الأستاذ / محمد محمد السنباطى
شاعر وكاتب ومترجم مصريّ. درس الفلسفة والترجمة، وعمل في تدريس اللغة الفرنسيّة. صدر له: شمس الطفولة طفولة الشمس، موسيقا النار (شعر)، إسكندريّة شرقًا وغربًا (رواية)، ضحكات الخريف (فازت بالجائزة الأولى من نادي القصة بالقاهرة عن عام 2008)، عشيقة عرابي (رواية، 2009)، خطّ النار ممتدّ (فازت بالجائزة الأولى في القصة الطويلة من نادي القصة بالقاهرة 1997)، محطّة المنصورة (رواية، 2016)، في البحث عن الزمن المفقود (ترجمة، 2012)، أنهار الدم ( 2012).
تكالبت عليه الأمراض فجأة. أكثرَ من الذهاب إلى الأطباء وأرهقته التحاليل والأشعات. خضع مرغمًا لبعض العمليات الجراحية. الزمن عدو الإنسان الذي لا يقهر. الشيخوجة سجنٌ ينفتح على بوابة الموت. النشاط الروحي الذي كان يمارسه قديما يتبدى له وراء عينين غائمتين. ولم يتبق معه من مال سوى مبلغ لن يفي بالعمليات الجراحية الأخرى. هذا مؤكد.
يزوره أولاده وأزواجهم وأطفالهم وأحيانًا أحفاده وأطفالهم! لا يكاد يتعرف على وجوه الأجيال الصاعدة. يلهون أمام عينيه بشقاوة مرحة. يتابعهم شاردًا وأحيانًا يبتسم لألاعيبهم البهلوانية. يسأله الأبناء إن كان يحتاج شيئًا. يأخذون الضوضاء معهم عائدين إلى بيوتهم. هدوءٌ ثقيلٌ يحطُّ على المكان. أوجاع تستيقظ. الروح صحيحة سالمة لكنَّ الجسدَ مشحونٌ بالمؤامرات. المرض الذي انكشف أمره منذ أشهر قليلة يحتاج إلى أموال طائلة وإلى جسد يتحمل الوجع الثقيل. وصلته كمية من الكركمين كهدية فوضع فيه ثمالة ثقته. معه بعض بقايا المال لكن ذلك لا يفي بالغرض الآخر. قرر أن ينشغل بشيء كان يفكر فيه من زمن ونسيه سنوات. يتساءل أحيانًا ما الذي يجعلنا نفكر في الموت. أليست الحياة أجدر بالتفكير؟ كل يوم يذهب إلى السوق ويشتري الطعام ويخدم نفسه بهدوء ولكن بثقة. انتصف العقد الثمانيني أو كاد لكنْ ما يزال لديه وقت ليفعل شيئًا كان يجب فعله من زمن.
- تلزمني أشياء بسيطة!، قال في نفسه وكتب في ورقة:
مواسير بلاستيكية طويلة. ربما خمس مواسير لا يقل طول الواحدة عن خمسة أمتار. وأيضًا موتور كهرباء، ألواح خشبية عريضة، قطع فيلين ضخمة...
- لماذا لم تخطر هذه الفكرة على بال أحدٍ فينفذها؟ سأل نفسه.
عقد العزم...
- سأستخرج ماءً مقطرًا من الهواء، هكذا فكَّرَ.
أقل طعام يكفيه. صدر الدجاجة يأكل منه ثلاثة أيام. كل وجبة عشاء قطعة صغيرة. الخبزُ الجاف يحتاجُ إلى بلل، أو فليَفُتَّهُ في اللبن. هذا أفضل. اشترَى ألواحَ الخشبِ وَجَمَعَها متجاورة وَثبَّتَ فيها الفلين. يريد أن يَهرشَ مَكانَ الثقب الذي حَفَرَهُ الطبيب في أعلى ظهره ليشفط السوائل التي كانت تملأ رئتيه. يومها ملأ بها زجاجتين كبيرتين عكرتين. رآهما فدمعت عيناه. والمواسير البلاستيكية الطويلة اشترى منها خمسة أعواد. ستقولون إن الموتور يحتاج إلى كهرباء كي يعمل. اشترى أربعة ألواح شمسية لتوليد الكهرباء. كل لوح 12 فولت. أسلاك كثيرة. اللوح بمئتي جنيه. صحَّ منه العزمُ ووجبَ التنفيذ. أوصى "بخاتي"، جارهم صاحب الكارو أن يأتيَ إليه في الثامنة صباحًا لينقل كل هذه الأشياء إلى النيل. سمعت أن أثيوبيا ستلجمه وتأمره بالركوع عند قدميها. تمامًا تحت كوبري كفر الزيات القديم. الكوبري غير بعيد ومع ذلك طلب "بخاتي" ستين جنيها للذهاب والعودة. طماع شره.
- مش كتير يا بخاتي؟
- خد بالك يا باشمهندس، كده يعتبر 4 مشاوير يوميًّا: ذهاب وعودة وذهاب وعودة وأنا راجل فاتح بيت وصاحب عيال!.
***
يضع بخاتي ألوح الخشب، والمواسير، وكوتونة الألواح الشمسية، والأشياء الأخرى فوق العربة، ويطلب من الباشمهندس الركوب.
- معرفش أطلع فوق الكارو
- أشيلك، بس خد بالك لتقع واحنا بنجري!
- وتجري ليه؟، يصيح به.
وتتقلقل بهما العربة دقائق حتى الوصول إلى الكوبري فيقوم "بخاتي" بإنزال الأشياء
- هيا يا عم الحاج انزل
- زي ما طلعتني نزلني، وساعدني ننصب العوامة فوق المايه.
- عشرين زيادة
- مش كتير؟
- فهمني سرك وأنا متنازل عن العشرين دي
- أنا عاوز أعمل هنا محطة وأجيب مايه مكررة من الهوا!
- من الهوا؟ بس المايه قدامك كتيرة والحمد لله. النيل مليان. تكونش خايف من سد الحبشة؟
- أنا عاوز مايه مكرره يا بخاتي. زي ماية المطر كده ويمكن أحسن.
- خلاص، اعمل مشروعك في الصحرا عشان يبقى مفيد
- مانتاش فاهم
- فهمني
- الهوا اللي فوق الماية مباشرة يبقى فيه مايه أكتر، واحنا لسا فمرحلة التجارب.
ويمسك بخاتي يده حتى يركب فوق العوامة الخشبية المحمولة على الفلين ويناوله أشياءه، ويبدأ في إنزال الماسورة البلاستيكية إلى قاع النهر، وبخاتي على الشط يرقبه لا يريد أن يتحرك حتى يرى جانبًا من الفيلم!. النيلُ عميقٌ جدًّا في هذه المنطقة. يقف "بخاتي" مبهورًا ينتظر لحظات ثم يهم بالانطلاق صاعدًا طريق الجسر لكنه يتمهل مرة أخرى ليرى. يفرد الباشمهندس الألواح الشمسية ويلف السلك العريان بالشكيرتون.
- انت منزل الماسورة للقعر ليه؟ يأتيه السؤال من على البر.
- عشام الماية اللي تحت بتكون باردة جدًّا. أنا محتاج البرودة دي.
- أنا ما فهمتش حاجة
- مش مهم تفهم
- عشرين زيادة ومش متنازل عنها.
***
الصيادون يتابعون ما يجري من بعيد لبعيد ولا يفهمون شيئًا! في اليوم الأول سقطت إحدى المواسير في قعر النيل فتعطل العمل. طلب الباشمهندس من أحد الصيادين مساعدته في إخراجها فامتنع. وفي المساء جاء بخاتي بالكارو فوجده متربعًا على العوامة وبعض الفلاحين الذين جاءيون جواميسهم من النيل يتحدثون معه. كان يبدو مستوفزًا وكأنما يمارس اليوجا على الماء. قال أحدهم:
- كنا خايفين عليك تغرق يا عم الحاج
لا يرد على أحد. كأنما يعيش في عالم آخر. وفي الأفق احمرَّ السحاب. ظهر بخاتى ونادى بأعلى صوته: يا باشمهندييييييس!
حملت العربة حمولتها وشقت طريقها عائدة وقد أعطت ظهرها للكوبري. أكد عليه:
- بكره ف نفس المعاد يا بخاتي
- تاني؟ انت بترتعش زي قشاية فوق سطح المايه
- يمكن عشان ماخدتش الدوا. سبته هناك في البيت.
- نسيته؟
- لا مانسيتوش. أسبوع تجارب وربك يسهل إن شاء الله. الأعمال العظيمة يلزمها جهد عظيم.
- ومن الصبح ما أكلتش؟
- كان معايا بيضة كسرتها وشربتها
- هي البيضة المسلوقة بتنشرب؟
- ماكانتش مسلوقة. كانت بحالتها زي ما نزلت من طيز الفرخة.
يقهقه بخاتي وينهال بالعصا على ظهر الحمار.
واستؤنفت التجارب أيامًا بعد ذلك وبخاتي يأخذ والمال يقل، ومع ذلك لا يتوقف الباشمهندس عن مراودة الأمل. أوقف كل الأدوية حتى يستطيع دفع التكاليف. الكركمين الهدية وحده هو الذي يحارب الآن. اجتمع الصيادون وذهبوا لشقيقه وتوسلوا إليه أن ينقذهم فشقيقه يقوم بإنشاء محطة غريبة ستجعل عين الشرطة على المكان وقد تجر رجلهم إلى ما لا تحمد عقباه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق