد عمرو بن العاص حين بنى مدينة الفسطاط، في القرن السابع، بجوار حصن بابليون الفرعوني، ثم أسّس العباسيون مدينة العسكر بجوار الفسطاط، وبالقرب منهما أسّس أحمد بن طولون "القطائع"، ثم أسّس الفاطميّون ما عُرف بـ"قاهرة المعزّ"، 

ثم جاء صلاح الدين الأيوبي ليتخذها عاصمةً لدولته ففتح هذه المدن على بعضها البعض وصارت كلها "القاهرة" في القرن الثاني عشر، ثم أخذت تتمدّد مع الزمن وتضمُّ أماكن كانت خارجها، حتى صارت على ضخامتها المعروفة اليوم. فماذا لو ألقينا نظرة على طعام القاهريين في القرون الوسطى، كواحدة من أهمِّ المدن العربيّة، لنرصد كيف كان طعام الأغنياء والفقراء فيها، وكيف كانت عادات وتقاليد القاهريين في تناول هذا الطعام، والتي ربما تشير إلى أوضاع المجتمع القاهري في هذه العهود.

 الباحثة باولينا ليفتسكا Paulina Lewicka أستاذة الدراسات الشرقيّة بجامعة وارسو أعدّت دراسة بعنوان: " Food and Foodways of Medieval Cairenes – الطعام وعاداته عند القاهريين في القرون الوسطى"، ناقشت فيه الأمر بتفاصيل دقيقة، وترجمها الباحث المصري خالد عبدالله يوسف. وتوضّح الدراسةُ التأثيرَ العربي على طعام القاهريين، فبجانب الأكلات المصريّة الموروثة منذ العهود القديمة، تذكر الباحثة أن هناك مكوّنات طعام دخلت القاهرة نتيجة الفتح العربي وما تلاه من إمبراطوريات إسلاميّة، مثل: الدجاج، لحم الجاموس، الأرز، السكر، كذلك دخلت أكلات مثل: الثريد، العصيدة، الحيص. وبما أن القاهرة كانت محطّة تجاريّة هامّة بين الشرق والغرب الإسلامي، عرفت محاصيل زراعيّة هنديّة مثل قصب السكّر، الليمون، القلقاس. وكذلك عرفت أطعمة شاميّة مثل الجبن "الصقلي، السوري، الفلسطيني"، والزيت التونسي.

هناك مكوّنات طعام دخلت القاهرة نتيجة الفتح العربي وما تلاه من إمبراطوريات إسلاميّة، مثل: الدجاج، لحم الجاموس، الأرز، السكر، كذلك دخلت أكلات مثل: الثريد، العصيدة، الحيص.
لم تعرف منازل القاهريين غير الأثرياء غرفاً مخصّصة للطعام؛ فمناخ المدينة المعتدل جعلهم لا يتقيّدون بمكان خاص للطعام، وكان من الممكن أن يأكلوا في الهواء الطلق في ردهة المنزل أو فنائه، أو حتى في الشارع أمام باب المنزل، وأن يدعوا المارة ليشاركوهم طعامهم.

أين كان يأكل القاهريون، ومن كان يطبخ؟

كانت العادة في المجتمع القاهري في هذه العصور، عدم الطبخ في المنازل، بالنسبة للطبقة المتوسطة والفقيرة، واقتصرت المطابخ على قصور الأثرياء والأمراء والسلاطين، لسببين أساسيّين، وهما: "الخوف من نشوب حرائق في المنزل نتيجة إشعال النيران"، و"لعدم القدرة على تحمّل تكلفة إعداد وتجهيز مطبخ، بحسب الدراسة. لما سبق انتشرت بكثرة محلّات الطعام في شوارع القاهرة، ويمكن رصد أنواعها من كتب الحِسْبَة التي وضعت لتبصير المُحْتَسب بما يباع في الأسواق كي يستطيع مراقبتها، ومنها: "معالم القُربة في أحكام الحِسْبة" لمحمد القرشي المعروف بابن الأخوة (تـ٧٢٩هـ - ١٣٢٩م)، "نهاية الرتبة في طلب الحِسْبَة" لمحمد بن أحمد بن بسام المحتسب (القرن السابع الهجري).

٢٠ طائفة مهنيّة مختصّة بالطعام

ومن هذه الكتب وغيرها ترصد باولينا ليفتسكا ما يقرب من ٢٠ طائفة مهنيّة مختصّة بالطعام، أو لها علاقة مباشرة به، مثل: الحبوبيّين، الدقّاقين، الطحّانين، الخبّازين، الجزّارين (من يذبح الماشية)، القصابين (من يبيع اللحم للناس)، الكُبُوديّين (بائعي الكبد المطهي)، البوارديّين (بائعي الوجبات الخفيفة الباردة)، الشرائحيّين (بائعي اللحم المسلوق)، الشوّائين (بائعي اللحم المشوي)، الروّاسين (بائعي رؤوس الماعز والضأن)، قلّائي السمك، صنّاع الزلابية، الطبّاخين، الهرائسيّين (صناع الهريسة)، النقانقيّين (من يصنعون اللحم السمين بالبهارات والبصل. والمحلات التي تبيع هذا النوع تسمى اليوم في القاهرة بـ"المصمط"، السمّانين (بائعي السمن والزبدة)، اللبّانين (بائعي الألبان)، عاصري الشيرج والزيت الحار، مطبوخ العدس، الفوّالين (بائعي الفول). في الغالب الأعمّ لم يكن الأمراء والسلاطين وعلية القوم يأكلون من تلك المحلّات أو من أصحاب هذه المهن، ولكن هذا لا يمنع من وقوع استثناءات، فعلى سبيل المثال يذكر المقريزي، أن الوزير الصاحب فخر الدين ماجد بن خصيب (القرن الرابع عشر م)، كان يبعث كلّ ليلة بعد عشائه بخادم إلى منطقة بين القصرين ليشتري له بمبلغ ٢٥٠ درهماً فضة ما بين "سمّان، فراخ، حمام، وعصافير مقليّة". وبعد أن يشتري القاهريون طعامهم من تلك المحال، كانوا يأكلونها في منازلهم، أو في أماكن عملهم، أما الفقراء ومن كانوا بلا مأوى فقد كانوا يأكلون على قارعة الطريق، أو بجوار المطعم الذي اشتروا منه الطعام. ولكن مذكرات دومينكو تريفيزانو، سفير البندقية، الذي زار القاهرة عام ١٥١٢م، لمقابلة السلطان قانصوه الغوري، توضّح أنه شاهد الناس يأكلون داخل تلك المطاعم. وتشير الباحثة إلى أن هذه الملاحظة تكشف أن القاهريين عرفوا المطاعم قبل الفرنسيّين بقرنين ونصف قرن. ولكن لم تعرف منازل القاهريين غير الأثرياء غرفاً مخصّصة للطعام؛ فمناخ المدينة المعتدل جعلهم لا يتقيّدون بمكان خاص للطعام، وكان من الممكن أن يأكلوا في الهواء الطلق في ردهة المنزل أو فنائه، أو حتى في الشارع أمام باب المنزل، وأن يدعوا المارة ليشاركوهم طعامهم. أما ميسوري الحال فكانوا يستضيفون زائريهم في غرفة مخصّصة للضيافة، وكانت هي نفسها غرفة الطعام. وكانت الطاولة التي يوضع عليها الطعام، إمّا "الخُوان"، وهي منضدة مرتفعة قليلاً عن الأرض (تسمى الطَّبْلِيّة في الزمن الحالي)، تصنع من النحاس أو الخشب وتقف على أرجل، أو "سُفرة"، وهي ليست كـ"السفرة" المتعارف عليها الآن (طاولة عالية تلتف حولها الكراسي)، وإنما كانت غطاءً (من القماش أو غيره) يُفرد على الأرض وتوضع عليه الأطباق، أو صينية كبيرة توضع على الأرض أيضاً وتُرصّ عليها الأطباق.

أصناف الطعام

1- الخبز

والخبز له منزلة عظيمة عند المصريين، حتى سمّوه "العيش"، في ربطٍ بينه وبين قيمة الحياة عموماً، وهو يصنع من الدقيق المُستخرج من الحبوب المطحونة، ومنها: "الدُّخن": وهو غير مستعمل الآن، وقديماً أيضاً لم يكن من أطعمة القاهريين المفضّلة، بل كان يُزرع في الصعيد وأحياناً في الدلتا. ويذكر ابن إياس في "بدائع الزهور" خلال سرده لحوادث عام (١٤٧٠م – ٨٧٥هـ) أن الغلاء عمَّ في جميع المأكولات وعزَّ وجود أصناف كثيرة، فاضطرّ الناس إلى استعمال الدُّخن والذرة في صناعة الخبز، وهو مالم يكن يحدث أبداً قبل ذلك. الذرة: وكانت أيضاً من الحبوب غير المألوف استخدامها في القاهرة، لكن في أوقات الغلاء كان يستخدم في عمل الخبز، ويذكر ابن إياس أن سعر الأردبّ (مكيال قديم استعمل في الكيل والوزن) منه وصل إلى ٦ دنانير عام (١٤٨٦م) في موجة غلاء اجتاحت البلاد، واضطرّ الناس إلى صناعة الخبز منه.  القمح: وهو أهمّ المحاصيل المصريّة المستخدمة في الطعام، فمنه يُصنع الخبز بشكل أساسي، وكان يزرع في جميع أنحاء مصر. ومن أنواع الخبز (العيش) التي كانت تطهى في القاهرة، والمصنوعة من القمح: "الحواري": وكان يُطهى من الدقيق الأبيض الصافي غير المخلوط بحبوب أخرى. "الخُشْكار": وكان يصنع من الدقيق غير المنخول، المختلط بقشور القمح. "السَّميذ": وكان يُعمل بالمخابز الملحقة بالقصور الفاطميّة. "الكعك": وهو خبز جاف كان يعمل من الدقيق والسكر والزبد أو الزيت ويسوّى مستديراً. ولازال موجوداً إلى الآن في مصر. ويقول المقريزي إن هذا الكعك كان أكثر أكل الخلفاء الفاطميين طوال العام. "الخبز الأسود": وكان يؤكل في أوقات الأزمات فقط، ويُعمل من الشعير أو الفول أو الذرة أو النخالة. وتتعدّد استخدامات الخبز، عندما يدخل في مكوّنات الطعام؛ فكان يُقطّع على هيئة مثلثات ويُحشى باللحم ويُقلى، ويُعرف بـ"السنبوسك الحامض"، ويمكن استبدال اللحم بالسكر واللوز المدقوقين والمعجونين بماء الورد ويُقلى فيعرف بـ"السمبوسك الحلو أو المكلّل". ويدخل القمح في إعداد "الهريسة"، وكان لها مكانتها بين العوام في بغداد في العصر العباسي، واشتهرت بين سكان الفسطاط في العصر الفاطمي، بل كانت تطبخ في قصور الخلافة، وتُعدُّ من لحم الضأن أو البقر، ولم تكن تتطلّب مكوّنات فاخرة أو بهارات. وهي بالطبع لا علاقة لها بـ"الهريسة" الحلوة التي يأكلها المصريون في زماننا الحالي. ومن القمح أيضاً كانت تصنع حلوى "النَّيدة"، وكان لونها أحمر يميل إلى السواد. ويقول ابن سعيد المغربي: ولا تصنع النيدة –وهي حلاوة القمح- إلا بالقاهرة والديار المصريّة. والغريب أن "النيدة" لم تُذكر في كتب الطبخ التراثيّة، وربما يرجع ذلك إلى ارتباطها بالمزارعين والفقراء عموماً، تقول باولينا في دراستها.

2- الأرز

ويُعدّ من الأطعمة الفاخرة التي ميّزتْ موائد الطبقة الأرستقراطيّة، وعُرف في مصر مع الفتح العربي، وفي القرن العاشر الميلادي كان يُزرع في الفيوم وصعيد مصر، ولكنه بعد ذلك صار من محاصيلها الأساسيّة مع القمح والفول والشعير، بحسب ما جاء في مصادر متعدّدة، كـ"وصف إفريقيا" لليون الإفريقي ، و"الفضائل الباهرة" لابن ظهيرة. وكان القاهريون يطهون الأرز بطرق مختلفة، ومنها: اللَّبَنيَّة: وتُعمل من اللحم والكرّاث أو البصل واللبن والأرز المسحوق. المُهلبيّة أو البهطّة: وتصنع من الأرز واللحم المسلوق السمين والكزبرة، وأعواد من القرفة والسكر. وبالطبع يختلف ذلك تماماً عن حلوى المهلبيّة الموجودة الآن. الأرز المفلفل: وهو أشهر أنواع الطبخات للأرز، وذكرته أغلب كتب الطبخ التراثيّة التي اعتمدت عليها الدراسة كـ"الطبيخ" لمحمد بن الحسن الكاتب البغدادي، و"الطبيخ وإصلاح الأغذية" لابن سيار الوراق، و"كنز الفوائد في تنويع الموائد" لمؤلف مجهول، و"الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب" لكمال الدين بن العديم. ويتكوّن "الأرز المفلفل" من لحم ودهن كثير، وأرز، ومستكة (مصطكاء)، وقرفة وحمص، ومنهم من كان يصبغه بالزعفران ليأخذ اللون الأصفر. المأمونيّة: وتُنسب إلى الخليفة العباسي المأمون، وعُرفت في المطابخ السلطانيّة في مصر خلال عهود مختلفة، بحسب ما ذكر خليل الظاهري في "زبدة كشف الممالك". الخيطيّة: وتعرف كذلك بهريسة الأرز. وكذلك يذكر الظاهري أصناف "النرجسيّة، الفقاعيّة، السمّاقيّة". أما أصناف الحلوى التي يدخل الأرز في إعداد فلم تكن كثيرة، وأشهرها "الأرز باللبن".

3- اللحوم

اشتهرت القاهرة في العصور الوسطى بأنواع مختلفة من أطباق اللحوم، منها: الزيرباج، المضيرة، النارنجيّة، المتوكليّة، الرخاميّة، العدسيّة.

مصادر اللحوم تعدّدت وفقاً لمصادرها المتعدّدة بين "الضأن، الماعز، البقر، الجمال، الجاموس". ولم تذكر الباحثة أي نوع من اللحم يفضّل دخوله في أصناف معينة، حيث كان لحم الضأن هو الشائع، ولكنها مع طبخات قليلة تذكر نوع اللحم، مثل: التنوريّة: حيث يفضّل لحم العجل. الهريسة: ويفضل معها لحم البقر. القمحيّة: ويفضل معها الضأن وإن لم يوجد فلحم البقر. وبشكل عام كان إعداد اللحوم يتمُّ بطرق مختلفة، وأشهرها: السلق، القلي، الشوي. وأغلب الأطباق في كتب الطبخ ترتكز على نوعين من اللحم المسلوق، وهما: الحوامض، والسواذج. حيث يُقطّع اللحم إلى قطع صغيرة، ويوضع في قدر من الماء مع ملح وأشياء أخرى تسلق معه. وبشكل عام اشتهرت من أطباق اللحوم أنواع: الزيرباج، المضيرة، النارنجيّة، المتوكليّة، الرخاميّة، العدسيّة.

4- الطيور والبيض

كان القاهريون بمختلف طوائفهم يفضّلون لحوم الطيور، وكان لها مكان دائم على موائد الخلفاء الفاطميين. ويصف ابن الطوير في "نزهة المقلتين" سماط (مائدة) رمضان الفاطميّة، قائلاً: "ويعمر داخل ذلك السماط –على طوله- بأحد وعشرين طبقاً، في كل طبق أحد وعشرون خروفاً ثنياً سميناً مشوياً، ومع كل الدجاج والفراريج وفراخ الحمام ثلاث مائة وخمسون طائراً". ويبدو ما ذكره ابن الطوير متواضعاً أمام ما ذكره المقريزي في خططه عن مائدة السلطان المملوكي الظاهر برقوق، حيث يقول: "كان فيها من اللحم عشرون ألف رطل، ومائتا زوج أوز، وألف طائر من الدجاج". أما البيض فكان يعرف بطريقة طهيه (المقلي، المسلوق، المطجّن، المخلّل، المصوص). وكذلك كان يدخل في أطعمة أخرى، كتزيين أطباق اللحم والدجاج، أو "العجّة" التي لا زالت من الأطعمة المصريّة إلى اليوم، بالإضافة إلى "المبعثرة" بأنواعها، كالمبعثرة "بالبصل، باللحم، الحامضة، الصفراء، والساذجة".

5- الأسماك

يبدو أن أطباق الأسماك لم تكن لها مكانة كبيرة بين الأطعمة العربيّة في العصور الوسطى، فمن بين المصادر لم يرد ذكر الأسماك بين أطعمة الطبقات الحاكمة في القاهرة- بحسب الدراسة- ولكن كان هناك حوالي ٣٠ نوعاً من الأسماك تؤكل في القاهرة، ومنها: الراي السنباطي، المقصب، اللبيس، التون، البوري الطري، البوري المنقور، البلطي، الحوت، القرموط، قشر البياض، الأبسارية، ومن جزيرة تنيس أمام ساحل بورسعيد الحالي، ومن سواحل دمياط: البني، الرعاد، الطوبار، الشوق، الفسيخ، الطريخ، القونس، الطريخ، الدلّينس (وكان من المأكولات التي منعها الحاكم بأمر الله)، البطارخ. أما طرق طهي الأسماك، فكانت إما التمليح، أو القلي، أو التسوية في "طاجن"، أو الشوي. ولم يكن القاهريون يستخدمون بهارات كثيرة في إعدادها.

6- الألبان ومنتجاتها

من انطباعات ليون الإفريقي عن المصريين، أنهم يستعملون كثيراً من الحليب والجبن الطري، واللبن الحامض، واللبن الذي يخثّرونه بوسائلهم الخاصة. كذلك يذكر أنهم يملّحون جُبنهم فلا يستطيع الغريب عنهم أن يأكله. وتعلق الباحثة على ملاحظة ليون، معتبرة أن ما ذكره ينطبق أكثر على سكان الريف لا على القاهريين (وهو أمر واقع حتى اليوم في مصر)، ولكن كان القاهريون وسكّان الحضر عموماً يشاركون الريفيين في إضافة اللبن الحامض على أطعمتهم، ومن أشهر هذه الأطعمة "الكِشْك"، ويُعمل من القمح المسحوق واللبن الحامض. ويذكر أحمد الحجار في "الحرب المعشوق" ما يقرب من ٣٠ نوعاً من منتجات الألبان كان يستخدمها القاهريون، ومنها: "الجبن المقدسي، العشبي، الجاموسي، جبن الريف (الفلّاحي)، الغنمي، المقلي، المشوي، الصقلي، الشامي". ونلاحظ أن من بين الأصناف المقدسي، والصقلي، والشامي، وفقا للبلاد التي كان يأتي منها. أما أشهر منتجات الألبان المصريّة المنتجة محلياً، فكانت "الجاموسي" أو "الخيش"، التي يصنعها الفلاحون وتأكله جميع الطبقات، ولكنه كان متاحاً للفقراء الفلاحين أكثر، باعتبار أنهم يصنعونه بأنفسهم، وكانوا يعتمدون عليه في طعامهم بشكل أساسي. وشاع في محلات الطعام القاهريّة الجبن المقلي، الذي أقبلت عليه كل الطبقات، بمن فيها طبقة الحكام، حتى أن السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون كان مغرماً به، ويطلبه كل ليلة مع الوجبات الخفيفة الأخرى، بحسب ما ذكر العمري في "مسالك الأبصار".

7- الخضروات والبقول والفاكهة

أولا: الخضروات والبقوليات: من أنواع الخضروات بمصر التي يذكرها الكندي في "فضائل مصر": الخصّ، الجلبان"، وتنقل باولينا عن علي بن رضوان الطبيب الشهير أنواع أخرى، هي: الخيار، القثاء أو الكوسة (على أنواعها)، السلق، الجزر، اللفت، الكرفس، الكراث، الفجل، القلقاس، الباقلّاء (الفول)، الثوم، البصل. كما تنقل الباحثة قائمة أخرى عن ابن رضوان، وهي: الزيتون، الباذنجان، اللوبيا، الكرنب، القُنَّبيط. ويضيف الطبيب البغدادي: الملوخية، الجرجير، البامية.  وأكّد ابن فضل الله العمري على ما سبق، وأضاف إليه "الحمّص، والبسلة". أما أشهر هذه الخضروات فكانت "الملوخيّة" التي كانت لها شعبية كبيرة بين العوام، ومنعها الحاكم بأمر الله عنهم، بدعوى أنها كانت الطعام المفضّل لمعاوية بن أبي سفيان. ومعظم هذه الخضروات كانت تزرع في مصر منذ الأزمنة القديمة، ولكن بعضها دخل مصر بعد دخول العرب مثل القلقاس والباذنجان والسلق، بحسب الدراسة.

ثانيا: الفواكه

في بعض الأحيان كان اسم الطبق يؤخذ من لونه، كالمشمشيّة التي كانت تُعدّ من غير المشمش، ولكن إضافة الزعفران لها وتحويلها إلى اللون الأصفر الغامق، جعل أهل القاهرة يطلقون عليها المشمشيّة.

أما الفاكهة في أسواق القاهرة فكانت متنوّعة، ومنها: التفّاح، الكُمّثرى، التين، أنواع مختلفة من البطيخ، ولكن كان "الجِمّيز" الشائع لدى المصريين. يقول عبداللطيف البغدادي: وهو بمصر كثير جداً وقد يوجد منه شيء شديد الحلاوة أحلى من التين. وعرفت في القاهرة أيضاً فواكه: السفرجل، البرقوق، الإجاص، التوت، الرمان، الخوخ، العنب، المشمش، البلح، الموز، النبق. ولا زال "الجمّيز" و"التوت" شائعان في الريف المصري (في زمننا الحالي)، حتى أنهما لا يباعان هناك؛ فأشجارهما مزروعة في الطرقات الزراعيّة، ومتروكة على المشاع لمن يريد أن يأكل منها. الحمضيات أيضاً كانت كثيرة، ومنها: الكباد أو الأترج، والليمون، ولم تعرف مصر "اليوسفي" إلا في عهد محمد علي (١٨٠٥: ١٨٤٨م). وكانت الفاكهة تدخل في أطباق كثيرة، مثل: التمريّة، الليمونيّة، التمرهنديّة، الزبيبيّة، الموزيّة، العنابيّة، الرطبيّة، النارنجيّة، المشمشيّة، السفرجليّة، التفاحيّة، الخوخيّة. هذه الأطباق كانت تحتوي على كميات كبيرة من اللحوم أو الدجاج المسلوق، وما يثير الغرابة أنها عرفت بأسماء الفاكهة التي تدخل فيها، دون أن توضح كتب الطبخ كيفية دخول الفاكهة بها، ويبدو أن وظيفة الفاكهة في هذه الأطباق اقتصرت على تزيينها، تقول باولينا. وتضيف أنه في بعض الأحيان كان اسم الطبق يؤخذ من لونه، كالمشمشيّة التي كانت تُعدّ من غير المشمش، ولكن إضافة الزعفران لها وتحويلها إلى اللون الأصفر الغامق، جعلهم يطلقون عليها المشمشيّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق